الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أهْواءَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَن أضَلَّ اللَّهُ وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ أيْ لا يَجُوزُ أنْ يُشْرِكَ بِالمالِكِ مَمْلُوكُهُ ولَكِنَّ الَّذِينَ أشْرَكُوا اتَّبَعُوا أهْواءَهم مِن غَيْرِ عِلْمٍ، وأثْبَتُوا شُرَكاءَ مِن غَيْرِ (p-١٠٥)دَلِيلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ بِإرادَةِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن يَهْدِي مَن أضَلَّ اللَّهُ﴾ أيْ هَؤُلاءِ أضَلَّهُمُ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهم، فَيَنْبَغِي أنْ لا يُحْزِنَكَ قَوْلُهم، وهاهُنا لَطِيفَةٌ وهي أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَمَن يَهْدِي مَن أضَلَّ اللَّهُ﴾ مُقَوٍّ لِما تَقَدَّمَ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا قالَ؛ لِأنَّ اللَّهَ لا شَرِيكَ لَهُ بِوَجْهٍ ما ثُمَّ قالَ تَعالى بَلِ المُشْرِكُونَ يُشْرِكُونَ مِن غَيْرِ عِلْمٍ، يُقالُ فِيهِ أنْتَ أثْبَتَّ لَهم تَصَرُّفًا عَلى خِلافِ رِضاهُ، والسَّيِّدُ العَزِيزُ هو الَّذِي لا يَقْدِرُ عَبْدُهُ عَلى تَصَرُّفٍ يُخالِفُ رِضاهُ، فَقالَ: إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِقْلالِهِ بَلْ بِإرادَةِ اللَّهِ، وما لَهم مِن ناصِرِينَ، لَمّا تَرَكُوا اللَّهَ تَرَكَهُمُ اللَّهُ، ومَن أخَذُوهُ لا يُغْنِي عَنْهم شَيْئًا فَلا ناصِرَ لَهم. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أيْ إذا تَبَيَّنَ الأمْرُ وظَهَرَتِ الوَحْدانِيَّةُ ولَمْ يَهْتَدِ المُشْرِكُ فَلا تَلْتَفِتْ أنْتَ إلَيْهِمْ وأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ﴾ أيْ أقْبِلْ بِكُلِّكَ عَلى الدِّينِ، عَبَّرَ عَنِ الذّاتِ بِالوَجْهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] أيْ ذاتَهُ بِصِفاتِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿حَنِيفًا﴾ أيْ مائِلًا عَنْ كُلِّ ما عَداهُ، أيْ أقْبِلْ عَلى الدِّينِ ومِلْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، أيْ لا يَكُونُ في قَلْبِكَ شَيْءٌ آخَرُ فَتَعُودَ إلَيْهِ، وهَذا قَرِيبٌ مِن مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ﴾ أيِ الزَمْ فِطْرَةَ اللَّهِ وهي التَّوْحِيدُ، فَإنَّ اللَّهَ فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهِ حَيْثُ أخَذَهم مِن ظَهْرِ آدَمَ وسَألَهم: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] فَقالُوا: بَلى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَنِ الحُزْنِ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِن قَوْمُهُ، فَقالَ هم خُلِقُوا لِلشَّقاوَةِ، ومَن كُتِبَ شَقِيًّا لا يَسْعَدُ، وقِيلَ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أيِ الوَحْدانِيَّةُ مُتَرَسِّخَةٌ فِيهِمْ لا تَغَيُّرَ لَها حَتّى إنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ يَقُولُونَ اللَّهُ، لَكِنَّ الإيمانَ الفِطْرِيَّ غَيْرُ كافٍ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ لِعِبادَتِهِ وهم كُلُّهم عَبِيدُهُ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أيْ لَيْسَ كَوْنُهم عَبِيدًا مِثْلَ كَوْنِ المَمْلُوكِ عَبْدًا لِإنْسانٍ فَإنَّهُ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ ويَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِالعِتْقِ، بَلْ لا خُرُوجَ لِلْخَلْقِ عَنِ العِبادَةِ والعُبُودِيَّةِ، وهَذا لِبَيانِ فَسادِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: العِبادَةُ لِتَحْصِيلِ الكَمالِ، والعَبْدُ يَكْمُلُ بِالعِبادَةِ فَلا يَبْقى عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ، وقَوْلُ المُشْرِكِينَ: إنَّ النّاقِصَ لا يَصْلُحُ لِعِبادَةِ اللَّهِ، وإنَّما الإنْسانُ عَبَدَ الكَواكِبَ، والكَواكِبُ عَبِيدُ اللَّهِ، وقَوْلُ النَّصارى إنَّ عِيسى كانَ يَحِلُّ اللَّهُ فِيهِ وصارَ إلَهًا فَقالَ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ بَلْ كُلُّهم عَبِيدٌ لا خُرُوجَ لَهم عَنْ ذَلِكَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ الَّذِي لا عِوَجَ فِيهِ ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ ذَلِكَ هو الدِّينُ المُسْتَقِيمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب