الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى كَما حَكى عَنِ الرّاسِخِينَ أنَّهم يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ حَكى عَنْهم أنَّهم يَقُولُونَ ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا﴾ وحَذْفُ (يَقُولُونَ) لِدَلالَةَ الأوَّلِ عَلَيْهِ، وكَما في قَوْلِهِ ﴿ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا﴾ [آل عمران: ١٩١] وفي هَذِهِ الآيَةِ اخْتَلَفَ كَلامُ أهْلِ السُّنَّةِ وكَلامُ المُعْتَزِلَةِ. أمّا كَلامُ أهْلِ السُّنَّةِ فَظاهِرٌ، وذَلِكَ لِأنَّ القَلْبَ صالِحٌ لِأنْ يَمِيلَ إلى الإيمانِ، وصالِحٌ لِأنْ يَمِيلَ إلى الكُفْرِ، ويَمْتَنِعُ أنْ يَمِيلَ إلى أحَدِ الجانِبَيْنِ إلّا عِنْدَ حُدُوثِ داعِيَةٍ وإرادَةٍ يُحْدِثُها اللَّهُ تَعالى، فَإنْ كانَتْ تِلْكَ الدّاعِيَةُ داعِيَةَ الكُفْرِ، فَهي الخِذْلانُ، والإزاغَةُ، والصَّدُّ، والخَتْمُ، والطَّبْعُ، والرَّيْنُ، والقَسْوَةُ، والوَقْرُ، والكِنانُ، وغَيْرُها مِنَ الألْفاظِ الوارِدَةِ في القُرْآنِ، وإنْ كانَتْ تِلْكَ الدّاعِيَةُ داعِيَةَ الإيمانِ فَهي: التَّوْفِيقُ، (p-١٥٦)والرَّشادُ، والهِدايَةُ، والتَّسْدِيدُ، والتَّثْبِيتُ، والعِصْمَةُ، وغَيْرُها مِنَ الألْفاظِ الوارِدَةِ في القُرْآنِ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”«قَلْبُ المُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِن أصابِعِ الرَّحْمَنِ» “ والمُرادُ مِن هَذَيْنِ الأُصْبُعَيْنِ الدّاعِيَتانِ، فَكَما أنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الإنْسانِ يَتَقَلَّبُ كَما يُقَلِّبُهُ الإنْسانُ بِواسِطَةِ ذَيْنِكَ الأُصْبُعَيْنِ، فَكَذَلِكَ القَلْبُ لِكَوْنِهِ بَيْنَ الدّاعِيَتَيْنِ يَتَقَلَّبُ كَما يُقَلِّبُهُ الحَقُّ بِواسِطَةِ تَيْنِكَ الدّاعِيَتَيْنِ، ومَن أنْصَفَ ولَمْ يَتَعَسَّفْ، وجَرَّبَ نَفْسَهُ وجَدَ هَذا المَعْنى كالشَّيْءِ المَحْسُوسِ، ولَوْ جَوَّزَ حُدُوثَ إحْدى الدّاعِيَتَيْنِ مِن غَيْرِ مُحْدِثٍ ومُؤَثِّرٍ لَزِمَهُ نَفْيُ الصّانِعِ، وكانَ ﷺ يَقُولُ: ”«يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ» “ ومَعْناهُ ما ذَكَرْنا فَلَمّا آمَنَ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ بِكُلِّ ما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى مِنَ المُحْكَماتِ والمُتَشابِهاتِ تَضَرَّعُوا إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في أنْ لا يَجْعَلَ قُلُوبَهم مائِلَةً إلى الباطِلِ بَعْدَ أنْ جَعَلَها مائِلَةً إلى الحَقِّ، فَهَذا كَلامٌ بُرْهانِيٌّ مُتَأكَّدٌ بِتَحْقِيقٍ قُرْآنِيٍّ. ومِمّا يُؤَكِّدُ ما ذَكَرْناهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى مَدَحَ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّهم لا يَتَّبِعُونَ المُتَشابِهاتِ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِها عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ، وتَرْكِ الخَوْضِ فِيها فَيَبْعُدُ مِنهم في مِثْلِ هَذا الوَقْتِ أنْ يَتَكَلَّمُوا بِالمُتَشابِهِ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونُوا قَدْ تَكَلَّمُوا بِهَذا الدُّعاءِ لِاعْتِقادِهِمْ أنَّهُ مِنَ المُحْكَماتِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى حَكى ذَلِكَ عَنْهم في مَعْرِضِ المَدْحِ لَهم والثَّناءِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ أنَّهم قالُوا ذَلِكَ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن أقْوى المُحْكَماتِ، وهَذا كَلامٌ مَتِينٌ. وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ قالُوا: لَمّا دَلَّتِ الدَّلائِلُ عَلى أنَّ الزَّيْغَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى، وجَبَ صَرْفُ هَذِهِ الآيَةِ إلى التَّأْوِيلِ، فَأمّا دَلائِلُهم فَقَدْ ذَكَرْناها في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦] . ومِمّا احْتَجُّوا بِهِ في هَذا المَوْضِعِ خاصَّةً قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] وهو صَرِيحٌ في أنَّ ابْتِداءَ الزَّيْغِ مِنهم، وأمّا تَأْوِيلاتُهم في هَذِهِ الآيَةِ فَمِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: وهو الَّذِي قالَهُ الجُبّائِيُّ واخْتارَهُ القاضِي: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنا﴾ يَعْنِي لا تَمْنَعْها الألْطافَ الَّتِي مَعَها يَسْتَمِرُّ قَلْبُهم عَلى صِفَةِ الإيمانِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا مَنَعَهم ألْطافَهُ عِنْدَ اسْتِحْقاقِهِمْ مَنعَ ذَلِكَ جازَ أنْ يُقالَ: أزاغَهم ويَدُلُّ عَلى هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ والثّانِي: قالَ الأصَمُّ: لا تُبْلِنا بِبَلْوى تَزِيغُ عِنْدَها قُلُوبُنا فَهو كَقَوْلِهِ ﴿ولَوْ أنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكم أوِ اخْرُجُوا مِن دِيارِكم ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنهُمْ﴾ [النساء: ٦٦] وقالَ: ﴿لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فَضَّةٍ﴾ [الزخرف: ٣٣] والمَعْنى لا تُكَلِّفْنا مِنَ العِباداتِ ما لا نَأْمَنُ مَعَهُ الزَّيْغَ، وقَدْ يَقُولُ القائِلُ: لا تَحْمِلْنِي عَلى إيذائِكَ أيْ لا تَفْعَلْ ما أصِيرُ عِنْدَهُ مُؤْذِيًا لَكَ. الثّالِثُ: قالَ الكَعْبِيُّ ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنا﴾ أيْ لا تُسَمِّنا بِاسْمِ الزّائِغِ، كَما يُقالُ: فُلانٌ يُكَفِّرُ فُلانًا إذا سَمّاهُ كافِرًا. والرّابِعُ: قالَ الجُبّائِيُّ: أيْ لا تُزِغْ قُلُوبَنا عَنْ جَنَّتِكَ وثَوابِكَ بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا؛ وهَذا قَرِيبٌ مِنَ الوَجْهِ الأوَّلِ إلّا أنْ يُحْمَلَ عَلى شَيْءٍ آخَرَ، وهو أنَّهُ تَعالى إذا عَلِمَ أنَّهُ مُؤْمِنٌ في الحالِ، وعَلِمَ أنَّهُ لَوْ بَقِيَ إلى السَّنَةِ الثّانِيَةِ لَكَفَرَ، فَقَوْلُهُ ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنا﴾ مَحْمُولٌ عَلى أنْ يُمِيتَهُ قَبْلَ أنْ يَصِيرَ كافِرًا، وذَلِكَ لِأنَّ إبْقاءَهُ حَيًّا إلى السَّنَةِ الثّانِيَةِ يَجْرِي مَجْرى ما إذا أزاغَهُ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ. الخامِسُ: قالَ الأصَمُّ ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنا﴾ عَنْ كَمالِ العَقْلِ بِالجُنُونِ بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا بِنُورِ العَقْلِ. السّادِسُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: احْرُسْنا مِنَ الشَّيْطانِ ومِن شُرُورِ أنْفُسِنا حَتّى لا نَزِيغَ. فَهَذا جُمْلَةُ ما ذَكَرُوهُ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ وهي بِأسْرِها ضَعِيفَةٌ. (p-١٥٧)أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ مِن مَذْهَبِهِمْ أنَّ كُلَّ ما صَحَّ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى أنْ يَفْعَلَ في حَقِّهِمْ لُطْفًا وجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وُجُوبًا لَوْ تَرَكَهُ لَبَطَلَتْ إلَهِيَّتُهُ، ولَصارَ جاهِلًا ومُحْتاجًا والشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ فَأيُّ حاجَةٍ إلى الدُّعاءِ في طَلَبِهِ ! بَلْ هَذا القَوْلُ يَسْتَمِرُّ عَلى قَوْلِ بِشْرِ بْنِ المُعْتَمِرِ وأصْحابِهِ الَّذِينَ لا يُوجِبُونَ عَلى اللَّهِ فِعْلَ جَمِيعِ الألْطافِ. وأمّا الثّانِي: فَضَعِيفٌ، لِأنَّ التَّشْدِيدَ في التَّكْلِيفِ إنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى لَهُ أثَرًا في حَمْلِ المُكَلَّفِ عَلى القَبِيحِ قَبُحَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ لا أثَرَ لَهُ البَتَّةَ في حَمْلِ المُكَلَّفِ عَلى فِعْلِ القَبِيحِ كانَ وجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيما يَرْجِعُ إلى كَوْنِ العَبْدِ مُطِيعًا وعاصِيًا، فَلا فائِدَةَ في صَرْفِ الدُّعاءِ إلَيْهِ. وأمّا الثّالِثُ: فَهو أنَّ التَّسْمِيَةَ بِالزَّيْغِ والكُفْرِ دائِرٌ مَعَ الكُفْرِ وجُودًا وعَدَمًا والكُفْرُ والزَّيْغُ بِاخْتِيارِ العَبْدِ، فَلا فائِدَةَ في قَوْلِهِ لا تُسَمِّنا بِاسْمِ الزَّيْغِ والكُفْرِ. وأمّا الرّابِعُ: فَهو أنَّهُ لَوْ كانَ عِلْمُهُ تَعالى بِأنَّهُ يَكْفُرُ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ، يُوجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُمِيتَهُ لَكانَ عِلْمُهُ بِأنْ لا يُؤْمِنَ قَطُّ ويَكْفُرَ طُولَ عُمُرِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ لا يَخْلُقُهُ. وأمّا الخامِسُ: وهو حَمْلُهُ عَلى إبْقاءِ العَقْلِ فَضَعِيفٌ؛ لِأنَّ هَذا مُتَعَلِّقٌ بِما قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ . وأمّا السّادِسُ: وهو أنَّ الحِراسَةَ مِنَ الشَّيْطانِ ومِن شُرُورِ النَّفْسِ إنْ كانَ مَقْدُورًا وجَبَ فِعْلُهُ، فَلا فائِدَةَ في الدُّعاءِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا تَعَذَّرَ فِعْلُهُ فَلا فائِدَةَ في الدُّعاءِ. فَظَهَرَ بِما ذَكَرْنا سُقُوطُ هَذِهِ الوُجُوهِ، وأنَّ الحَقَّ ما ذَهَبْنا إلَيْهِ. فَإنْ قِيلَ: فَعَلى ذَلِكَ القَوْلِ كَيْفَ الكَلامُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] . قُلْنا: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى يُزِيغُهُمُ ابْتِداءً فَعِنْدَ ذَلِكَ يَزِيغُونَ، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلى هَذا الزَّيْغِ إزاغَةٌ أُخْرى سِوى الأُولى مِنَ اللَّهِ تَعالى وكُلُّ ذَلِكَ لا مُنافاةَ فِيهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا﴾ أيْ بَعْدَ أنْ جَعَلْتَنا مُهْتَدِينَ، وهَذا أيْضًا صَرِيحٌ في أنَّ حُصُولَ الهِدايَةِ في القَلْبِ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ واعْلَمْ أنَّ تَطْهِيرَ القَلْبِ عَمّا لا يَنْبَغِي مُقَدَّمٌ عَلى تَنْوِيرِهِ مِمّا يَنْبَغِي، فَهَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ سَألُوا رَبَّهم أوَّلًا أنْ لا يَجْعَلَ قُلُوبَهم مائِلَةً إلى الباطِلِ والعَقائِدِ الفاسِدَةِ، ثُمَّ إنَّهم أتْبَعُوا ذَلِكَ بِأنْ طَلَبُوا مِن رَبِّهِمْ أنْ يُنَوِّرَ قُلُوبَهم بِأنْوارِ المَعْرِفَةِ، وجَوارِحَهم وأعْضاءَهم بِزِينَةِ الطّاعَةِ، وإنَّما قالَ: (رَحْمَةً) لِيَكُونَ ذَلِكَ شامِلًا لِجَمِيعِ أنْواعِ الرَّحْمَةِ، فَأوَّلُها: أنْ يَحْصُلَ في القَلْبِ نُورُ الإيمانِ والتَّوْحِيدِ والمَعْرِفَةِ. وثانِيها: أنْ يَحْصُلَ في الجَوارِحِ والأعْضاءِ نُورُ الطّاعَةِ والعُبُودِيَّةِ والخِدْمَةِ. وثالِثُها: أنْ يَحْصُلَ في الدُّنْيا سُهُولَةُ أسْبابِ المَعِيشَةِ مِنَ الأمْنِ والصِّحَّةِ والكِفايَةِ. ورابِعُها: أنْ يَحْصُلَ عِنْدَ المَوْتِ سُهُولَةُ سَكَراتِ المَوْتِ. وخامِسُها: أنْ يَحْصُلَ في القَبْرِ سُهُولَةُ السُّؤالِ، وسُهُولَةُ ظُلْمَةِ القَبْرِ. وسادِسُها: أنْ يَحْصُلَ في القِيامَةِ سُهُولَةُ العُقابِ والخِطابِ وغُفْرانُ السَّيِّئاتِ وتَرْجِيحُ الحَسَناتِ؛ فَقَوْلُهُ ﴿مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الأقْسامِ، (p-١٥٨)ولَمّا ثَبَتَ بِالبَراهِينِ الباهِرَةِ القاهِرَةِ أنَّهُ لا رَحِيمَ إلّا هو، ولا كَرِيمَ إلّا هو، لا جَرَمَ أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿مِن لَدُنْكَ﴾ تَنْبِيهًا لِلْعَقْلِ والقَلْبِ والرُّوحِ عَلى أنَّ المَقْصُودَ لا يَحْصُلُ إلّا مِنهُ سُبْحانَهُ، ولَمّا كانَ هَذا المَطْلُوبُ في غايَةِ العَظَمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى العَبْدِ لا جَرَمَ ذَكَرَها عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: أطْلُبُ رَحْمَةً وأيَّةُ رَحْمَةٍ، أطْلُبُ رَحْمَةً مِن لَدُنْكَ، وتَلِيقُ بِكَ؛ وذَلِكَ يُوجِبُ غايَةَ العَظَمَةِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ﴾ كَأنَّ العَبْدَ يَقُولُ: إلَهِي هَذا الَّذِي طَلَبْتُهُ مِنكَ في هَذا الدُّعاءِ عَظِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ، لَكِنَّهُ حَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلى كَمالِ كَرَمِكَ، وغايَةِ جُودِكَ ورَحْمَتِكَ، فَأنْتَ الوَهّابُ الَّذِي مِن هِبَتِكَ حَصَلَتْ حَقائِقُ الأشْياءِ وذَواتُها وماهِيّاتُها ووُجُوداتُها فَكُلُّ ما سِواكَ فَمِن جُودِكَ وإحْسانِكَ وكَرَمِكَ، يا دائِمَ المَعْرُوفِ، يا قَدِيمَ الإحْسانِ، لا تُخَيِّبْ رَجاءَ هَذا المِسْكِينِ، ولا تَرُدَّ دُعاءَهُ، واجْعَلْهُ بِفَضْلِكَ أهْلًا لِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرّاحِمِينَ وأكْرَمَ الأكْرَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب