الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلّا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿فَمَنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ الآياتِ المُتَقَدِّمَةَ إلى هَذِهِ الآيَةِ كانَتْ في تَقْرِيرِ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وفي تَوْجِيهِ الإلْزاماتِ الوارِدَةِ عَلى أهْلِ الكِتابِ في هَذا البابِ. وأمّا هَذِهِ الآيَةُ فَهي في بَيانِ الجَوابِ عَنْ شُبُهاتِ القَوْمِ، فَإنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ﷺ كانَ يَدَّعِي أنَّ كُلَّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا ثُمَّ صارَ البَعْضُ حَرامًا بَعْدَ أنْ كانَ حِلًّا والقَوْمُ نازَعُوهُ في ذَلِكَ وزَعَمُوا أنَّ الَّذِي هو الآنَ حَرامٌ كانَ حَرامًا أبَدًا. وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الآيَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الأوَّلُ: أنَّ اليَهُودَ كانُوا يُعَوِّلُونَ في إنْكارِ شَرْعِ مُحَمَّدٍ ﷺ (p-١٢٠)عَلى إنْكارِ النَّسْخِ، فَأبْطَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأنَّ: ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلّا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ﴾، فَذاكَ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ كانَ حَلالًا ثُمَّ صارَ حَرامًا عَلَيْهِ وعَلى أوْلادِهِ، فَقَدْ حَصَلَ النَّسْخُ، فَبَطَلَ قَوْلُكم: النَّسْخُ غَيْرُ جائِزٍ، ثُمَّ إنَّ اليَهُودَ لَمّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ هَذا السُّؤالُ أنْكَرُوا أنْ يَكُونَ حُرْمَةُ ذَلِكَ الطَّعامِ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ بِسَبَبِ أنَّ إسْرائِيلَ حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ، بَلْ زَعَمُوا أنَّ ذَلِكَ كانَ حَرامًا مِن لَدُنْ زَمانِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى هَذا الزَّمانِ، فَعِنْدَ هَذا طَلَبَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنهم أنْ يُحْضِرُوا التَّوْراةَ فَإنَّ التَّوْراةَ ناطِقَةٌ بِأنَّ بَعْضَ أنْواعِ الطَّعامِ إنَّما حُرِّمَ بِسَبَبِ أنَّ إسْرائِيلَ حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ، فَخافُوا مِنَ الفَضِيحَةِ وامْتَنَعُوا مِن إحْضارِ التَّوْراةِ، فَحَصَلَ عِنْدَ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُقَوِّي دَلائِلَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أحَدُها: أنَّ هَذا السُّؤالَ قَدْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ في إنْكارِ النَّسْخِ، وهو لازِمٌ لا مَحِيصَ عَنْهُ، وثانِيها: أنَّهُ ظَهَرَ لِلنّاسِ كَذِبُهم وأنَّهم يَنْسُبُونَ إلى التَّوْراةِ ما لَيْسَ فِيها تارَةً، ويَمْتَنِعُونَ عَنِ الإقْرارِ بِما هو فِيها أُخْرى، وثالِثُها: أنَّ الرَّسُولَ ﷺ كانَ رَجُلًا أُمِّيًّا لا يَقْرَأُ ولا يَكْتُبُ، فامْتَنَعَ أنْ يَعْرِفَ هَذِهِ المَسْألَةَ الغامِضَةَ مِن عُلُومِ التَّوْراةِ إلّا بِخَبَرِ السَّماءِ، فَهَذا وجْهٌ حَسَنٌ عِلْمِيٌّ في تَفْسِيرِ الآيَةِ وبَيانِ النَّظْمِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ اليَهُودَ قالُوا لَهُ: إنَّكَ تَدَّعِي أنَّكَ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ، فَلَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ تَأْكُلُ لُحُومَ الإبِلِ وألْبانَها مَعَ أنَّ ذَلِكَ كانَ حَرامًا في دِينِ إبْراهِيمَ، فَجَعَلُوا هَذا الكَلامَ شُبْهَةً طاعِنَةً في صِحَّةِ دَعَواهُ، فَأجابَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِأنْ قالَ: ذَلِكَ كانَ حِلًّا لِإبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، إلّا أنَّ يَعْقُوبَ حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ وبَقِيَتْ تِلْكَ الحُرْمَةُ في أوْلادِهِ فَأنْكَرَ اليَهُودُ ذَلِكَ، فَأمَرَهُمُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِإحْضارِ التَّوْراةِ وطالَبَهم بِأنْ يَسْتَخْرِجُوا مِنها آيَةً تَدُلُّ عَلى أنَّ لُحُومَ الإبِلِ وألْبانَها كانَتْ مُحَرَّمَةً عَلى إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وافْتَضَحُوا، فَظَهَرَ عِنْدَ هَذا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ في ادِّعاءِ حُرْمَةِ هَذِهِ الأشْياءِ عَلىإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا أنْزَلَ قَوْلَهُ: ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أوِ الحَوايا أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْناهم بِبَغْيِهِمْ وإنّا لَصادِقُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٦]، وقالَ أيْضًا: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠]، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما حَرَّمَ عَلى اليَهُودِ هَذِهِ الأشْياءَ جَزاءً لَهم عَلى بَغْيِهِمْ وظُلْمِهِمْ وقَبِيحِ فِعْلِهِمْ، وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الطَّعامِ حَرامًا غَيْرَ الطَّعامِ الواحِدِ الَّذِي حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى اليَهُودِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ تِلْكَ الأشْياءَ حُرِّمَتْ بَعْدَ أنْ كانَتْ مُباحَةً، وذَلِكَ يَقْتَضِي وُقُوعَ النَّسْخِ وهم يُنْكِرُونَهُ. والثّانِي: أنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مَوْصُوفِينَ بِقَبائِحِ الأفْعالِ، فَلَمّا حَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِن هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ أنْكَرُوا كَوْنَ حُرْمَةِ هَذِهِ الأشْياءِ مُتَجَدِّدَةً، بَلْ زَعَمُوا أنَّها كانَتْ مُحَرَّمَةً أبَدًا، فَطالَبَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِآيَةٍ مِنَ التَّوْراةِ تَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فَعَجَزُوا عَنْهُ فافْتَضَحُوا، فَهَذا وجْهُ الكَلامِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ وكُلُّهُ حَسَنٌ مُسْتَقِيمٌ، ولْنَرْجِعْ إلى تَفْسِيرِ الألْفاظِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿كُلُّ الطَّعامِ﴾ أيْ كُلُّ المَطْعُوماتِ أوْ كُلُّ أنْواعِ الطَّعامِ، وأقُولُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في أنَّ اللَّفْظَ المُفْرَدَ المُحَلّى بِالألِفِ واللّامِ هَلْ يُفِيدُ العُمُومَ أمْ لا ؟ . (p-١٢١)ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الفُقَهاءِ والأُدَباءِ إلى أنَّهُ يُفِيدُهُ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى أدْخَلَ لَفْظَ ”كُلُّ“ عَلى لَفْظِ الطَّعامِ في هَذِهِ الآيَةِ، ولَوْلا أنَّ لَفْظَ الطَّعامِ قائِمٌ مَقامَ لَفْظِ المَطْعُوماتِ وإلّا لَما جازَ ذَلِكَ، وثانِيها: أنَّهُ اسْتَثْنى عَنْهُ ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ والِاسْتِثْناءُ يُخْرِجُ مِنَ الكَلامِ ما لَوْلاهُ لَدَخَلَ، فَلَوْلا دُخُولُ كُلِّ الأقْسامِ تَحْتَ لَفْظِ الطَّعامِ وإلّا لَمْ يَصِحَّ هَذا الِاسْتِثْناءُ وأكَّدُوا هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: ٢، ٣] . وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى وصَفَ هَذا اللَّفْظَ المُفْرَدَ بِما يُوصَفُ بِهِ لَفْظُ الجَمْعِ، فَقالَ: ﴿والنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ ﴿رِزْقًا لِلْعِبادِ﴾ [ق: ١٠، ١١]، فَعَلى هَذا مَن ذَهَبَ إلى هَذا المَذْهَبِ لا يَحْتاجُ إلى الإضْمارِ الَّذِي ذَكَرَهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“، أمّا مَن قالَ إنَّ الِاسْمَ المُفْرَدَ المُحَلّى بِالألِفِ واللّامِ لا يُفِيدُ العُمُومَ، وهو الَّذِي نَظَّرْناهُ في أُصُولِ الفِقْهِ احْتاجَ إلى الإضْمارِ الَّذِي ذَكَرَهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الطَّعامُ اسْمٌ لِكُلِّ ما يُطْعَمُ ويُؤْكَلُ، وزَعَمَ بَعْضُ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - أنَّهُ اسْمٌ لِلْبُرِّ خاصَّةً، وهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى ضَعْفِ هَذا الوَجْهِ؛ لِأنَّهُ اسْتَثْنى مِن لَفْظِ الطَّعامِ ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ، والمُفَسِّرُونَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ ذَلِكَ الَّذِي حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ كانَ شَيْئًا سِوى الحِنْطَةِ، وسِوى ما يُتَّخَذُ مِنها، ومِمّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في صِفَةِ الماءِ: ﴿ومَن لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي﴾ [البقرة: ٢٤٩]، وقالَ تَعالى: ﴿وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكم وطَعامُكم حِلٌّ لَهُمْ﴾ [المائدة: ٥]، وأرادَ الذَّبائِحَ، «وقالَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ما لَنا طَعامٌ إلّا الأسْوَدانِ»، والمُرادُ التَّمْرُ والماءُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ المَطْعُوماتِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ قالَ القَفّالُ: لَمْ يَبْلُغْنا أنَّهُ كانَتِ المَيْتَةُ مُباحَةً لَهم مَعَ أنَّها طَعامٌ، وكَذا القَوْلُ في الخِنْزِيرِ، ثُمَّ قالَ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلى الأطْعِمَةِ الَّتِي كانَ يَدَّعِي اليَهُودُ في وقْتِ الرَّسُولِ ﷺ أنَّها كانَتْ مُحَرَّمَةً عَلى إبْراهِيمَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا تَكُونُ الألِفُ واللّامُ في لَفْظِ الطَّعامِ لِلِاسْتِغْراقِ، بَلْ لِلْعَهْدِ السّابِقِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الإشْكالُ ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ [الأنعام: ١٤٥]، فَإنَّهُ إنَّما خَرَجَ هَذا الكَلامُ عَلى أشْياءَ سَألُوا عَنْها فَعَرَفُوا أنَّ المُحَرَّمَ مِنها كَذا وكَذا دُونَ غَيْرِهِ، فَكَذا في هَذِهِ الآيَةِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الحِلُّ مَصْدَرٌ، يُقالُ: حَلَّ الشَّيْءُ حِلًّا كَقَوْلِكَ: ذَلَّتِ الدّابَّةُ ذِلًّا وعَزَّ الرَّجُلُ عِزًّا، ولِذَلِكَ اسْتَوى في الوَصْفِ بِهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ والواحِدُ والجَمْعُ، قالَ تَعالى: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ﴾، والوَصْفُ بِالمَصْدَرِ يُفِيدُ المُبالَغَةَ، فَهاهُنا الحِلُّ والمُحَلَّلُ واحِدٌ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في زَمْزَمَ هي حِلٌّ وبِلٌّ رَواهُ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَسُئِلَ سُفْيانُ: ما حِلٌّ ؟ فَقالَ مُحَلَّلٌ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفُوا في الشَّيْءِ الَّذِي حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: رَوى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«إنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَنَذَرَ لَئِنْ عافاهُ اللَّهُ لَيُحَرِّمَنَّ أحَبَّ الطَّعامِ والشَّرابِ عَلَيْهِ، وكانَ أحَبَّ الطَّعامِ إلَيْهِ لُحْمانُ الإبِلَ وأحَبَّ الشَّرابِ إلَيْهِ ألْبانُها» “، وهَذا قَوْلُ أبِي العالِيَةِ وعَطاءٍ ومُقاتِلٍ. والثّانِي: قِيلَ: إنَّهُ كانَ بِهِ عِرْقُ النَّسا، فَنَذَرَ إنْ شَفاهُ اللَّهُ أنْ لا يَأْكُلَ شَيْئًا مِنَ العُرُوقِ. الثّالِثُ: جاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ عَلى نَفْسِهِ زَوائِدُ الكَبِدِ والشَّحْمُ إلّا ما عَلى الظَّهْرِ، ونَقَلَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ تَرْجَمَةِ التَّوْراةِ، أنَّ (p-١٢٢)يَعْقُوبَ لَمّا خَرَجَ مِن حَرّانَ إلى كَنْعانَ بَعَثَ بَرِيدًا إلى عَيْصُو أخِيهِ إلى أرْضِ ساعِيرَ، فانْصَرَفَ الرَّسُولُ إلَيْهِ، وقالَ: إنَّ عَيْصُو هو ذا يَتَلَقّاكَ ومَعَهُ أرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ، فَذُعِرَ يَعْقُوبُ وحَزِنَ جِدًّا وصَلّى ودَعا وقَدَّمَ هَدايًا لِأخِيهِ وذَكَرَ القِصَّةَ إلى أنْ ذَكَرَ المَلِكَ الَّذِي لَقِيَهُ في صُورَةِ رَجُلٍ، فَدَنا ذَلِكَ الرَّجُلُ ووَضَعَ أُصْبُعَهُ عَلى مَوْضِعِ عِرْقِ النَّسا، فَخُدِّرَتْ تِلْكَ العَصَبَةُ وجَفَّتْ فَمِن أجْلِ هَذا لا يَأْكُلُ بَنُو إسْرائِيلَ العُرُوقَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ إسْرائِيلَ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلى نَفْسِهِ، وفِيهِ سُؤالٌ: وهو أنَّ التَّحْرِيمَ والتَّحْلِيلَ إنَّما يَثْبُتُ بِخِطابِ اللَّهِ تَعالى، فَكَيْفَ صارَ تَحْرِيمُ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - سَبَبًا لِحُصُولِهِ الحُرْمَةَ ؟ . أجابَ المُفَسِّرُونَ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ لا يَبْعُدُ أنَّ الإنْسانَ إذا حَرَّمَ شَيْئًا عَلى نَفْسِهِ فَإنَّ اللَّهَ يُحَرِّمُهُ عَلَيْهِ، ألا تَرى أنَّ الإنْسانَ يُحَرِّمُ امْرَأتَهُ عَلى نَفْسِهِ بِالطَّلاقِ، ويُحَرِّمُ جارِيَتَهُ بِالعِتْقِ، فَكَذَلِكَ جائِزٌ أنْ يَقُولَ تَعالى إنْ حَرَّمْتَ شَيْئًا عَلى نَفْسِكَ فَأنا أيْضًا أُحَرِّمُهُ عَلَيْكَ. الثّانِي: أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - رُبَّما اجْتَهَدَ فَأدّى اجْتِهادُهُ إلى التَّحْرِيمِ فَقالَ بِحُرْمَتِهِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الِاجْتِهادَ جائِزٌ مِنَ الأنْبِياءِ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاعْتَبِرُوا ياأُولِي الأبْصارِ﴾ [الحشر: ٢]، ولا شَكَّ أنَّ الأنْبِياءَ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - رُؤَساءُ أُولِي الأبْصارِ. والثّانِي: قالَ: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] مَدَحَ المُسْتَنْبِطِينَ، والأنْبِياءُ أوْلى بِهَذا المَدْحِ. والثّالِثُ: قالَ تَعالى لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣]، فَلَوْ كانَ ذَلِكَ الإذْنُ بِالنَّصِّ، لَمْ يَقُلْ: لِمَ أذِنْتَ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ كانَ بِالِاجْتِهادِ. الرّابِعُ: أنَّهُ لا طاعَةَ إلّا لِلَّهِ ولِلْأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فِيها أعْظَمُ نَصِيبٍ ولا شَكَّ أنَّ اسْتِنْباطَ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى بِطَرِيقِ الِاجْتِهادِ طاعَةٌ عَظِيمَةٌ شاقَّةٌ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ لِلْأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فِيها نَصِيبٌ لا سِيَّما ومَعارِفُهم أكْثَرُ وعُقُولُهم أنْوَرُ وأذْهانُهم أصْفى وتَوْفِيقُ اللَّهِ وتَسْدِيدُهُ مَعَهم أكْثَرُ، ثُمَّ إذا حَكَمُوا بِحُكْمٍ بِسَبَبِ الِاجْتِهادِ يَحْرُمُ عَلى الأُمَّةِ مُخالَفَتُهم في ذَلِكَ الحُكْمِ، كَما أنَّ الإجْماعَ إذا انْعَقَدَ عَلى الِاجْتِهادِ فَإنَّهُ يَحْرُمُ مُخالَفَتُهُ، والأظْهَرُ الأقْوى أنَّ إسْرائِيلَ - صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - إنَّما حَرَّمَ ذَلِكَ عَلى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الِاجْتِهادِ إذْ لَوْ كانَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ لَقالَ إلّا ما حَرَّمَ اللَّهُ عَلى إسْرائِيلَ، فَلَمّا أضافَ التَّحْرِيمَ إلى إسْرائِيلَ دَلَّ هَذا عَلى أنَّ ذَلِكَ كانَ بِالِاجْتِهادِ وهو كَما يُقالُ: الشّافِعِيُّ يُحِلُّ لَحْمَ الخَيْلِ، وأبُو حَنِيفَةَ يُحَرِّمُهُ بِمَعْنى أنَّ اجْتِهادَهُ أدّى إلَيْهِ فَكَذا هاهُنا. الثّالِثُ: يُحْتَمَلُ أنَّ التَّحْرِيمَ في شَرْعِهِ كالنَّذْرِ في شَرْعِنا، فَكَما يَجِبُ عَلَيْنا الوَفاءُ بِالنَّذْرِ كانَ يَجِبُ في شَرْعِهِ الوَفاءُ بِالتَّحْرِيمِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا لَوْ كانَ فَإنَّهُ كانَ مُخْتَصًّا بِشَرْعِهِ أمّا في شَرْعِنا فَهو غَيْرُ ثابِتٍ، قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] . الرّابِعُ: قالَ الأصَمُّ: لَعَلَّ نَفْسَهُ كانَتْ مائِلَةً إلى أكْلِ تِلْكَ الأنْواعِ فامْتَنَعَ مِن أكْلِها قَهْرًا لِلنَّفْسِ وطَلَبًا لِمَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، كَما يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الزُّهّادِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الِامْتِناعِ بِالتَّحْرِيمِ. الخامِسُ: قالَ قَوْمٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ إنَّهُ يَجُوزُ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: احْكم فَإنَّكَ لا تَحْكُمُ إلّا بِالصَّوابِ، فَلَعَلَّ هَذِهِ الواقِعَةَ كانَتْ مِن هَذا البابِ، ولِلْمُتَكَلِّمِينَ في هَذِهِ المَسْألَةِ مُنازَعاتٌ كَثِيرَةٌ ذَكَرْناها في أُصُولِ الفِقْهِ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ فَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ فَحَكَمَ بِحِلِّ كُلِّ أنْواعِ المَطْعُوماتِ لِبَنِي (p-١٢٣)إسْرائِيلَ، ثُمَّ اسْتَثْنى عَنْهُ ما حَرَّمَهُ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ الِاسْتِثْناءِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَرامًا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب