الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ واللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ﴾ ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَن آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجًا وأنْتُمْ شُهَداءُ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: وهو الأوْفَقُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا أوْرَدَ الدَّلائِلَ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِمّا ورَدَ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ مِنَ البِشارَةِ بِمَقْدِمِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَ ذَلِكَ شُبُهاتِ القَوْمِ. فالشُّبْهَةُ الأُولى: ما يَتَعَلَّقُ بِإنْكارِ النَّسْخِ. (p-١٣٧)وأجابَ عَنْها بِقَوْلِهِ: ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلّا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ﴾ [آل عمران: ٩٣] . والشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: ما يَتَعَلَّقُ بِالكَعْبَةِ ووُجُوبِ اسْتِقْبالِها في الصَّلاةِ ووُجُوبِ حَجِّها. وأجابَ عَنْها بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ إلى آخِرِها، فَعِنْدَ هَذا تَمَّتْ وظِيفَةُ الِاسْتِدْلالِ وكَمُلَ الجَوابُ عَنْ شُبُهاتِ أرْبابِ الضَّلالِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خاطَبَهم بِالكَلامِ اللَّيِّنِ وقالَ: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ بَعْدَ ظُهُورِ البَيِّناتِ وزَوالِ الشُّبُهاتِ، وهَذا هو الغايَةُ القُصْوى في تَرْتِيبِ الكَلامِ وحُسْنِ نَظْمِهِ. الوَجْهُ الثّانِي: وهو أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ فَضائِلَ الكَعْبَةِ ووُجُوبَ الحَجِّ، والقَوْمُ كانُوا عالِمِينَ بِأنَّ هَذا هو الدِّينُ الحَقُّ والمِلَّةُ الصَّحِيحَةُ قالَ لَهم: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ بَعْدَ أنْ عَلِمْتُمْ كَوْنَها حَقَّةً صَحِيحَةً. واعْلَمْ أنَّ المُبْطِلَ إمّا أنْ يَكُونَ ضالًّا فَقَطْ، وإمّا أنْ يَكُونَ مَعَ كَوْنِهِ ضالًّا يَكُونُ مُضِلًّا، والقَوْمُ كانُوا مَوْصُوفِينَ بِالأمْرَيْنِ جَمِيعًا فَبَدَأ تَعالى بِالإنْكارِ عَلَيْهِمْ في الصِّفَةِ الأُولى عَلى سَبِيلِ الرِّفْقِ واللُّطْفِ. * * * وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ واخْتَلَفُوا فِيمَنِ المُرادُ بِأهْلِ الكِتابِ، فَقالَ الحَسَنُ: هم عُلَماءُ أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ عَلِمُوا صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، واسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنْتُمْ شُهَداءُ﴾ وقالَ بَعْضُهم: بَلِ المُرادُ كُلُّ أهْلِ الكِتابِ لِأنَّهم وإنْ لَمْ يَعْلَمُوا فالحُجَّةُ قائِمَةٌ عَلَيْهِمْ فَكَأنَّهم بِتَرْكِ الِاسْتِدْلالِ والعُدُولِ إلى التَّقْلِيدِ بِمَنزِلَةِ مَن عَلِمَ ثُمَّ أنْكَرَ. فَإنْ قِيلَ: ولِمَ خُصَّ أهْلُ الكِتابِ بِالذِّكْرِ دُونَ سائِرِ الكُفّارِ ؟ قُلْنا: لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنّا بَيَّنّا أنَّهُ تَعالى أوْرَدَ الدَّلِيلَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ثُمَّ أجابَ عَنْ شُبَهِهِمْ في ذَلِكَ، ثُمَّ لَمّا تَمَّ ذَلِكَ خاطَبَهم فَقالَ: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ﴾ فَهَذا التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ. الثّانِي: أنَّ مَعْرِفَتَهم بِآياتِ اللَّهِ أقْوى لِتَقَدُّمِ اعْتِرافِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ وأصْلِ النُّبُوَّةِ، ولِمَعْرِفَتِهِمْ بِما في كُتُبِهِمْ مِنَ الشَّهادَةِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ والبِشارَةِ بِنُبُوَّتِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الكُفْرَ مِن قِبَلِهِمْ حَتّى يَصِحَّ هَذا التَّوْبِيخُ، وكَذَلِكَ لا يَصِحُّ تَوْبِيخُهم عَلى طَوْلِهِمْ وصِحَّتِهِمْ ومَرَضِهِمْ. والجَوابُ عَنْهُ: المُعارَضَةُ بِالعِلْمِ والدّاعِي. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: المُرادُ (مِن آياتِ اللَّهِ) الآياتُ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ تَعالى عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والمُرادُ بِكُفْرِهِمْ بِها كُفْرُهم بِدَلالَتِها عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ﴾ الواوُ لِلْحالِ والمَعْنى: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الَّتِي دَلَّتْكم عَلى صِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والحالُ أنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ عَلى أعْمالِكم ومُجازِيكم عَلَيْها وهَذِهِ الحالُ تُوجِبُ أنْ لا تَجْتَرِءُوا عَلى الكُفْرِ بِآياتِهِ. (p-١٣٨)ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا أنْكَرَ عَلَيْهِمْ في ضَلالِهِمْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الإنْكارَ عَلَيْهِمْ في إضْلالِهِمْ لِضَعَفَةِ المُسْلِمِينَ فَقالَ: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَن آمَنَ﴾ قالَ الفَرّاءُ: يُقالُ صَدَدْتُهُ أصُدُّهُ صَدًّا وأصْدَدْتُهُ إصْدادًا، وقَرَأ الحَسَنُ (تُصِدُّونَ) بِضَمِّ التّاءِ مِن أصَدَّهُ، قالَ المُفَسِّرُونَ: وكانَ صَدُّهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِإلْقاءِ الشُّبَهِ والشُّكُوكِ في قُلُوبِ الضَّعَفَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ وكانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَ صِفَتِهِ ﷺ في كِتابِهِمْ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿تَبْغُونَها عِوَجًا﴾ العِوَجُ بِكَسْرِ العَيْنِ المَيْلُ عَنْ الِاسْتِواءِ في كُلِّ ما لا يُرى، وهو الدِّينُ والقَوْلُ، فَأمّا الشَّيْءُ الَّذِي يُرى فَيُقالُ فِيهِ: عَوَجٌ بِفَتْحِ العَيْنِ كالحائِطِ والقَناةِ والشَّجَرَةِ، قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: البَغْيُ يُقْتَصَرُ لَهُ عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ إذا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ اللّامُ كَقَوْلِكَ: بَغَيْتُ المالَ والأجْرَ والثَّوابَ، وأُرِيدَ هاهُنا: تَبْغُونَ لَها عِوَجًا، ثُمَّ أُسْقِطَتِ اللّامُ كَما قالُوا: وهَبْتُكَ دِرْهَمًا أيْ وهَبْتُ لَكَ دِرْهَمًا، ومِثْلُهُ صِدْتُ لَكَ ظَبْيًا وأنْشَدَ: ؎فَتَوَلّى غُلامُهم ثُمَّ نادى أظَلِيمًا أصِيدُكم أمْ حِمارًا أرادَ أصِيدُ لَكم والهاءُ في ﴿تَبْغُونَها﴾ عائِدَةٌ إلى (السَّبِيلِ) لِأنَّ السَّبِيلَ يُؤَنَّثُ ويُذَكَّرُ و(العِوَجُ) يَعْنِي بِهِ الزَّيْغَ والتَّحْرِيفَ، أيْ تَلْتَمِسُونَ لِسَبِيلِهِ الزَّيْغَ والتَّحْرِيفَ بِالشُّبَهِ الَّتِي تُورِدُونَها عَلى الضَّعَفَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: النَّسْخُ يَدُلُّ عَلى البَداءِ، وقَوْلُهم: إنَّهُ ورَدَ في التَّوْراةِ أنَّ شَرِيعَةَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ باقِيَةٌ إلى الأبَدِ، وفي الآيَةِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يَكُونَ (عِوَجًا) في مَوْضِعِ الحالِ والمَعْنى: تَبْغُونَها ضالِّينَ وذَلِكَ أنَّهم كَأنَّهم كانُوا يَدَّعُونَ أنَّهم عَلى دِينِ اللَّهِ وسَبِيلِهِ فَقالَ اللَّهُ تَعالى: إنَّكم تَبْغُونَ سَبِيلَ اللَّهِ ضالِّينَ وعَلى هَذا القَوْلِ لا يُحْتاجُ إلى إضْمارِ اللّامِ في تَبْغُونَها. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وأنْتُمْ شُهَداءُ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: يَعْنِي أنْتُمْ شُهَداءُ أنَّ في التَّوْراةِ أنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي لا يُقْبَلُ غَيْرُهُ هو الإسْلامُ. الثّانِي: وأنْتُمْ شُهَداءُ عَلى ظُهُورِ المُعْجِزاتِ عَلى نُبُوَّتِهِ ﷺ . الثّالِثُ: وأنْتُمْ شُهَداءُ أنَّهُ لا يَجُوزُ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. الرّابِعُ: وأنْتُمْ شُهَداءُ بَيْنَ أهْلِ دِينِكم عُدُولٌ يَثِقُونَ بِأقْوالِكم ويُعَوِّلُونَ عَلى شَهادَتِكم في عِظامِ الأُمُورِ وهُمُ الأحْبارُ. والمَعْنى: أنَّ مَن كانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ الإصْرارُ عَلى الباطِلِ والكَذِبِ والضَّلالِ والإضْلالِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ والمُرادُ التَّهْدِيدُ، وهو كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ، وقَدْ أنْكَرَ طَرِيقَهُ لا يَخْفى عَلَيَّ ما أنْتَ عَلَيْهِ ولَسْتُ غافِلًا عَنْ أمْرِكَ وإنَّما خَتَمَ الآيَةَ الأُولى بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ شَهِيدٌ﴾ وهَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّهم كانُوا يُظْهِرُونَ الكُفْرَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وما كانُوا يُظْهِرُونَ إلْقاءَ الشُّبَهِ في قُلُوبِ المُسْلِمِينَ، بَلْ كانُوا يَحْتالُونَ في ذَلِكَ بِوُجُوهِ الحِيَلِ فَلا جَرَمَ قالَ فِيما أظْهَرُوهُ ﴿واللَّهُ شَهِيدٌ﴾ وفِيما أضْمَرُوهُ ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ وإنَّما كَرَّرَ في الآيَتَيْنِ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ﴾ لِأنَّ المَقْصُودَ التَّوْبِيخُ عَلى ألْطَفِ الوُجُوهِ، وتَكْرِيرُ هَذا الخِطابِ اللَّطِيفِ أقْرَبُ إلى التَّلَطُّفِ في صَرْفِهِمْ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ في الضَّلالِ والإضْلالِ وأدَلُّ عَلى النُّصْحِ لَهم في الدِّينِ والإشْفاقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب