الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ وشَهِدُوا أنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجاءَهُمُ البَيِّناتُ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ جَزاؤُهم أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ والمَلائِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا عَظَّمَ أمْرَ الإسْلامِ والإيمانِ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ وهو في الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ أكَّدَ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ بِأنْ بَيَّنَ وعِيدَ مَن تَرَكَ الإسْلامَ، فَقالَ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في سَبَبِ النُّزُولِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في عَشَرَةِ رَهْطٍ كانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا ولَحِقُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ أخَذُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ، وكانَ فِيهِمْ مَن تابَ فاسْتَثْنى التّائِبَ مِنهم بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ . الثّانِي: نُقِلَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: نَزَلَتْ في يَهُودِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ ومَن دانَ بِدِينِهِمْ كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ أنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وكانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَمّا بُعِثَ وجاءَهم بِالبَيِّناتِ والمُعْجِزاتِ كَفَرُوا بَغْيًا وحَسَدًا. والثّالِثُ: نَزَلَتْ في الحَرْثِ بْنِ سُوَيْدٍ وهو رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ حِينَ نَدِمَ عَلى رِدَّتِهِ فَأرْسَلَ إلى قَوْمِهِ أنِ اسْألُوا لِي هَلْ لِي مِن تَوْبَةٍ ؟ فَأرْسَلَ إلَيْهِ أخُوهُ بِالآيَةِ، فَأقْبَلَ إلى المَدِينَةِ وتابَ عَلى يَدِ الرَّسُولِ ﷺ وقَبِلَ الرَّسُولُ ﷺ تَوْبَتَهُ، قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِلنّاسِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: مِنهم مَن قالَ إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا﴾، وما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الضّالُّونَ﴾ نَزَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ في قِصَّةٍ واحِدَةٍ، ومِنهم مَن جَعَلَ ابْتِداءَ القِصَّةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهم كُفّارٌ﴾ [البقرة: ١٦١]، ثُمَّ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَفِيها أيْضًا قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها في أهْلِ الكِتابِ، والثّانِي: أنَّها في قَوْمٍ مُرْتَدِّينَ عَنِ الإسْلامِ آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا عَلى ما شَرَحْناهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ العُقَلاءُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ﴾، أمّا المُعْتَزِلَةُ فَقالُوا: إنَّ أُصُولَنا تَشْهَدُ بِأنَّهُ تَعالى هَدى جَمِيعَ الخَلْقِ إلى الدِّينِ بِمَعْنى التَّعْرِيفِ، ووَضْعِ الدَّلائِلِ وفِعْلِ الألْطافِ، إذْ لَوْ يَعُمُّ الكُلَّ بِهَذِهِ الأشْياءِ لَصارَ الكافِرُ والضّالُّ مَعْذُورًا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِأنَّهُ لَمْ يَهْدِ هَؤُلاءِ الكُفّارَ، فَلا بُدَّ مِن تَفْسِيرِ هَذِهِ الهِدايَةِ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوى نَصْبِ الدَّلائِلِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ مَنعُ الألْطافِ الَّتِي يُؤْتِيها المُؤْمِنِينَ ثَوابًا لَهم عَلى إيمانِهِمْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا﴾ [العنكبوت: ٦٩]، وقالَ تَعالى: ﴿ويَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: ٧٦]، وقالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى﴾ [محمد: ١٧]، وقالَ: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾ [المائدة: ١٦]، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآياتُ عَلى أنَّ المُهْتَدِيَ قَدْ يَزِيدُهُ اللَّهُ هُدًى. الثّانِي: أنَّ المُرادَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَهْدِيهِمْ إلى الجَنَّةِ (p-١١٢)قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم طَرِيقًا﴾ ﴿إلّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: ١٦٨، ١٦٩]، وقالَ: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ﴾ [يونس: ٩] . والثّالِثُ: أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الهِدايَةِ خَلْقَ المَعْرِفَةِ فِيهِ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ أيْضًا مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ تَعالى إذا خَلَقَ المَعْرِفَةَ كانَ مُؤْمِنًا مُهْتَدِيًا، وإذا لَمْ يَخْلُقْها كانَ كافِرًا ضالًّا، ولَوْ كانَ الكُفْرُ مِنَ اللَّهِ تَعالى لَمْ يَصِحَّ أنْ يَذُمَّهُمُ اللَّهُ عَلى الكُفْرِ ولَمْ يَصِحَّ أنْ يُضافَ الكُفْرُ إلَيْهِمْ، لَكِنَّ الآيَةَ ناطِقَةٌ بِكَوْنِهِمْ مَذْمُومِينَ بِسَبَبِ الكُفْرِ وكَوْنِهِمْ فاعِلِينَ لِلْكُفْرِ، فَإنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ﴾، فَأضافَ الكُفْرَ إلَيْهِمْ وذَمَّهم عَلى ذَلِكَ الكُفْرِ، فَهَذا جُمْلَةُ أقْوالِهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ، وأمّا أهْلُ السُّنَّةِ فَقالُوا: المُرادُ مِنَ الهِدايَةِ خَلْقُ المَعْرِفَةِ، قالُوا: وقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ في دارِ التَّكْلِيفِ أنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَقْصِدُ العَبْدُ إلى تَحْصِيلِهِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يَخْلُقُهُ عَقِيبَ قَصْدِ العَبْدِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: كَيْفَ يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهِمُ المَعْرِفَةَ وهم قَصَدُوا تَحْصِيلَ الكُفْرِ أوْ أرادُوهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ ﴿واشْهَدُوا﴾ فِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ عَطْفٌ، والتَّقْدِيرُ بَعْدَ أنْ آمَنُوا وبَعْدَ أنْ شَهِدُوا أنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ؛ لِأنَّ عَطْفَ الفِعْلِ عَلى الِاسْمِ لا يَجُوزُ فَهو في الظّاهِرِ وإنِ اقْتَضى عَطْفَ الفِعْلِ عَلى الِاسْمِ لَكِنَّهُ في المَعْنى عَطَفَ الفِعْلَ عَلى الفِعْلِ. الثّانِي: أنَّ الواوَ لِلْحالِ بِإضْمارِ ”قَدْ“، والتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ حالَ ما شَهِدُوا أنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ، وبَعْدَ الشَّهادَةِ بِأنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وقَدْ جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ، فَعَطَفَ الشَّهادَةَ بِأنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، عَلى الإيمانِ، والمَعْطُوفُ مُغايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ أنَّ الشَّهادَةَ بِأنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ مُغايِرٌ لِلْإيمانِ، وجَوابُهُ: أنَّ مَذْهَبَنا أنَّ الإيمانَ هو التَّصْدِيقُ بِالقَلْبِ، والشَّهادَةَ هي الإقْرارُ بِاللِّسانِ، وهُما مُتَغايِرانِ فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِن هَذا الوَجْهِ دالَّةً عَلى أنَّ الإيمانَ مُغايِرٌ لِلْإقْرارِ بِاللِّسانِ وأنَّهُ مَعْنًى قائِمٌ بِالقَلْبِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى اسْتَعْظَمَ كُفْرَ القَوْمِ مِن حَيْثُ إنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ خِصالٍ ثَلاثٍ: أحَدُها: بَعْدَ الإيمانِ، وثانِيها: بَعْدَ شَهادَةِ كَوْنِ الرَّسُولِ حَقًّا. وثالِثُها: بَعْدَ مَجِيءِ البَيِّناتِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ ذَلِكَ الكُفْرُ صَلاحًا بَعْدَ البَصِيرَةِ وبَعْدَ إظْهارِ الشَّهادَةِ، فَيَكُونُ الكُفْرُ بَعْدَ هَذِهِ الأشْياءِ أقْبَحَ؛ لِأنَّ مِثْلَ هَذا الكُفْرِ يَكُونُ كالمُعانَدَةِ والجُحُودِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ زَلَّةَ العالِمِ أقْبَحُ مِن زَلَّةِ الجاهِلِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ فَفِيهِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: قالَ في أوَّلِ الآيَةِ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا﴾، وقالَ في آخِرِها: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ وهَذا تَكْرارٌ. والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ﴾ مُخْتَصٌّ بِالمُرْتَدِّينَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَمَّمَ ذَلِكَ الحُكْمَ في المُرْتَدِّ وفي الكافِرِ الأصْلِيِّ، فَقالَ: ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ . السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ سُمِّيَ الكافِرُ ظالِمًا ؟ الجَوابُ: قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [ لُقْمانَ: ١٣]، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ الكافِرَ أوْرَدَ نَفْسَهُ مَوارِدَ (p-١١٣)البَلاءِ والعِقابِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الكُفْرِ، فَكانَ ظالِمًا لِنَفْسِهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ جَزاؤُهم أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ والمَلائِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها﴾، والمَعْنى أنَّهُ تَعالى حَكَمَ بِأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ يَمْنَعُهُمُ اللَّهُ تَعالى مِن هِدايَتِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ الأمْرَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِ، بَلْ كَما لا يَهْدِيهِمْ في الدُّنْيا يَلْعَنُهُمُ اللَّعْنَ العَظِيمَ ويُعَذِّبُهم في الآخِرَةِ عَلى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ والخُلُودِ. واعْلَمْ أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ مُخالِفَةٌ لِلَعْنَةِ المَلائِكَةِ؛ لِأنَّ لَعْنَتَهُ بِالإبْعادِ مِنَ الجَنَّةِ وإنْزالِ العُقُوبَةِ والعَذابِ، واللَّعْنَةُ مِنَ المَلائِكَةِ هي بِالقَوْلِ، وكَذَلِكَ مِنَ النّاسِ، وكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ لَهم بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وكُفْرِهِمْ، فَصَحَّ أنْ يَكُونَ جَزاءً لِذَلِكَ. وهاهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ عَمَّ جَمِيعَ النّاسِ ومَن يُوافِقُهُ لا يَلْعَنُهُ ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ لَهُ أنْ يَلْعَنَهُ وإنْ كانَ لا يَلْعَنُهُ. الثّانِي: أنَّهُ في الآخِرَةِ يَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا، قالَ تَعالى: ﴿كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها﴾ [الأعراف: ٣٨]، وقالَ: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [العنكبوت: ٢٥]، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ لِلْكُفّارِ مِنَ الكُفّارِ. والثّالِثُ: كَأنَّ النّاسَ هُمُ المُؤْمِنُونَ، والكُفّارَ لَيْسُوا مِنَ النّاسِ، ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ لَعْنَ الثَّلاثِ قالَ: (أجْمَعِينَ) . الرّابِعُ: وهو الأصَحُّ عِنْدِي أنَّ جَمِيعَ الخَلْقِ يَلْعَنُونَ المُبْطِلَ والكافِرَ، ولَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ في نَفْسِهِ أنَّهُ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ ولا بِكافِرٍ، فَإذا لَعَنَ الكافِرَ وكانَ هو في عِلْمِ اللَّهِ كافِرًا، فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَهُ وإنْ كانَ لا يَعْلَمُ ذَلِكَ. السُّؤالُ الثّانِي: قَوْلُهُ: (خالِدِينَ فِيها) أيْ خالِدِينَ في اللَّعْنَةِ، فَما خُلُودُ اللَّعْنَةِ ؟ . قُلْنا: فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ التَّخْلِيدَ في اللَّعْنَةِ عَلى مَعْنى أنَّهم يَوْمَ القِيامَةِ لا يَزالُ يَلْعَنُهُمُ المَلائِكَةُ والمُؤْمِنُونَ ومَن مَعَهم في النّارِ، فَلا يَخْلُو شَيْءٌ مِن أحْوالِهِمْ مِن أنْ يَلْعَنَهم لاعِنٌ مِن هَؤُلاءِ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِخُلُودِ اللَّعْنِ خُلُودُ أثَرِ اللَّعْنِ؛ لِأنَّ اللَّعْنَ يُوجِبُ العِقابَ، فَعُبِّرَ عَنْ خُلُودِ أثَرِ اللَّعْنِ بِخُلُودِ اللَّعْنِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن أعْرَضَ عَنْهُ فَإنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيامَةِ وِزْرًا﴾ ﴿خالِدِينَ فِيهِ﴾ [طه: ١٠٠، ١٠١] . الثّالِثُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ قَوْلُهُ: (خالِدِينَ فِيها) أيْ في جَهَنَّمَ، فَعَلى هَذا الكِنايَةُ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: (خالِدِينَ فِيها) نُصِبَ عَلى الحالِ مِمّا قَبْلَهُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ مَعْنى الإنْظارِ التَّأْخِيرُ، قالَ تَعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]، فالمَعْنى أنَّهُ لا يَجْعَلُ عَذابَهم أخَفَّ ولا يُؤَخِّرُ العِقابَ مِن وقْتٍ إلى وقْتٍ، وهَذا تَحْقِيقُ قَوْلِ المُتَكَلِّمِينَ: إنَّ العَذابَ المُلْحِقَ بِالكافِرِ مَضَرَّةٌ خالِصَةٌ عَنْ شَوائِبِ المَنافِعِ دائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، نَعُوذُ مِنهُ بِاللَّهِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ والمَعْنى إلّا الَّذِينَ تابُوا مِنهُ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ التَّوْبَةَ وحْدَها لا تَكْفِي حَتّى يَنْضافَ إلَيْها العَمَلُ الصّالِحُ، فَقالَ: (وأصْلَحُوا) أيْ أصْلَحُوا باطِنَهم مَعَ الحَقِّ بِالمُراقَباتِ وظاهِرَهم مَعَ الخَلْقِ بِالعِباداتِ، وذَلِكَ بِأنْ يُعْلِنُوا بِأنّا كُنّا عَلى الباطِلِ حَتّى أنَّهُ لَوِ اغْتَرَّ بِطَرِيقَتِهِمُ الفاسِدَةِ مُغْتَرٌّ رَجَعَ عَنْها. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: غَفُورٌ لِقَبائِحِهِمْ في الدُّنْيا بِالسَّتْرِ، رَحِيمٌ في الآخِرَةِ بِالعَفْوِ. الثّانِي: غَفُورٌ بِإزالَةِ العِقابِ، رَحِيمٌ بِإعْطاءِ الثَّوابِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ﴾ (p-١١٤)﴿يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]، ودَخَلَتِ الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لِأنَّهُ الجَزاءُ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: إنْ تابُوا فَإنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب