الباحث القرآني
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن قَبْلِ أنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ﴾ فالمَعْنى أنَّ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْراةِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ كُلُّ أنْواعِ المَطْعُوماتِ سِوى ما حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ، أمّا بَعْدَ التَّوْراةِ فَلَمْ يَبْقَ كَذَلِكَ بَلْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ أنْواعًا كَثِيرَةً، رُوِيَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ كانُوا إذا أتَوْا بِذَنْبٍ عَظِيمٍ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَوْعًا مِن أنْواعِ الطَّعامِ، أوْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا لِهَلاكٍ أوْ مَضَرَّةٍ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْمَ نازَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، إمّا لِأنَّهُمُ ادَّعَوْا أنَّ تَحْرِيمَ هَذِهِ الأشْياءِ كانَ مَوْجُودًا مِن لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى هَذا الزَّمانِ، فَكَذَّبَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ، وإمّا لِأنَّ الرَّسُولَ ﷺ ادَّعى كَوْنَ هَذِهِ المَطْعُوماتِ مُباحَةً في الزَّمانِ القَدِيمِ، وأنَّها إنَّما حُرِّمَتْ بِسَبَبِ أنَّ إسْرائِيلَ حَرَّمَها عَلى نَفْسِهِ، فَنازَعُوهُ في ذَلِكَ، فَطَلَبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ إحْضارَ التَّوْراةِ لِيَسْتَخْرِجَ مِنها المُسْلِمُونَ مِن عُلَماءِ أهْلِ الكِتابِ آيَةً مُوافِقَةً لِقَوْلِ الرَّسُولِ، وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ، فالتَّفْسِيرُ ظاهِرٌ، ولِمُنْكِرِيِ القِياسِ أنْ يَحْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ طالَبَهم فِيما ادَّعَوْهُ بِكِتابِ اللَّهِ، ولَوْ كانَ القِياسُ حُجَّةً لَكانَ لَهم أنْ يَقُولُوا: لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِ هَذا الحُكْمِ في التَّوْراةِ عَدَمُهُ، لِأنّا نُثْبِتُهُ بِالقِياسِ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ النِّزاعَ ما وقَعَ في حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وإنَّما وقَعَ في أنَّ هَذا الحُكْمَ، هَلْ كانَ مَوْجُودًا في زَمانِ إبْراهِيمَ وسائِرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أمْ لا ؟ ومِثْلُ هَذا لا يُمْكِنُ إثْباتُهُ إلّا بِالنَّصِّ، فَلِهَذا المَعْنى طالَبَهُمُ الرَّسُولُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ، بِنَصِّ التَّوْراةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمَنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ الِافْتِراءُ اخْتِلاقُ الكَذِبِ، والفِرْيَةُ الكَذِبُ والقَذْفُ، وأصْلُهُ مِن فَرْيِ الأدِيمِ، وهو قَطْعُهُ، فَقِيلَ لِلْكَذِبِ افْتِراءٌ، لِأنَّ الكاذِبَ يَقْطَعُ بِهِ في القَوْلِ مِن غَيْرِ تَحْقِيقٍ في الوُجُودِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أيْ مِن بَعْدِ ظُهُورِ الحُجَّةِ بِأنَّ التَّحْرِيمَ إنَّما كانَ مِن جِهَةِ يَعْقُوبَ، ولَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا قَبْلَهُ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ المُسْتَحِقُّونَ لِعَذابِ اللَّهِ لِأنَّ كُفْرَهم ظُلْمٌ مِنهم لِأنْفُسِهِمْ ولِمَن أضَلُّوهُ عَنِ الدِّينِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾ ويَحْتَمِلُ وُجُوهًا:
أحَدُها: ﴿قُلْ صَدَقَ﴾ في أنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنَ الطَّعامِ صارَ حَرامًا عَلى إسْرائِيلَ وأوْلادِهِ بَعْدَ أنْ كانَ حَلالًا لَهم فَصَحَّ القَوْلُ بِالنَّسْخِ، وبَطَلَتْ شُبْهَةُ اليَهُودِ.
وثانِيها: ﴿صَدَقَ اللَّهُ﴾ في قَوْلِهِ: إنَّ لُحُومَ الإبِلِ وألْبانَها كانَتْ مُحَلَّلَةً لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وإنَّما حُرِّمَتْ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ لِأنَّ إسْرائِيلَ حَرَّمَها عَلى نَفْسِهِ، فَثَبَتَ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَمّا أفْتى بِحِلِّ لُحُومِ الإبِلِ وألْبانِها، فَقَدْ أفْتى بِمِلَّةِ إبْراهِيمَ.
وثالِثُها: ﴿صَدَقَ اللَّهُ﴾ في أنَّ سائِرَ الأطْعِمَةِ كانَتْ مُحَلَّلَةً لِبَنِي إسْرائِيلَ وأنَّها إنَّما حُرِّمَتْ عَلى اليَهُودِ جَزاءً عَلى قَبائِحِ أفْعالِهِمْ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ أيِ اتَّبِعُوا ما يَدْعُوكم إلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِن مِلَّةِ إبْراهِيمَ، وسَواءٌ قالَ: مِلَّةُ إبْراهِيمَ حَنِيفًا، أوْ قالَ: مِلَّةُ إبْراهِيمَ الحَنِيفِ لِأنَّ الحالَ والصِّفَةَ سَواءٌ في المَعْنى.
(p-١٢٤)ثُمَّ قالَ: ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ أيْ لَمْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ، ولا عَبَدَ سِواهُ، كَما فَعَلَهُ بَعْضُهم مِن عِبادَةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، أوْ كَما فَعَلَهُ العَرَبُ مِن عِبادَةِ الأوْثانِ، أوْ كَما فَعَلَهُ اليَهُودُ مِنَ ادِّعاءِ أنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وكَما فَعَلَهُ النَّصارى مِنَ ادِّعاءِ أنَّ المَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ، والغَرَضُ مِنهُ بَيانُ أنَّ مُحَمَّدًا صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلى دِينِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، في الفُرُوعِ والأُصُولِ.
أمّا في الفُرُوعِ، فَلِما ثَبَتَ أنَّ ما حَكَمَ بِحِلِّهِ كانَ إبْراهِيمُ قَدْ حَكَمَ بِحِلِّهِ أيْضًا، وأمّا في الأُصُولِ فَلِأنَّ مُحَمَّدًا صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ لا يَدْعُو إلّا إلى التَّوْحِيدِ والبَراءَةِ عَنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوى اللَّهِ تَعالى، وما كانَ إبْراهِيمُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ إلّا عَلى هَذا الدِّينِ.
{"ayahs_start":94,"ayahs":["فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ","قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُوا۟ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"],"ayah":"فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق