الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وهو يَعِظُهُ يابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ عَطْفٌ عَلى مَعْنى ما سَبَقَ وتَقْدِيرُهُ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ حِينَ جَعَلْناهُ شاكِرًا في نَفْسِهِ وحِينَ جَعَلْناهُ واعِظًا لِغَيْرِهِ وهَذا لِأنَّ عُلُوَّ مَرْتَبَةِ الإنْسانِ بِأنْ يَكُونَ كامِلًا في نَفْسِهِ ومُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿أنِ اشْكُرْ﴾ إشارَةٌ إلى الكَمالِ، وقَوْلُهُ: ﴿وإذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وهو يَعِظُهُ﴾ إشارَةٌ إلى التَّكْمِيلِ، وفي هَذا لَطِيفَةٌ وهي أنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لُقْمانَ وشَكَرَ سَعْيَهُ حَيْثُ أرْشَدَ ابْنَهُ لِيُعْلَمَ مِنهُ فَضِيلَةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - الَّذِي أرْشَدَ الأجانِبَ أنَّ اللَّهَ ذَكَرَ لُقْمانَ وشَكَرَ سَعْيَهُ حَيْثُ أرْشَدَ ابْنَهُ لِيُعْلَمَ مِنهُ فَضِيلَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِي أرْشَدَ الأجانِبَ والأقارِبَ، فَإنَّ إرْشادَ الوَلَدِ أمْرٌ مُعْتادٌ، وأمّا تَحَمُّلُ المَشَقَّةِ في تَعْلِيمِ الأباعِدِ فَلا، ثُمَّ إنَّهُ في الوَعْظِ بَدَأ بِالأهَمِّ وهو المَنعُ مِنَ الإشْراكِ وقالَ: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ أمّا أنَّهُ ظُلْمٌ فَلِأنَّهُ وضْعٌ لِلنَّفْسِ الشَّرِيفِ المُكَرَّمُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠] في عِبادَةِ الخَسِيسِ أوْ لِأنَّهُ وضْعُ العِبادَةِ في غَيْرِ مَوْضِعِها وهي غَيْرُ وجْهِ اللَّهِ وسَبِيلِهِ، وأمّا أنَّهُ عَظِيمٌ فَلِأنَّهُ وُضِعَ في مَوْضِعٍ لَيْسَ مَوْضِعَهُ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْضِعَهُ؛ وهَذا لِأنَّ مَن يَأْخُذُ مالَ زَيْدٍ ويُعْطِي عَمْرًا يَكُونُ ظُلْمًا مِن حَيْثُ إنَّهُ وضَعَ مالَ زَيْدٍ في يَدِ عَمْرٍو، ولَكِنْ جائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِلْكَ عَمْرٍو أوْ يَصِيرَ مِلْكَهُ بِبَيْعٍ سابِقٍ أوْ بِتَمْلِيكٍ لاحِقٍ، وأمّا الإشْراكُ فَوَضْعُ المَعْبُودِيَّةِ في غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَعْبُودًا أصْلًا. (p-١٢٩)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهْنًا عَلى وهْنٍ وفِصالُهُ في عامَيْنِ أنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيرُ﴾ لَمّا مَنَعَهُ مِنَ العِبادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ، والخِدْمَةُ قَرِيبَةٌ مِنها في الصُّورَةِ بَيَّنَ أنَّها غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ، بَلْ هي واجِبَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ مِثْلُ خِدْمَةِ الأبَوَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ فَقالَ: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ يَعْنِي لِلَّهِ عَلى العَبِيدِ نِعْمَةُ الإيجادِ ابْتِداءً بِالخَلْقِ، ونِعْمَةُ الإبْقاءِ بِالرِّزْقِ، وجَعَلَ بِفَضْلِهِ لِلْأُمِّ ما لَهُ صُورَةُ ذَلِكَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَها حَقِيقَةً، فَإنَّ الحَمْلَ بِهِ يَظْهَرُ الوُجُودُ، وبِالرَّضاعِ يَحْصُلُ التَّرْبِيَةُ والبَقاءُ فَقالَ: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ أيْ صارَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سَبَبَ وُجُودِهِ. ﴿وفِصالُهُ في عامَيْنِ﴾ أيْ صارَتْ بِقُدْرَتِهِ أيْضًا سَبَبَ بَقائِهِ، فَإذا كانَ مِنها ما لَهُ صُورَةُ الوُجُودِ والبَقاءِ، وجَبَ عَلَيْهِ ما لَهُ شِبْهُ العِبادَةِ مِنَ الخِدْمَةِ، فَإنَّ الخِدْمَةَ لَها صُورَةُ العِبادَةِ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: وصّى اللَّهُ بِالوالِدَيْنِ، وذَكَرَ السَّبَبَ في حَقِّ الأُمِّ فَنَقُولُ: خَصَّ الأُمَّ بِالذِّكْرِ وفي الأبِ ما وُجِدَ في الأُمِّ؛ فَإنَّ الأبَ حَمَلَهُ في صُلْبِهِ سِنِينَ، ورَبّاهُ بِكَسْبِهِ سِنِينَ، فَهو أبْلَغُ، وقَوْلُهُ: ﴿أنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ﴾ لَمّا كانَ اللَّهُ تَعالى بِفَضْلِهِ جَعَلَ مِنَ الوالِدَيْنِ صُورَةَ ما مَنَّ اللَّهُ، فَإنَّ الوُجُودَ في الحَقِيقَةِ مِنَ اللَّهِ، وفي الصُّورَةِ يَظْهَرُ مِنَ الوالِدَيْنِ - جَعَلَ الشُّكْرَ بَيْنَهُما، فَقالَ: ﴿أنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ﴾، ثُمَّ بَيَّنَ الفَرْقَ، وقالَ: ﴿إلَيَّ المَصِيرُ﴾ يَعْنِي نِعْمَتُهُما مُخْتَصَّةٌ بِالدُّنْيا ونِعْمَتِي في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَإنَّ إلَيَّ المَصِيرَ، أوْ نَقُولُ: لَمّا أمَرَ بِالشُّكْرِ لِنَفْسِهِ ولِلْوالِدَيْنِ قالَ: الجَزاءُ عَلَيَّ وقْتَ المَصِيرِ إلَيَّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب