الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ أرْسَلْنا رِيحًا فَرَأوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ﴾ ﴿فَإنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ ﴿وما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهم مُسْلِمُونَ﴾
لَمّا بَيَّنَ أنَّهم عِنْدَ تَوَقُّفِ الخَيْرِ يَكُونُونَ مُبْلِسِينَ آيِسِينَ، وعِنْدَ ظُهُورِهِ يَكُونُونَ مُسْتَبْشِرِينَ، بَيَّنَ أنَّ تِلْكَ الحالَةَ أيْضًا لا يَدُومُونَ عَلَيْها، بَلْ لَوْ أصابَ زَرْعَهم رِيحٌ مُصْفَرٌّ لَكَفَرُوا فَهم مُنْقَلِبُونَ غَيْرُ ثابِتِينَ لِنَظَرِهِمْ إلى الحالِ لا إلى المَآلِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ في الآيَةِ الأُولى ﴿يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ عَلى طَرِيقَةِ الإخْبارِ عَنِ الإرْسالِ، وقالَ هاهُنا: ﴿ولَئِنْ أرْسَلْنا﴾ لا عَلى طَرِيقَةِ الإخْبارِ عَنِ الإرْسالِ؛ لِأنَّ الرِّياحَ مِن رَحْمَتِهِ وهي مُتَواتِرَةٌ، والرِّيحُ مِن عَذابِهِ (p-١١٨)وهُوَ تَعالى رَءُوفٌ بِالعِبادِ يُمْسِكُها، ولِذَلِكَ نَرى الرِّياحَ النّافِعَةَ تَهُبُّ في اللَّيالِي والأيّامِ في البَرارِي والآكامِ، ورِيحُ السَّمُومِ لا تَهُبُّ إلّا في بَعْضِ الأزْمِنَةِ وفي بَعْضِ الأمْكِنَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: سَمّى النّافِعَةَ رِياحًا والضّارَّةَ رِيحًا لِوُجُوهٍ.
أحَدُها: النّافِعَةُ كَثِيرَةُ الأنْواعِ كَثِيرَةُ الأفْرادِ فَجَمَعَها، فَإنَّ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ تَهُبُّ نَفَحاتٌ مِنَ الرِّياحِ النّافِعَةِ، ولا تَهُبُّ الرِّيحُ الضّارَّةُ في أعْوامٍ، بَلِ الضّارَّةُ في الغالِبِ لا تَهُبُّ في الدُّهُورِ.
الثّانِي: هو أنَّ النّافِعَةَ لا تَكُونُ إلّا رِياحًا، فَإنَّ ما يَهُبُّ مَرَّةً واحِدَةً لا يُصْلِحُ الهَواءَ ولا يُنْشِئُ السَّحابَ ولا يُجْرِيَ السُّفُنَ، وأمّا الضّارَّةُ بِنَفْحَةٍ واحِدَةٍ تَقْتُلُ كَرِيحِ السَّمُومِ.
الثّالِثُ: هو أنَّ الرِّيحَ المُضِرَّةَ إمّا أنْ تَضُرَّ بِكَيْفِيَّتِها أوْ بِكَمِّيَّتِها، أمّا الكَيْفِيَّةُ فَهي إذا كانَتْ حارَّةً أوْ مُتَكَيِّفَةً بِكَيْفِيَّةِ سُمٍّ، وهَذا لا يَكُونُ لِلرِّيحِ في هُبُوبِها وإنَّما يَكُونُ بِسَبَبِ أنَّ الهَواءَ السّاكِنَ في بُقْعَةٍ فِيها حَشائِشُ رَدِيئَةٌ أوْ في مَوْضِعٍ غائِرٍ وهو حارٌّ جِدًّا، أوْ تَكُونُ مُتَكَوِّنَةً في أوَّلِ تَكَوُّنِها كَذَلِكَ، وكَيْفَما كانَ فَتَكُونُ واحِدَةً؛ لِأنَّ ذَلِكَ الهَواءَ السّاكِنَ إذا سُخِّنَ ثُمَّ ورَدَ عَلَيْهِ رِيحٌ تُحَرِّكُهُ وتُخْرِجُهُ مِن ذَلِكَ المَكانِ فَتَهُبُّ عَلى مَواضِعَ كاللَّهِيبِ، ثُمَّ ما يَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ مِن ذَلِكَ المَكانِ لا يَكُونُ حارًّا ولا مُتَكَيِّفًا؛ لِأنَّ المُكْثَ الطَّوِيلَ شَرْطُ التَّكَيُّفِ، ألا تَرى أنَّكَ لَوْ أدْخَلْتَ إصْبَعَكَ في نارٍ، وأخْرَجْتَها بِسُرْعَةٍ لا تَتَأثَّرُ، والحَدِيدُ إذا مَكَثَ فِيها يَذُوبُ، فَإذا تَحَرَّكَ ذَلِكَ السّاكِنُ وتَفَرَّقَ لا يُوجَدُ في ذَلِكَ الوَقْتِ غَيْرُهُ مِن جِنْسِهِ، وأمّا المُتَوَلِّدَةُ كَذَلِكَ فَنادِرَةٌ، ومَوْضِعُ نُدْرَتِها واحِدٌ. وأمّا الكَمِّيَّةُ فالرِّياحُ إذا اجْتَمَعَتْ وصارَتْ واحِدَةً صارَتْ كالخُلْجانِ، ومِياهُ العُيُونِ إذا اجْتَمَعَتْ تَصِيرُ نَهْرًا عَظِيمًا لا تَسُدُّهُ السُّدُودُ، ولا يُرُدُّهُ الجُلْمُودُ، ولا شَكَّ أنَّ في ذَلِكَ تَكُونُ واحِدَةً مُجْتَمِعَةً مِن كَثِيرٍ، فَلِهَذا قالَ في المُضِرَّةِ رِيحٌ وفي النّافِعَةِ رِياحٌ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا عَلَّمَ رَسُولَهُ أنْواعَ الأدِلَّةِ وأصْنافَ الأمْثِلَةِ ووَعَدَ وأوْعَدَ ولَمْ يَزِدْهم دُعاؤُهُ إلّا فِرارًا، وإنْباؤُهُ إلّا كُفْرًا وإصْرارًا، قالَ لَهُ: ﴿فَإنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في التَّرْتِيبِ، فَنَقُولُ: إرْشادُ المَيِّتِ مُحالٌ، والمُحالُ أبْعَدُ مِنَ المُمْكِنِ، ثُمَّ إرْشادُ الأصَمِّ صَعْبٌ؛ فَإنَّهُ لا يَسْمَعُ الكَلامَ وإنَّما يَفْهَمُ ما يَفْهَمُهُ بِالإشارَةِ لا غَيْرَ، والإفْهامُ بِالإشارَةِ صَعْبٌ، ثُمَّ إرْشادُ الأعْمى أيْضًا صَعْبٌ، فَإنَّكَ إذا قُلْتَ لَهُ الطَّرِيقُ عَلى يَمِينِكَ يَدُورُ إلى يَمِينِهِ، لَكِنَّهُ لا يَبْقى عَلَيْهِ بَلْ يَحِيدُ عَنْ قَرِيبٍ، وإرْشادُ الأصَمِّ أصْعَبُ، فَلِهَذا تَكُونُ المُعاشَرَةُ مَعَ الأعْمى أسْهَلَ مِنَ المُعاشَرَةِ مَعَ الأصَمِّ الَّذِي لا يَسْمَعُ شَيْئًا؛ لِأنَّ غايَةَ الإفْهامِ بِالكَلامِ، فَإنَّ ما لا يُفْهَمُ بِالإشارَةِ يُفْهَمُ بِالكَلامِ ولَيْسَ كُلُّ ما يُفْهَمُ بِالكَلامِ يُفْهَمُ بِالإشارَةِ، فَإنَّ المَعْدُومَ والغائِبَ لا إشارَةَ إلَيْهِما، فَقالَ أوَّلًا لا تُسْمِعُ المَوْتى، ثُمَّ قالَ ولا الأصَمَّ ولا تَهْدِي الأعْمى الَّذِي دُونَ الأصَمِّ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ في الصُّمِّ: ﴿إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ لِيَكُونَ أدْخَلَ في الِامْتِناعِ، وذَلِكَ لِأنَّ الأصَمَّ وإنْ كانَ يَفْهَمُ فَإنَّما يَفْهَمُ بِالإشارَةِ، فَإذا ولّى ولا يَكُونُ نَظَرُهُ إلى المُشِيرِ فَإنَّهُ يَسْمَعُ ولا يَفْهَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ في الأصَمِّ: ﴿ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ﴾ ولَمْ يَقُلْ في المَوْتى ذَلِكَ؛ لِأنَّ الأصَمَّ قَدْ يَسْمَعُ الصَّوْتَ الهائِلَ كَصَوْتِ الرَّعْدِ القَوِيِّ، ولَكِنَّ صَوْتَ الدّاعِي لا يَبْلُغُ ذَلِكَ الحَدَّ فَقالَ إنَّكَ داعٍ لَسْتَ بِمُلْجِئٍ إلى الإيمانِ والدّاعِي لا يُسْمِعُ الأصَمَّ الدُّعاءَ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ: ﴿وما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ﴾ أيْ لَيْسَ شُغْلُكَ هِدايَةَ العُمْيانِ كَما يَقُولُ القائِلُ: فُلانٌ لَيْسَ بِشاعِرٍ وإنَّما يَنْظِمُ بَيْتًا وبَيْتَيْنِ، أيْ لَيْسَ شُغْلُهُ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى﴾ نَفْيُ ذَلِكَ عَنْهُ، وقَوْلُهُ: (p-١١٩)﴿وما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ﴾ يَعْنِي لَيْسَ شُغْلُكَ ذَلِكَ، وما أُرْسِلْتَ لَهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهم مُسْلِمُونَ﴾ لَمّا نَفى إسْماعَ المَيِّتِ والأصَمِّ، وأثْبَتَ إسْماعَ المُؤْمِنِ بِآياتِهِ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ حَيًّا سَمِيعًا وهو كَذَلِكَ؛ لِأنَّ المُؤْمِنَ تَرِدُ عَلى قَلْبِهِ أمْطارُ البَراهِينِ، فَتُنْبِتُ في قَلْبِهِ العَقائِدَ الحَقَّةَ، ويَسْمَعُ زَواجِرَ الوَعْظِ فَتَظْهَرُ مِنهُ الأفْعالُ الحَسَنَةُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى خِلافِ مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ، فَإنَّهم قالُوا: اللَّهُ يُرِيدُ مِنَ الكُلِّ الإيمانَ، غَيْرَ أنَّ بَعْضَهم يُخالِفُ إرادَةَ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يُؤْمِنُ فَيُسْمِعُهُ النَّبِيُّ ﷺ ما يَجِبُ أنْ يَفْعَلَ، فَهم مُسْلِمُونَ مُطِيعُونَ كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ﴿قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [البقرة: ٢٨٥] .
{"ayahs_start":51,"ayahs":["وَلَىِٕنۡ أَرۡسَلۡنَا رِیحࣰا فَرَأَوۡهُ مُصۡفَرࣰّا لَّظَلُّوا۟ مِنۢ بَعۡدِهِۦ یَكۡفُرُونَ","فَإِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَاۤءَ إِذَا وَلَّوۡا۟ مُدۡبِرِینَ","وَمَاۤ أَنتَ بِهَـٰدِ ٱلۡعُمۡیِ عَن ضَلَـٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن یُؤۡمِنُ بِـَٔایَـٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ"],"ayah":"فَإِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَاۤءَ إِذَا وَلَّوۡا۟ مُدۡبِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق