الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَن يَشاءُ وهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿وعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمًّى وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَن يَشاءُ﴾ قَدَّمَ المَصْدَرَ عَلى الفِعْلِ حَيْثُ قالَ: ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ﴾ وقَدَّمَ الفِعْلَ عَلى المَصْدَرِ في قَوْلِهِ: ﴿وأيَّدَكم بِنَصْرِهِ﴾ وذَلِكَ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ هَهُنا بَيانُ أنَّ النُّصْرَةَ بِيَدِ اللَّهِ إنْ أرادَ نَصَرَ وإنْ لَمْ يُرِدْ لا يَنْصُرْ، ولَيْسَ المَقْصُودُ النُّصْرَةَ ووُقُوعَها والمَقْصُودُ هُناكَ إظْهارُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ بِأنَّهُ نَصَرَهُ، فالمَقْصُودُ هُناكَ الفِعْلُ ووُقُوعُهُ، فَقَدَّمَ هُناكَ الفِعْلَ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ مَصْدَرُهُ عِنْدَ اللَّهِ، والمَقْصُودُ هَهُنا كَوْنُ المَصْدَرُ عِنْدَ اللَّهِ إنْ أرادَ فَعَلَ فَقَدَّمَ المَصْدَرَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ ذَكَرَ مِن أسْمائِهِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ؛ لِأنَّهُ إنْ لَمْ يَنْصُرِ المُحِبَّ بَلْ سَلَّطَ العَدُوَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لِعِزَّتِهِ وعَدَمِ افْتِقارِهِ، وإنْ نَصَرَ المُحِبَّ فَذَلِكَ لِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ، أوْ نَقُولُ: إنْ نَصَرَ اللَّهُ المُحِبِّ فَلِعِزَّتِهِ واسْتِغْنائِهِ عَنِ العَدُوِّ ورَحْمَتِهِ عَلى المُحِبِّ، وإنْ لَمْ يَنْصُرِ المُحِبَّ فَلِعِزَّتِهِ واسْتِغْنائِهِ عَنِ المُحِبِّ، ورَحْمَتُهُ في الآخِرَةِ واصِلَةٌ إلَيْهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ﴾ يَعْنِي سَيَغْلِبُونَ وعَدَهُمُ اللَّهُ وعْدًا ووَعْدُ اللَّهِ لا خُلْفَ فِيهِ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ لا يَعْلَمُونَ وعْدَهُ وأنَّهُ لا خُلْفَ في وعْدِهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ يَعْنِي عِلْمُهم مُنْحَصِرٌ في الدُّنْيا وأيْضًا لا يَعْلَمُونَ الدُّنْيا كَما هي، وإنَّما يَعْلَمُونَ ظاهِرَها وهي مَلاذُها ومَلاعِبُها، ولا يَعْلَمُونَ باطِنَها وهي مَضارُّها ومَتاعِبُها ويَعْلَمُونَ وُجُودَها الظّاهِرَ، ولا يَعْلَمُونَ فَناءَها ﴿وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ والمَعْنى هم عَنِ الآخِرَةِ غافِلُونَ، وذُكِرَتْ هُمُ الثّانِيَةُ لِتُفِيدَ أنَّ الغَفْلَةَ مِنهم، وإلّا فَأسْبابُ التَّذَكُّرِ حاصِلَةٌ وهَذا كَما يَقُولُ القائِلُ لِغَيْرِهِ: غَفَلْتُ عَنْ أمْرِي، فَإذا قالَ هو: شَغَلَنِي فُلانٌ، فَيَقُولُ: ما شَغَلَكَ ولَكِنْ أنْتَ اشْتَغَلْتَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمًّى وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ﴾ لَمّا صَدَرَ مِنَ الكُفّارِ الإنْكارَ بِاللَّهِ عِنْدَ إنْكارِ وعْدِ اللَّهِ وعَدَمِ الخُلْفِ فِيهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ والإنْكارُ بِالحَشْرِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وهم عَنِ الآخِرَةِ هم غافِلُونَ﴾ بَيَّنَ أنَّ الغَفْلَةَ وعَدَمَ العِلْمِ مِنهم بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وإلّا فَأسْبابُ التَّذَكُّرِ حاصِلَةٌ وهو [ أنَّ ] أنْفُسَهم لَوْ تَفَكَّرُوا فِيها لَعَلِمُوا وحْدانِيَّةَ اللَّهِ وصَدَّقُوا بِالحَشْرِ، أمّا الوَحْدانِيَّةُ فَلِأنَّ اللَّهَ خَلَقَهم عَلى (p-٨٧)أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ولْنَذْكُرْ مِن حُسْنِ خَلْقِهِمْ جُزْأً مِن ألْفِ ألْفِ جُزْءٍ، وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ لِلْإنْسانِ مَعِدَةً فِيها يَنْهَضِمُ غِذاؤُهُ لِتَقْوى بِهِ أعْضاؤُهُ ولَها مَنفَذانِ أحَدُهُما لِدُخُولِ الطَّعامِ فِيهِ، والآخَرُ لِخُرُوجِ الطَّعامِ مِنهُ، فَإذا دَخَلَ الطَّعامُ فِيها انْطَبَقَ المَنفَذُ الآخَرُ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ، بِحَيْثُ لا يَخْرُجُ مِنهُ ذَرَّةٌ ولا بِالرَّشْحِ، وتُمْسِكُهُ الماسِكَةُ إلى أنْ يَنْضَجَ نُضْجًا صالِحًا، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ المَنفَذِ الآخَرِ، وخَلَقَ تَحْتَ المَعِدَةِ عُرُوقًا دِقاقًا صِلابًا كالمِصْفاةِ الَّتِي يُصَفّى بِها الشَّيْءُ فَيَنْزِلُ مِنها الصّافِي إلى الكَبِدِ، ويَنْصَبُّ الثُّفْلُ إلى مِعًى مَخْلُوقٍ تَحْتَ المَعِدَةِ مُسْتَقِيمٍ مُتَوَجِّهًا إلى الخُرُوجِ، وما يَدْخُلُ في الكَبِدِ مِنَ العُرُوقِ المَذْكُورَةِ يُسَمّى الماسارِيقا بِالعِبْرِيَّةِ، والعِبْرِيَّةُ عَرَبِيَّةٌ مَفْسُودَةٌ في الأكْثَرِ، يُقالُ لِمُوسى مِيشا ولِلْإلَهِ إيلْ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فالماسارِيقا مَعْناها ماسارِيقُ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الكَبِدُ وأنْضَجَهُ نُضْجًا آخَرَ، ويَكُونُ مَعَ الغِذاءِ المُتَوَجِّهِ مِنَ المَعِدَةِ إلى الكَبِدِ فَضْلُ ماءٍ مَشْرُوبٍ لِيُرَقَّقَ ويَنْذَرِقَ في العُرُوقِ الدِّقاقِ المَذْكُورَةِ، وفي الكَبِدِ يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ الماءِ فَيَتَمَيَّزُ عَنْهُ ذَلِكَ الماءُ ويَنْصَبُّ مِن جانِبِ حَدَبَةِ الكَبِدِ إلى الكُلْيَةِ ومَعَهُ دَمٌ يَسِيرٌ تَغْتَذِي بِهِ الكُلْيَةُ وغَيْرُها، ويَخْرُجُ الدَّمُ الخالِصُ مِنَ الكَبِدِ في عِرْقٍ كَبِيرٍ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ ذَلِكَ النَّهْرُ إلى جَداوِلَ، والجَداوِلُ إلى سَواقٍ، والسَّواقِي إلى رَواضِعَ ويَصِلُ فِيها إلى جَمِيعِ البَدَنِ، فَهَذِهِ حِكْمَةٌ واحِدَةٌ في خَلْقِ الإنْسانِ، وهَذِهِ كِفايَةٌ في مَعْرِفَةِ كَوْنِ اللَّهِ فاعِلًا مُخْتارًا قادِرًا كامِلًا عالِمًا شامِلًا عِلْمُهُ، ومَن يَكُونُ كَذَلِكَ يَكُونُ واحِدًا وإلّا لَكانَ عاجِزًا عِنْدَ إرادَةِ شَرِيكِهِ ضِدَّ ما أرادَهُ. وأمّا دَلالَةُ الإنْسانِ عَلى الحَشْرِ فَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ إذا تَفَكَّرَ في نَفْسِهِ يَرى قُواهُ صائِرَةً إلى الزَّوالِ، وأجْزاءَهُ مائِلَةً إلى الِانْحِلالِ فَلَهُ فَناءٌ ضَرُورِيٌّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَياةٌ أُخْرى لَكانَ خَلْقُهُ عَلى هَذا الوَجْهِ لِلْفَناءِ عَبَثًا، وإلَيْهِ أشارَ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا﴾ [المؤمنون: ١١٥] وهَذا ظاهِرٌ؛ لِأنَّ مَن يَفْعَلُ شَيْئًا لِلْعَبَثِ فَلَوْ بالَغَ في إحْكامِهِ وإتْقانِهِ يَضْحَكُ مِنهُ، فَإذا خَلَقَهُ لِلْبَقاءِ ولا بَقاءَ دُونَ اللِّقاءِ فالآخِرَةُ لا بُدَّ مِنها، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ بَعْدَ دَلِيلِ الأنْفُسِ دَلِيلَ الآفاقِ فَقالَ: ﴿ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمًّى﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿إلّا بِالحَقِّ﴾ إشارَةٌ إلى وجْهِ دَلالَتِها عَلى الوَحْدانِيَّةِ، وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٤٤] ونُعِيدُهُ فَإنَّ التَّكْرِيرَ في الذِّهْنِ يُفِيدُ التَّقْرِيرَ لِذِي الذِّهْنِ، فَنَقُولُ: إذا كانَ بِالحَقِّ لا يَكُونُ فِيها بُطْلانٌ فَلا يَكُونُ فِيها فَسادٌ؛ لِأنَّ كُلَّ فاسِدٍ باطِلٌ، وإذا لَمْ يَكُنْ فِيها فَسادٌ لا تَكُونُ آلِهَةً وإلّا لَكانَ فِيها فَسادٌ، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] وقَوْلُهُ: ﴿وأجَلٍ مُسَمًّى﴾ يُذَكِّرُ بِالأصْلِ الآخَرِ الَّذِي أنْكَرُوهُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ﴾ يَعْنِي لا يَعْلَمُونَ أنَّهُ لا بُدَّ بَعْدَ هَذِهِ الحَياةِ مِن لِقاءٍ وبَقاءٍ إمّا في إسْعادٍ أوْ شَقاءٍ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَدَّمَ هَهُنا دَلائِلَ الأنْفُسِ عَلى دَلائِلِ الآفاقِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ﴾ [فصلت: ٥٣] قَدَّمَ دَلائِلَ الآفاقِ، وذَلِكَ لِأنَّ المُفِيدَ إذا أفادَ فائِدَةً يَذْكُرُها عَلى وجْهٍ جَيِّدٍ يَخْتارُهُ، فَإنْ فَهِمَهُ السّامِعُ المُسْتَفِيدُ فَذَلِكَ، وإلّا يَذْكُرُها عَلى وجْهٍ أبْيَنَ مِنهُ ويَنْزِلُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً، وأمّا المُسْتَفِيدُ فَإنَّهُ يَفْهَمُ أوَّلًا الأبْيَنَ، ثُمَّ يَرْتَقِي إلى فَهْمِ ذَلِكَ الأخْفى الَّذِي لَمْ يَكُنْ فَهِمَهُ فَيَفْهَمُهُ بَعْدَ فَهْمِ الأبْيَنِ المَذْكُورِ آخِرًا، فالمَذْكُورُ مِنَ المُفِيدِ آخِرًا مَفْهُومٌ عِنْدِ السّامِعِ أوَّلًا، إذا عُلِمَ هَذا فَنَقُولُ: هَهُنا الفِعْلُ كانَ مَنسُوبًا إلى السّامِعِ حَيْثُ قالَ: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ﴾ يَعْنِي فِيما فَهِمُوهُ أوَّلًا ولَمْ يَرْتَقُوا إلى ما فَهِمُوهُ ثانِيًا، وأمّا في قَوْلِهِ: ﴿سَنُرِيهِمْ﴾ الأمْرُ مَنسُوبٌ إلى المُفِيدِ المُسْمِعِ، فَذَكَرَ أوَّلًا: الآفاقَ فَإنْ لَمْ يَفْهَمُوهُ فالأنْفُسَ؛ لِأنَّ دَلائِلَ الأنْفُسِ (p-٨٨)لا ذُهُولَ لِلْإنْسانِ عَنْها، وهَذا التَّرْتِيبُ مُراعًى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٩١] أيْ يَعْلَمُونَ اللَّهَ بِدَلائِلِ الأنْفُسِ في سائِرِ الأحْوالِ، ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ بِدَلائِلِ الآفاقِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: وجْهُ دَلالَةِ الخَلْقِ بِالحَقِّ عَلى الوَحْدانِيَّةِ ظاهِرٌ، وأمّا وجْهُ دَلالَتِهِ عَلى الحَشْرِ فَكَيْفَ هو ؟ فَنَقُولُ: وُقُوعُ تَخْرِيبِ السَّماواتِ وعَدَمُها لا يُعْلَمُ بِالعَقْلِ إلّا إمْكانُهُ، وأمّا وُقُوعُهُ فَلا يُعْلَمُ إلّا بِالسَّمْعِ؛ لِأنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى إبْقاءِ الحادِثِ أبَدًا كَما أنَّهُ يُبْقِي الجَنَّةَ والنّارَ بَعْدَ إحْداثِهِما أبَدًا، والخَلْقُ دَلِيلُ إمْكانِ العَدَمِ؛ لِأنَّ المَخْلُوقَ لَمْ يَجِبْ لَهُ القِدَمُ فَجازِ عَلَيْهِ العَدَمُ، فَإذا أخْبَرَ الصّادِقُ عَنْ أمْرٍ لَهُ إمْكانٌ، وجَبَ عَلى العاقِلِ التَّصْدِيقُ والإذْعانُ، ولِأنَّ العالَمَ لَمّا كانَ خَلَقَهُ بِالحَقِّ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذِهِ الحَياةِ حَياةٌ أُخْرى باقِيَةٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ الحَياةَ لَيْسَتْ إلّا لَعِبًا ولَهْوًا كَما بَيَّنَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما الحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَعِبٌ ولَهْوٌ﴾ [الأنعام: ٣٢] وخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ لِلَّهْوِ واللَّعِبِ عَبَثٌ، والعَبَثُ لَيْسَ بِحَقٍّ، وخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ بِالحَقِّ فَلا بُدَّ مِن حَياةٍ بَعْدَ هَذِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ هَهُنا: ﴿كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ وقالَ مِن قَبْلُ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾ وذَلِكَ؛ لِأنَّهُ مِن قَبْلُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلى الأصْلَيْنِ، وهَهُنا قَدْ ذَكَرَ الدَّلائِلَ الواضِحَةَ والبَراهِينَ اللّائِحَةَ ولا شَكَّ في أنَّ الإيمانَ بَعْدَ الدَّلِيلِ أكْثَرُ مِنَ الإيمانِ قَبْلَ الدَّلِيلِ، فَبَعْدَ الدَّلائِلِ لا بُدَّ مِن أنْ يُؤْمِنَ مِن ذَلِكَ الأكْثَرِ جَمْعٌ فَلا يَبْقى الأكْثَرُ كَما هو، فَقالَ بَعْدَ إقامَةِ الدَّلِيلِ ﴿وإنَّ كَثِيرًا﴾ وقَبْلَهُ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ﴾ ثُمَّ بَعْدَ الدَّلِيلِ الَّذِي لا يُمْكِنُ الذُّهُولُ عَنْهُ، والدَّلِيلِ الَّذِي لا يَقَعُ الذُّهُولُ عَنْهُ وإنْ أمْكَنَ هو السَّماواتُ والأرْضُ؛ لِأنَّ مِنَ البَعِيدِ أنْ يَذْهَلَ الإنْسانُ عَنِ السَّماءِ الَّتِي فَوْقَهُ والأرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ، فَذَكَرَ ما يَقَعُ الذُّهُولُ عَنْهُ وهو أمْرُ أمْثالِهِمْ وحِكايَةُ أشْكالِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب