الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذا الدُّعاءَ مِن بَقِيَّةِ كَلامِ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَصُونَهم عَنِ الزَّيْغِ، وأنْ يَخُصَّهم بِالهِدايَةِ والرَّحْمَةِ، فَكَأنَّهم قالُوا: لَيْسَ الغَرَضُ مِن هَذا السُّؤالِ ما يَتَعَلَّقُ بِمَصالِحِ الدُّنْيا فَإنَّها مُنْقَضِيَةٌ مُنْقَرِضَةٌ، وإنَّما الغَرَضُ الأعْظَمُ مِنهُ ما يَتَعَلَّقُ بِالآخِرَةِ فَإنّا نَعْلَمُ أنَّكَ يا إلَهَنا جامِعُ النّاسِ لِلْجَزاءِ في يَوْمِ القِيامَةِ، ونَعْلَمُ أنَّ وعْدَكَ لا يَكُونُ خُلْفًا وكَلامَكَ لا يَكُونُ كَذِبًا، فَمَن زاغَ قَلْبُهُ بَقِيَ هُناكَ في العَذابِ أبَدَ الآبادِ، ومَن أعْطَيْتَهُ التَّوْفِيقَ والهِدايَةَ والرَّحْمَةَ وجَعَلْتَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، بَقِيَ هُناكَ في السَّعادَةِ والكَرامَةِ أبَدَ الآبادِ، فالغَرَضُ الأعْظَمُ مِن ذَلِكَ الدُّعاءِ ما يَتَعَلَّقُ بِالآخِرَةِ. بَقِيَ في الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ ﴿رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ تَقْدِيرُهُ: جامِعُ النّاسِ لِلْجَزاءِ في يَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، فَحُذِفَ لِكَوْنِ المُرادِ ظاهِرًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الجُبّائِيُّ: إنَّ كَلامَ المُؤْمِنِينَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ فَأمّا قَوْلُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ فَهو كَلامُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، كَأنَّ القَوْمَ لَمّا قالُوا ﴿إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ صَدَقَهُمُ اللَّهُ تَعالى في ذَلِكَ وأيَّدَ كَلامَهم بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ كَما قالَ حِكايَةً عَنِ المُؤْمِنِينَ في آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ [آل عمران: ١٩٤] ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: لا يَبْعُدُ وُرُودُ هَذا عَلى طَرِيقَةِ العُدُولِ في الكَلامِ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الحُضُورِ، ومِثْلُهُ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى كَثِيرٌ، قالَ تَعالى: ﴿حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس: ٢٢] . فَإنْ قِيلَ: فَلِمَ قالُوا في هَذِهِ الآيَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ وقالُوا في تِلْكَ الآيَةِ ﴿إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ [آل عمران: ١٩٤] . (p-١٥٩)قُلْتُ: الفَرْقُ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في مَقامِ الهَيْبَةِ، يَعْنِي أنَّ الإلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الحَشْرَ والنَّشْرَ لِيَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظّالِمِينَ، فَكانَ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ الأعْظَمِ أوْلى في هَذا المَقامِ، أمّا قَوْلُهُ في آخِرِ السُّورَةِ ﴿إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ فَذاكَ المَقامُ مَقامُ طَلَبِ العَبْدِ مِن رَبِّهِ أنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ، وأنْ يَتَجاوَزَ عَنْ سَيِّئاتِهِ فَلَمْ يَكُنِ المَقامُ مَقامَ الهَيْبَةِ، فَلا جَرَمَ قالَ: ﴿إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ . * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ الجُبّائِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى القَطْعِ بِوَعِيدِ الفُسّاقِ، قالَ: وذَلِكَ لِأنَّ الوَعِيدَ داخِلٌ تَحْتِ لَفْظِ الوَعْدِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ قَدْ وجَدْنا ما وعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكم حَقًّا﴾ [الأعراف: ٤٤] والوَعْدُ والمَوْعِدُ والمِيعادُ واحِدٌ، وقَدْ أخْبَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لا يُخْلِفُ المِيعادَ فَكانَ هَذا دَلِيلًا عَلى أنَّهُ لا يُخْلِفُ في الوَعِيدِ. والجَوابُ: لا نُسَلِّمُ أنَّهُ تَعالى يُوعِدُ الفُسّاقَ مُطْلَقًا، بَلْ ذَلِكَ الوَعِيدُ عِنْدَنا مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ عَدَمِ العَفْوِ، كَما أنَّهُ بِالِاتِّفاقِ مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّوْبَةِ، فَكَما أنَّكم أثْبَتُّمْ ذَلِكَ الشَّرْطَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَكَذا نَحْنُ أثْبَتْنا شَرْطَ عَدَمِ العَفْوِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، سَلَّمْنا أنَّهُ يُوعِدُهم، ولَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ الوَعِيدَ داخِلٌ تَحْتِ لَفْظِ الوَعْدِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكم حَقًّا﴾ [الأعراف: ٤٤] . قُلْنا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَما في قَوْلِهِ ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] وقَوْلِهِ ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] وأيْضًا لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أنَّهم كانُوا يَتَوَقَّعُونَ مِن أوْثانِهِمْ أنَّها تَشْفَعُ لَهم عِنْدَ اللَّهِ، فَكانَ المُرادُ مِنَ الوَعْدِ تِلْكَ المَنافِعَ، وتَمامُ الكَلامِ في مَسْألَةِ الوَعِيدِ قَدْ مَرَّ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١] وذَكَرَ الواحِدِيُّ في البَسِيطِ طَرِيقَةً أُخْرى، فَقالَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ هَذا عَلى مِيعادِ الأوْلِياءِ، دُونَ وعِيدِ الأعْداءِ، لِأنَّ خُلْفَ الوَعِيدِ كَرَمٌ عِنْدَ العَرَبِ، قالَ: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهم يَمْدَحُونَ بِذَلِكَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا وعَدَ السَّرّاءَ أنْجَزَ وعْدَهُ وإنْ أوْعَدَ الضَّرّاءَ فالعَفْوُ مانِعُهْ ورَوى المُناظَرَةَ الَّتِي دارَتْ بَيْنَ أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ، وبَيْنَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، قالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: ما تَقُولُ في أصْحابِ الكَبائِرِ ؟ قالَ: أقُولُ إنَّ اللَّهَ وعَدَ وعْدًا، وأوْعَدَ إيعادًا، فَهو مُنْجِزٌ إيعادَهُ، كَما هو مُنْجِزٌ وعْدَهُ، فَقالَ أبُو عَمْرِو بْنِ العَلاءِ: إنَّكَ رَجُلٌ أعْجَمُ، لا أقُولُ أعْجَمُ اللِّسانِ ولَكِنْ أعْجَمُ القَلْبِ، إنَّ العَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الوَعْدِ لُؤْمًا وعَنِ الإيعادِ كَرَمًا وأنْشَدَ: ؎وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُهُ أوْ وعَدْتُهُ ∗∗∗ لَمُكْذِبُ إيعادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي واعْلَمْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ حَكَوْا أنَّ أبا عَمْرِو بْنَ العَلاءِ لَمّا قالَ هَذا الكَلامَ قالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: يا أبا عَمْرٍو فَهَلْ يُسَمّى اللَّهُ مُكَذِّبَ نَفْسِهِ ؟ فَقالَ: لا، فَقالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: فَقَدْ سَقَطَتْ حُجَّتُكَ، قالُوا: فانْقَطَعَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ. وعِنْدِي أنَّهُ كانَ لِأبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ أنْ يُجِيبَ عَنْ هَذا السُّؤالِ فَيَقُولُ: إنَّكَ قِسْتَ الوَعِيدَ عَلى الوَعْدِ وأنا إنَّما ذَكَرْتُ هَذا لِبَيانِ الفَرْقِ بَيْنَ البابَيْنِ، وذَلِكَ لِأنَّ الوَعْدَ حَقٌّ عَلَيْهِ والوَعِيدَ حَقٌّ لَهُ، ومَن أسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ (p-١٦٠)فَقَدْ أتى بِالجُودِ والكَرَمِ، ومَن أسْقَطَ حَقَّ غَيْرِهِ فَذَلِكَ هو اللُّؤْمُ، فَظَهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ، وبَطَلَ قِياسُكَ، وإنَّما ذَكَرْتُ هَذا الشِّعْرَ لِإيضاحِ هَذا الفَرْقِ، فَأمّا قَوْلُكَ: لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَصارَ كاذِبًا ومُكَذِّبًا نَفْسَهُ، فَجَوابُهُ: أنَّ هَذا إنَّما يَلْزَمُ لَوْ كانَ الوَعِيدُ ثابِتًا جَزْمًا مِن غَيْرِ شَرْطٍ، وعِنْدِي جَمِيعُ الوَعِيداتِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ العَفْوِ، فَلا يَلْزَمُ مِن تَرْكِهِ دُخُولُ الكَذِبِ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى، فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الحِكايَةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب