الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهم ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أيْ لا يُطْلَبُ مِنهُمُ الإعْتابُ وهو إزالَةُ العَتْبِ يَعْنِي: التَّوْبَةُ الَّتِي تُزِيلُ آثارَ الجَرِيمَةِ لا تُطْلَبُ مِنهم؛ لِأنَّها لا تُقْبَلُ مِنهم. (p-١٢١)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ولَئِنْ جِئْتَهم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ أنْتُمْ إلّا مُبْطِلُونَ﴾ قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ إشارَةٌ إلى إزالَةِ الأعْذارِ والإتْيانِ بِما فَوْقَ الكِفايَةِ مِنَ الإنْذارِ، وإلى أنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِن جانِبِ الرَّسُولِ تَقْصِيرٌ، فَإنْ طَلَبُوا شَيْئًا آخَرَ فَذَلِكَ عِنادٌ، ومَن هانَ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ دَلِيلٍ لا يَصْعُبُ عَلَيْهِ تَكْذِيبُ الدَّلائِلِ، بَلْ لا يَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ أنْ يَشْرَعَ في دَلِيلٍ آخَرَ بَعْدَما ذَكَرَ دَلِيلًا جَيِّدًا مُسْتَقِيمًا ظاهِرًا لا غُبارَ عَلَيْهِ وعانَدَهُ الخَصْمُ؛ لِأنَّهُ إمّا أنْ يَعْتَرِفَ بِوُرُودِ سُؤالِ الخَصْمِ عَلَيْهِ أوْ لا يَعْتَرِفُ، فَإنِ اعْتَرَفَ يَكُونُ انْقِطاعًا وهو يَقْدَحُ في الدَّلِيلِ أوِ المُسْتَدِلِّ، إمّا بِأنَّ الدَّلِيلَ فاسِدٌ، وإمّا بِأنَّ المُسْتَدِلَّ جاهِلٌ بِوَجْهِ الدَّلالَةِ والِاسْتِدْلالِ، وكِلاهُما لا يَجُوزُ الِاعْتِرافُ بِهِ مِنَ العالِمِ فَكَيْفَ مِنَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، وإنْ لَمْ يَعْتَرِفْ يَكُونُ الشُّرُوعُ في غَيْرِهِ مُوهِمًا أنَّ الخَصْمَ لَيْسَ مُعانِدًا فَيَكُونُ اجْتِراؤُهُ عَلى العِنادِ في الثّانِي أكْثَرَ؛ لِأنَّهُ يَقُولُ: العِنادُ أفادَ في الأوَّلِ حَيْثُ التَزَمَ ذِكْرَ دَلِيلٍ آخَرَ. فَإنْ قِيلَ: فالأنْبِياءُ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - ذَكَرُوا أنْواعًا مِنَ الدَّلائِلِ، نَقُولُ سَرَدُوها سَرْدًا، ثُمَّ قَرَّرُوها فَرْدًا فَرْدًا، كَمَن يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ كَذا، والثّانِي كَذا، والثّالِثُ كَذا، وفي مِثْلِ هَذا الواجِبِ عَدَمُ الِالتِفاتِ إلى عِنادِ المُعانِدِ؛ لِأنَّهُ يَزِيدُهُ بِعِنادِهِ حَتّى يَضِيعَ الوَقْتُ فَلا يَتَمَكَّنُ المُسْتَدِلُّ مِنَ الإتْيانِ بِجَمِيعِ ما وعَدَ مِنَ الدَّلائِلِ فَتَنْحَطُّ دَرَجَتُهُ، فَإذَنْ لِكُلِّ مَكانٍ مَقالٌ. وإلى هَذا وقَعَتِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَئِنْ جِئْتَهم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ أنْتُمْ إلّا مُبْطِلُونَ﴾ وفي تَوْحِيدِ الخِطابِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَئِنْ جِئْتَهُمْ﴾ والجَمْعِ في قَوْلِهِ: ﴿إنْ أنْتُمْ﴾ لَطِيفَةٌ وهي أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ولَئِنْ جِئْتَهم بِكُلِّ آيَةٍ جاءَتْ بِها الرُّسُلُ ويُمْكِنُ أنْ يُجاءَ بِها يَقُولُونَ أنْتُمْ كُلُّكم أيُّها المُدَّعُونَ لِلرِّسالَةِ مُبْطِلُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ ذَلِكَ بِطَبْعِ اللَّهِ عَلى قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ فَإنْ قِيلَ مَن لا يَعْلَمُ شَيْئًا أيَّةُ فائِدَةٍ في الإخْبارِ عَنِ الطَّبْعِ عَلى قَلْبِهِ ؟ نَقُولُ: المَعْنى هو أنَّ مَن لا يَعْلَمُ الآنَ فَقَدْ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قَلْبِهِ مِن قَبْلُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى سَلّى قَلْبَ النَّبِيِّ ﷺ بِقَوْلِهِ: ﴿فاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أيْ أنَّ صِدْقَكَ يُبَيَّنُ، وقَوْلُهُ: ﴿ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾ إشارَةٌ إلى وُجُوبِ مُداوَمَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَلى الدُّعاءِ إلى الإيمانِ، فَإنَّهُ لَوْ سَكَتَ لَقالَ الكافِرُ إنَّهُ مُتَقَلِّبُ الرَّأْيِ، لا ثَباتَ لَهُ. واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ. وإلَيْهِ المَرْجِعُ والمَآبُ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وصَلاتُهُ عَلى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ وآلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب