الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ في هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ ذَكَرْنا في اتِّصالِ قَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ بِما قَبْلَهُ احْتِمالَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ ذَلِكَ كالتَّقْرِيرِ لِكَوْنِهِ قَيُّومًا. والثّانِي: أنَّ ذَلِكَ الجَوابُ عَنْ شُبَهِ النَّصارى، فَأمّا عَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى أرادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّهُ قَيُّومٌ وقائِمٌ بِمَصالِحِ الخَلْقِ، ومَصالِحُ الخَلْقِ قِسْمانِ: جُسْمانِيَّةٌ ورُوحانِيَّةٌ، أمّا الجُسْمانِيَّةُ فَأشْرَفُها تَعْدِيلُ البِنْيَةِ، وتَسْوِيَةُ المِزاجِ عَلى أحْسَنِ الصُّوَرِ وأكْمَلِ الأشْكالِ، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ﴾ وأمّا الرُّوحانِيَّةُ فَأشْرَفُها العِلْمُ الَّذِي تَصِيرُ الرُّوحُ مَعَهُ كالمِرْآةِ المَجْلُوَّةِ الَّتِي تَجَلَّتْ صُوَرُ جَمِيعِ المَوْجُوداتِ فِيها وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ وأمّا عَلى الِاحْتِمالِ الثّانِي فَقَدْ ذَكَرْنا أنَّ مِن جُمْلَةِ شُبَهِ النَّصارى تَمَسُّكُهم بِما جاءَ في القُرْآنِ مِن قَوْلِهِ تَعالى في صِفَةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: إنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ القُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلى (p-١٤٥)مُحْكَمٍ وعَلى مُتَشابِهٍ، والتَّمَسُّكُ بِالمُتَشابِهاتِ غَيْرُ جائِزٍ. فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ النَّظْمِ، هو في غايَةِ الحُسْنِ والِاسْتِقامَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى أنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، ودَلَّ عَلى أنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشابِهٌ، ودَلَّ عَلى أنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ، وبَعْضَهُ مُتَشابِهٌ.
أمّا ما دَلَّ عَلى أنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُحْكَمٌ، فَهو قَوْلُهُ ﴿الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ [يونس: ١] ﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ [هود: ١] فَذَكَرَ في هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ أنَّ جَمِيعَهُ مُحْكَمٌ، والمُرادُ مِنَ المُحْكَمِ بِهَذا المَعْنى كَوْنُهُ كَلامًا حَقًّا فَصِيحَ الألْفاظِ صَحِيحَ المَعانِي وكُلُّ قَوْلٍ وكَلامٍ يُوجَدُ كانَ القُرْآنُ أفْضَلَ مِنهُ في فَصاحَةِ اللَّفْظِ وقُوَّةِ المَعْنى ولا يَتْمَكَّنُ أحَدٌ مِن إتْيانِ كَلامٍ يُساوِي القُرْآنَ في هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ، والعَرَبُ تَقُولُ في البِناءِ الوَثِيقِ والعَقْدِ الوَثِيقِ الَّذِي لا يُمْكِنُ حَلُّهُ: مُحْكَمٌ، فَهَذا مَعْنى وصْفِ جَمِيعِهِ بِأنَّهُ مُحْكَمٌ.
وأمّا ما دَلَّ عَلى أنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ مُتَشابِهٌ، فَهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ﴾ [الزمر: ٢٣] والمَعْنى أنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا في الحُسْنِ ويُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] أيْ لَكانَ بَعْضُهُ وارِدًا عَلى نَقِيضِ الآخَرِ، ولَتَفاوَتَ نَسَقُ الكَلامِ في الفَصاحَةِ والرَّكاكَةِ.
وأمّا ما دَلَّ عَلى أنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ وبَعْضَهُ مُتَشابِهٌ، فَهو هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها، ولا بُدَّ لَنا مِن تَفْسِيرِ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ بِحَسَبِ أصْلِ اللُّغَةِ، ثُمَّ مِن تَفْسِيرِهِما في عُرْفِ الشَّرِيعَةِ: أمّا المُحْكَمُ فالعَرَبُ تَقُولُ: حاكَمْتُ وحَكَّمْتُ وأحْكَمْتُ بِمَعْنى رَدَدْتُ، ومَنَعْتُ، والحاكِمُ يَمْنَعُ الظّالِمَ عَنِ الظُّلْمِ، وحَكَمَةُ اللِّجامِ الَّتِي هي تَمْنَعُ الفَرَسَ عَنِ الِاضْطِرابِ، وفي حَدِيثِ النَّخَعِيِّ: أحْكِمِ اليَتِيمَ كَما تُحَكِّمُ ولَدَكَ أيِ امْنَعْهُ عَنِ الفَسادِ، وقالَ جَرِيرٌ: أحْكِمُوا سُفَهاءَكم، أيِ امْنَعُوهم، وبِناءٌ مُحْكَمٌ أيْ وثِيقٌ يَمْنَعُ مَن تَعَرَّضَ لَهُ، وسُمِّيَتِ الحِكْمَةُ حِكْمَةً لِأنَّها تَمْنَعُ عَمّا لا يَنْبَغِي، وأمّا المُتَشابِهُ فَهو أنْ يَكُونَ أحَدُ الشَّيْئَيْنِ مُشابِهًا لِلْآخَرِ بِحَيْثُ يَعْجِزُ الذِّهْنُ عَنِ التَّمْيِيزِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا﴾ [البقرة: ٧٠] وقالَ في وصْفِ ثِمارِ الجَنَّةِ ﴿وأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] أيْ مُتَّفِقَ المَنظَرِ مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: ١١٨] ومِنهُ يُقالُ: اشْتَبَهَ عَلَيَّ الأمْرانِ إذا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُما، ويُقالُ لِأصْحابِ المَخارِيقِ: أصْحابُ الشُّبَهِ، وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الحَلالُ بَيِّنٌ والحَرامُ بَيِّنٌ وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُتَشابِهاتٌ» “ وفي رِوايَةٍ أُخْرى مُشْتَبِهاتٌ.
ثُمَّ لَمّا كانَ مِن شَأْنِ المُتَشابِهَيْنِ عَجْزُ الإنْسانِ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُما سُمِّيَ كُلُّ ما لا يَهْتَدِي الإنْسانُ إلَيْهِ بِالمُتَشابِهِ، إطْلاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلى المُسَبَّبِ، ونَظِيرُهُ المُشْكِلُ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأنَّهُ أشْكَلَ، أيْ دَخَلَ في شَكْلِ غَيْرِهِ فَأشْبَهَهُ وشابَهَهُ، ثُمَّ يُقالُ لِكُلِّ ما غَمُضَ وإنْ لَمْ يَكُنْ غُمُوضُهُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ مُشْكِلٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ الَّذِي لا يَعْرِفُ أنَّ الحَقَّ ثُبُوتُهُ أوْ عَدَمُهُ، وكانَ الحُكْمُ بِثُبُوتِهِ مُساوِيًا لِلْحُكْمِ بِعَدَمِهِ في العَقْلِ والذِّهْنِ، ومُشابِهًا لَهُ، وغَيْرَ مُتَمَيِّزٍ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ بِمَزِيدِ رُجْحانٍ، فَلا جَرَمَ سُمِّيَ غَيْرُ المَعْلُومِ بِأنَّهُ مُتَشابِهٌ، فَهَذا تَحْقِيقُ القَوْلِ في المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ بِحَسَبِ أصْلِ اللُّغَةِ، فَنَقُولُ:
النّاسُ قَدْ أكْثَرُوا مِنَ الوُجُوهِ في تَفْسِيرِ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، ونَحْنُ نَذْكُرُ الوَجْهَ المُلَخَّصَ الَّذِي عَلَيْهِ أكْثَرُ المُحَقِّقِينَ، ثُمَّ نَذْكُرُ عَقِيبَهُ أقْوالَ النّاسِ فِيهِ فَنَقُولُ: (p-١٤٦)اللَّفْظُ الَّذِي جُعِلَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى، فَإمّا أنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِ ذَلِكَ المَعْنى، وإمّا أنْ لا يَكُونَ، فَإذا كانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى ولا يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ فَهَذا هو النَّصُّ، وأمّا إنْ كانَ مُحْتَمِلًا لِغَيْرِهِ فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ احْتِمالُهُ لِأحَدِهِما راجِحًا عَلى الآخَرِ، وإمّا أنْ لا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ احْتِمالُهُ لَهُما عَلى السَّواءِ، فَإنْ كانَ احْتِمالُهُ لِأحَدِهِما راجِحًا عَلى الآخَرِ سُمِّيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلى الرّاجِحِ ظاهِرًا، وبِالنِّسْبَةِ إلى المَرْجُوحِ مُؤَوَّلًا، وأمّا إنْ كانَ احْتِمالُهُ لَهُما عَلى السَّوِيَّةِ كانَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِما مَعًا مُشْتَرِكًا، وبِالنِّسْبَةِ إلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَلى التَّعْيِينِ مُجْمَلًا، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْناهُ أنَّ اللَّفْظَ إمّا أنْ يَكُونَ نَصًّا، أوْ ظاهِرًا، أوْ مُؤَوَّلًا، أوْ مُشْتَرِكًا، أوْ مُجْمَلًا، أمّا النَّصُّ والظّاهِرُ فَيَشْتَرِكانِ في حُصُولِ التَّرْجِيحِ، إلّا أنَّ النَّصَّ راجِحٌ مانِعٌ مِنَ الغَيْرِ، والظّاهِرُ راجِحٌ غَيْرُ مانِعٍ مِنَ الغَيْرِ، فَهَذا القَدْرُ المُشْتَرَكُ هو المُسَمّى بِالمُحْكَمِ.
وأمّا المُجْمَلُ والمُؤَوَّلُ فَهُما مُشْتَرِكانِ في أنَّ دَلالَةَ اللَّفْظِ عَلَيْهِ غَيْرُ راجِحَةٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ راجِحًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْجُوحٍ، والمُؤَوَّلُ مَعَ أنَّهُ غَيْرُ راجِحٍ فَهو مَرْجُوحٌ لا بِحَسَبَ الدَّلِيلِ المُنْفَرِدِ، فَهَذا القَدْرُ المُشْتَرَكُ هو المُسَمّى بِالمُتَشابِهِ، لِأنَّ عَدَمَ الفَهْمِ حاصِلٌ في القِسْمَيْنِ جَمِيعًا وقَدْ بَيَّنّا أنَّ ذَلِكَ يُسَمّى مُتَشابِهًا إمّا لِأنَّ الَّذِي لا يُعْلَمُ يَكُونُ النَّفْيُ فِيهِ مُشابِهًا لِلْإثْباتِ في الذِّهْنِ، وإمّا لِأجْلِ أنَّ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ التَّشابُهُ يَصِيرُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَأُطْلِقَ لَفْظُ المُتَشابِهِ عَلى ما لا يُعْلَمُ إطْلاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلى المُسَبَّبِ، فَهَذا هو الكَلامُ المُحَصَّلُ في المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ اللَّفْظَ إذا كانَ بِالنِّسْبَةِ إلى المَفْهُومَيْنِ عَلى السَّوِيَّةِ، فَهاهُنا يَتَوَقَّفُ الذِّهْنُ، مِثْلَ: القُرْءِ، بِالنِّسْبَةِ إلى الحَيْضِ والطُّهْرِ، إنَّما المُشْكِلُ بِأنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِأصْلِ وضْعِهِ راجِحًا في أحَدِ المَعْنَيَيْنِ، ومَرْجُوحًا في الآخَرِ، ثُمَّ كانَ الرّاجِحُ باطِلًا، والمَرْجُوحُ حَقًّا، ومِثالُهُ مِنَ القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْها القَوْلُ﴾ [الإسراء: ١٦] فَظاهِرُ هَذا الكَلامِ أنَّهم يُؤْمَرُونَ بِأنْ يَفْسُقُوا، ومُحْكَمُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ [الأعراف: ٢٨] رَدًّا عَلى الكُفّارِ فِيما حُكِيَ عَنْهم ﴿وإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللَّهُ أمَرَنا بِها﴾ [الأعراف: ٢٨] وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧] وظاهِرُ النِّسْيانِ ما يَكُونُ ضِدًّا لِلْعِلْمِ، ومَرْجُوحُهُ التَّرْكُ والآيَةُ المُحْكَمَةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى﴾ [طه: ٥٢] .
واعْلَمْ أنَّ هَذا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ فَنَقُولُ: إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن أصْحابِ المَذاهِبِ يَدَّعِي أنَّ الآياتِ المُوافِقَةَ لِمَذْهَبِهِ مَحْكَمَةٌ، وأنَّ الآياتِ المُوافِقَةَ لِقَوْلِ خَصْمِهِ مُتَشابِهَةٌ، فالمُعْتَزِلِيُّ يَقُولُ قَوْلُهُ ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] مُحْكَمٌ، وقَوْلُهُ ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٩] مُتَشابِهٌ والسُّنِّيُّ يَقْلِبُ الأمْرَ في ذَلِكَ فَلا بُدَّ هاهُنا مِن قانُونٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ في هَذا البابِ فَنَقُولُ: اللَّفْظُ إذا كانَ مُحْتَمِلًا لِمَعْنَيَيْنِ وكانَ بِالنِّسْبَةِ إلى أحَدِهِما راجِحًا، وبِالنِّسْبَةِ إلى الآخَرِ مَرْجُوحًا، فَإنْ حَمَلْناهُ عَلى الرّاجِحِ ولَمْ نَحْمِلْهُ عَلى المَرْجُوحِ، فَهَذا هو المُحْكَمُ، وأمّا إنْ حَمَلْناهُ عَلى المَرْجُوحِ ولَمْ نَحْمِلْهُ عَلى الرّاجِحِ، فَهَذا هو المُتَشابِهُ فَنَقُولُ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَنِ الرّاجِحِ إلى المَرْجُوحِ لا بُدَّ فِيهِ مِن دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وذَلِكَ الدَّلِيلُ المُنْفَصِلُ إمّا أنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا وإمّا أنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا.
أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: فَنَقُولُ: هَذا إنَّما يَتِمُّ إذا حَصَلَ بَيْنَ ذَيْنِكَ الدَّلِيلَيْنِ اللَّفْظِيَّيْنِ تَعارُضٌ وإذا وقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَهُما فَلَيْسَ تَرْكُ ظاهِرِ أحَدِهِما رِعايَةً لِظاهِرِ الآخَرِ أوْلى مِنَ العَكْسِ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يُقالَ: إنَّ (p-١٤٧)أحَدَهُما قاطِعٌ في دَلالَتِهِ والآخِرَ غَيْرُ قاطِعٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الرُّجْحانُ، أوْ يُقالُ: كُلُّ واحِدٍ مِنهُما وإنْ كانَ راجِحًا إلّا أنَّ أحَدَهُما يَكُونُ أرْجَحَ، وحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الرُّجْحانُ إلّا أنّا نَقُولُ:
أمّا الأوَّلُ فَباطِلٌ، لِأنَّ الدَّلائِلَ اللَّفْظِيَّةَ لا تَكُونُ قاطِعَةً البَتَّةَ، لِأنَّ كُلَّ دَلِيلٍ لَفْظِيٍّ فَإنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلى نَقْلِ اللُّغاتِ، ونَقْلِ وُجُوهِ النَّحْوِ والتَّصْرِيفِ، ومَوْقُوفٌ عَلى عَدَمِ الِاشْتِراكِ وعَدَمِ المَجازِ، وعَدَمِ التَّخْصِيصِ، وعَدَمِ الإضْمارِ، وعَدَمِ المُعارِضِ النَّقْلِيِّ والعَقْلِيِّ، وكانَ ذَلِكَ مَظْنُونٌ، والمَوْقُوفُ عَلى المَظْنُونِ أوْلى أنْ يَكُونَ مَظْنُونًا، فَثَبَتَ أنَّ شَيْئًا مِنَ الدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لا يَكُونُ قاطِعًا.
وأمّا الثّانِي وهو أنْ يُقالَ: أحَدُ الدَّلِيلَيْنِ أقْوى مِنَ الدَّلِيلِ الثّانِي وإنْ كانَ أصْلُ الِاحْتِمالِ قائِمًا فِيهِما مَعًا، فَهَذا صَحِيحٌ، ولَكِنْ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ صَرْفُ الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ عَنْ ظاهِرِهِ إلى المَعْنى المَرْجُوحِ ظَنِّيًّا، ومِثْلُ هَذا لا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ في المَسائِلِ الأُصُولِيَّةِ، بَلْ يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ في المَسائِلِ الفَقِهِيَّةِ فَثَبَتَ بِما ذَكَرْناهُ أنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَعْناهُ الرّاجِحِ إلى مَعْناهُ المَرْجُوحِ في المَسائِلِ القَطْعِيَّةِ لا يَجُوزُ إلّا عِنْدَ قِيامِ الدَّلِيلِ القَطْعِيِّ العَقْلِيِّ عَلى أنَّ ما أشْعَرَ بِهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ مُحالٌ، وقَدْ عَلِمْنا في الجُمْلَةِ أنَّ اسْتِعْمالَ اللَّفْظِ في مَعْناهُ المَرْجُوحِ جائِزٌ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلى ظاهِرِهِ، فَعِنْدَ هَذا يَتَعَيَّنُ التَّأْوِيلُ، فَظَهَرَ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْناهُ الرّاجِحِ إلى مَعْناهُ المَرْجُوحِ إلّا بِواسِطَةِ إقامَةِ الدَّلالَةِ العَقْلِيَّةِ القاطِعَةِ عَلى أنَّ مَعْناهُ الرّاجِحَ مُحالٌ عَقْلًا ثُمَّ إذا أقامَتْ هَذِهِ الدَّلالَةُ وعَرَفَ المُكَلَّفُ أنَّهُ لَيْسَ مُرادُ اللَّهِ تَعالى مِن هَذا اللَّفْظِ ما أشْعَرَ بِهِ ظاهِرُهُ، فَعِنْدَ هَذا لا يَحْتاجُ إلى أنْ يَعْرِفَ أنَّ ذَلِكَ المَرْجُوحَ الَّذِي هو المُرادُ ماذا لِأنَّ السَّبِيلَ إلى ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ بِتَرْجِيحِ مَجازٍ عَلى مَجازٍ وتَرْجِيحِ تَأْوِيلٍ عَلى تَأْوِيلٍ، وذَلِكَ التَّرْجِيحُ لا يُمْكِنُ إلّا بِالدَّلائِلِ اللَّفْظِيَّةِ والدَّلائِلُ اللَّفْظِيَّةُ عَلى ما بَيَّنّا ظَنِّيَّةٌ لا سِيَّما الدَّلائِلَ المُسْتَعْمَلَةَ في تَرْجِيحِ مَرْجُوحٍ عَلى مَرْجُوحٍ آخَرَ يَكُونُ في غايَةِ الضَّعْفِ، وكُلُّ هَذا لا يُفِيدُ إلّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ والتَّعْوِيلُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الدَّلائِلِ في المَسائِلِ القَطْعِيَّةِ مُحالٌ فَلِهَذا التَّحْقِيقِ المَتِينِ مَذْهَبُنا أنَّ بَعْدَ إقامَةِ الدَّلائِلِ القَطْعِيَّةِ عَلى أنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلى الظّاهِرِ مُحالٌ لا يَجُوزُ الخَوْضُ في تَعْيِينِ التَّأْوِيلِ، فَهَذا مُنْتَهى ما حَصَّلْناهُ في هَذا البابِ، واللَّهُ ولِيُّ الهِدايَةِ والرَّشادِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في حِكايَةِ أقْوالِ النّاسِ في المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ فالأوَّلُ: ما نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: المُحْكَماتُ هي الثَّلاثُ آياتٍ الَّتِي في سُورَةِ الأنْعامِ ﴿قُلْ تَعالَوْا﴾ [الأنعام: ١٥١] إلى آخِرِ الآياتِ الثَّلاثِ، والمُتَشابِهاتُ هي الَّتِي تَشابَهَتْ عَلى اليَهُودِ، وهي أسْماءُ حُرُوفِ الهِجاءِ المَذْكُورَةُ في أوائِلِ السُّوَرِ، وذَلِكَ أنَّهم أوَّلُوها عَلى حِسابِ الجُمَّلِ فَطَلَبُوا أنْ يَسْتَخْرِجُوا مِنها مُدَّةَ بَقاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ فاخْتَلَطَ الأمْرُ عَلَيْهِمْ واشْتَبَهَ، وأقُولُ: التَّكالِيفُ الوارِدَةُ مِنَ اللَّهِ تَعالى تَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ مِنها ما لا يَجُوزُ أنْ يَتَغَيَّرَ بِشَرْعٍ وشَرْعٍ، وذَلِكَ كالأمْرِ بِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى، والِاحْتِرازِ عَنِ الظُّلْمِ والكَذِبِ والجَهْلِ وقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، ومِنها ما يَخْتَلِفُ بِشَرْعٍ وشَرْعٍ كَأعْدادِ الصَّلَواتِ ومَقادِيرِ الزَّكَواتِ وشَرائِطِ البَيْعِ والنِّكاحِ وغَيْرِ ذَلِكَ، فالقِسْمُ الأوَّلُ هو المُسَمّى بِالمُحْكَمِ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ، لِأنَّ الآياتِ الثَّلاثَ في سُورَةِ الأنْعامِ مُشْتَمِلَةٌ عَلى هَذا القِسْمِ.
وأمّا المُتَشابِهُ فَهو الَّذِي سَمَّيْناهُ بِالمُجْمَلِ، وهو ما يَكُونُ دَلالَةَ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وإلى غَيْرِهِ عَلى السَّوِيَّةِ، فَإنَّ دَلالَةَ هَذِهِ الألْفاظِ عَلى جَمِيعِ الوُجُوهِ الَّتِي تُفَسِّرُ هَذِهِ الألْفاظَ بِها عَلى السَّوِيَّةِ لا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلى ما لَخَّصْناهُ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ.
(p-١٤٨)القَوْلُ الثّانِي: وهو أيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ المُحْكَمَ هو النّاسِخُ، والمُتَشابِهُ هو المَنسُوخُ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: قالَ الأصَمُّ: المُحْكَمُ هو الَّذِي يَكُونُ دَلِيلُهُ واضِحًا لائِحًا، مِثْلَ ما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ مِن إنْشاءِ الخَلْقِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ [المؤمنون: ١٤] وقَوْلِهِ ﴿وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠] وقَوْلِهِ ﴿وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢] والمُتَشابِهُ ما يُحْتاجُ في مَعْرِفَتِهِ إلى التَّدَبُّرِ والتَّأمُّلِ نَحْوَ الحُكْمِ بِأنَّهُ تَعالى يَبْعَثُهم بَعْدَ أنْ صارُوا تُرابًا ولَوْ تَأمَّلُوا لَصارَ المُتَشابِهُ عِنْدَهم مُحْكَمًا؛ لِأنَّ مَن قَدَرَ عَلى الإنْشاءِ أوَّلًا قَدَرَ عَلى الإعادَةِ ثانِيًا.
واعْلَمْ أنَّ كَلامَ الأصَمِّ غَيْرُ مُلَخَّصٍ، فَإنَّهُ إنْ عَنى بِقَوْلِهِ: المُحْكَمُ ما يَكُونُ دَلائِلُهُ واضِحَةً أنَّ المُحْكَمَ هو الَّذِي يَكُونُ دَلالَةَ لَفْظِهِ عَلى مَعْناهُ مُتَعَيِّنَةً راجِحَةً، والمُتَشابِهُ ما لا يَكُونُ كَذَلِكَ، وهو إمّا المُجْمَلُ المُتَساوِي، أوِ المُؤَوَّلُ المَرْجُوحُ، فَهَذا هو الَّذِي ذَكَرْناهُ أوَّلًا، وإنْ عَنى بِهِ أنَّ المُحْكَمَ هو الَّذِي يُعْرَفُ صِحَّةُ مَعْناهُ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ، فَيَصِيرُ المُحْكَمُ عَلى قَوْلِهِ ما يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِضَرُورَةِ العَقْلِ، والمُتَشابِهُ ما يُعْلَمُ صِحَّتُهُ بِدَلِيلِ العَقْلِ، وعَلى هَذا يَصِيرُ جُمْلَةُ القُرْآنِ مُتَشابِهًا، لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ [المؤمنون: ١٤] أمْرٌ يَحْتاجُ في مَعْرِفَةِ صِحَّتِهِ إلى الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ، وإنَّ أهْلَ الطَّبِيعَةِ يَقُولُونَ: السَّبَبُ في ذَلِكَ الطَّبائِعُ والفُصُولُ، أوْ تَأْثِيراتُ الكَواكِبِ، وتَرْكِيباتُ العَناصِرِ وامْتِزاجاتُها، فَكَما أنَّ إثْباتَ الحَشْرِ والنَّشْرِ مُفْتَقِرٌ إلى الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ إسْنادُ هَذِهِ الحَوادِثِ إلى اللَّهِ تَعالى مُفْتَقِرٌ إلى الدَّلِيلِ، ولَعَلَّ الأصَمَّ يَقُولُ: هَذِهِ الأشْياءُ وإنْ كانَتْ كُلُّها مُفْتَقِرَةً إلى الدَّلِيلِ، إلّا أنَّها تَنْقَسِمُ إلى ما يَكُونُ الدَّلِيلُ فِيهِ ظاهِرًا بِحَيْثُ تَكُونُ مُقَدِّماتُهُ قَلِيلَةً مَرَتَّبَةً مُبَيَّنَةً يُؤْمَنُ الغَلَطُ مَعَها إلّا نادِرًا، ومِنها ما يَكُونُ الدَّلِيلُ فِيهِ خَفِيًّا كَثِيرَ المُقَدِّماتِ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ فالقِسْمُ الأوَّلُ: هو المُحْكَمُ والثّانِي: هو المُتَشابِهُ.
القَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ كُلَّ ما أمْكَنَ تَحْصِيلُ العِلْمِ بِهِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ جَلِيٍّ، أوْ بِدَلِيلٍ خَفِيٍّ، فَذاكَ هو المُحْكَمُ، وكُلُّ ما لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِهِ فَذاكَ هو المُتَشابِهُ، وذَلِكَ كالعِلْمِ بِوَقْتِ قِيامِ السّاعَةِ، والعِلْمِ بِمَقادِيرِ الثَّوابِ والعِقابِ في حَقِّ المُكَلَّفِينَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها﴾ [الأعراف: ١٨٧]
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في الفَوائِدِ الَّتِي لِأجْلِها جُعِلَ بَعْضُ القُرْآنِ مُحْكَمًا وبَعْضُهُ مُتَشابِهًا.
اعْلَمْ أنَّ مِنَ المُلْحِدَةِ مَن طَعَنَ في القُرْآنِ لِأجْلِ اشْتِمالِهِ عَلى المُتَشابِهاتِ، وقالَ: إنَّكم تَقُولُونَ إنَّ تَكالِيفَ الخَلْقِ مُرْتَبِطَةٌ بِهَذا القُرْآنِ إلى قِيامِ السّاعَةِ، ثُمَّ إنّا نَراهُ بِحَيْثُ يَتَمَسَّكُ بِهِ كُلُّ صاحِبِ مَذْهَبٍ عَلى مَذْهَبِهِ، فالجَبْرِيُّ يَتَمَسَّكُ بِآياتِ الجَبْرِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ [الأنعام: ٢٥] والقَدَرِيُّ يَقُولُ: بَلْ هَذا مَذْهَبُ الكُفّارِ، بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى حَكى ذَلِكَ عَنِ الكُفّارِ في مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهم في قَوْلِهِ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ﴾ [فصلت: ٥] وفي مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ [البقرة: ٨٨] وأيْضًا مُثْبِتُ الرُّؤْيَةِ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] والنّافِي يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] ومُثْبِتُ الجِهَةِ يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ (p-١٤٩)[النحل: ٥٠] وبِقَوْلِهِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] والنّافِي يَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] ثُمَّ إنَّ كُلَّ واحِدٍ يُسَمِّي الآياتِ المُوافِقَةَ لِمَذْهَبِهِ: مُحْكَمَةً، والآياتِ المُخالِفَةَ لِمَذْهَبِهِ: مُتَشابِهَةً؛ ورُبَّما آلَ الأمْرُ في تَرْجِيحِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ إلى تَرْجِيحاتٍ خَفِيَّةٍ، ووُجُوهٍ ضَعِيفَةٍ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالحَكِيمِ أنْ يَجْعَلَ الكِتابَ الَّذِي هو المَرْجُوعُ إلَيْهِ في كُلِّ الدِّينِ إلى قِيامِ السّاعَةِ هَكَذا ؟ ألَيْسَ أنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ ظاهِرًا جَلِيًّا نَقِيًّا عَنْ هَذِهِ المُتَشابِهاتِ كانَ أقْرَبَ إلى حُصُولِ الغَرَضِ.
واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ ذَكَرُوا في فَوائِدِ المُتَشابِهاتِ وُجُوهًا:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ مَتى كانَتِ المُتَشابِهاتُ مَوْجُودَةً، كانَ الوُصُولُ إلى الحَقِّ أصْعَبَ وأشَقَّ، وزِيادَةُ المَشَقَّةِ تُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوابِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنكم ويَعْلَمَ الصّابِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٨٢] .
الوَجْهُ الثّانِي: لَوْ كانَ القُرْآنُ مُحْكَمًا بِالكُلِّيَّةِ لَما كانَ مُطابِقًا إلّا لِمَذْهَبٍ واحِدٍ، وكانَ تَصْرِيحُهُ مُبْطِلًا لِكُلِّ ما سِوى ذَلِكَ المَذْهَبِ، وذَلِكَ مِمّا يُنَفِّرُ أرْبابَ المَذاهِبِ عَنْ قَبُولِهِ وعَنِ النَّظَرِ فِيهِ، فالِانْتِفاعُ بِهِ إنَّما حَصَلَ لَمّا كانَ مُشْتَمِلًا عَلى المُحْكَمِ وعَلى المُتَشابِهِ، فَحِينَئِذٍ يَطْمَعُ صاحِبُ كُلِّ مَذْهَبٍ أنْ يَجِدَ فِيهِ ما يُقَوِّي مَذْهَبَهُ، ويُؤْثِرُ مَقالَتَهُ، فَحِينَئِذٍ يَنْظُرُ فِيهِ جَمِيعُ أرْبابِ المَذاهِبِ، ويَجْتَهِدُ في التَّأمُّلِ فِيهِ كُلُّ صاحِبِ مَذْهَبٍ، فَإذا بالَغُوا في ذَلِكَ صارَتِ المُحْكَماتُ مُفَسِّرَةً لِلْمُتَشابِهاتِ، فَبِهَذا الطَّرِيقِ يَتَخَلَّصُ المُبْطِلُ عَنْ باطِلِهِ ويَصِلُ إلى الحَقِّ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ القُرْآنَ إذا كانَ مُشْتَمِلًا عَلى المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ افْتَقَرَ النّاظِرُ فِيهِ إلى الِاسْتِعانَةِ بِدَلِيلِ العَقْلِ، وحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ عَنْ ظُلْمَةِ التَّقْلِيدِ، ويَصِلُ إلى ضِياءِ الِاسْتِدْلالِ والبَيِّنَةِ، أمّا لَوْ كانَ كُلُّهُ مُحْكَمًا لَمْ يَفْتَقِرْ إلى التَّمَسُّكِ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ فَحِينَئِذٍ كانَ يَبْقى في الجَهْلِ والتَّقْلِيدِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: لَمّا كانَ القُرْآنُ مُشْتَمِلًا عَلى المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، افْتَقَرُوا إلى تَعَلُّمِ طُرُقِ التَّأْوِيلاتِ وتَرْجِيحِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ، وافْتَقَرَ تَعَلُّمُ ذَلِكَ إلى تَحْصِيلِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِن عِلْمِ اللُّغَةِ والنَّحْوِ وعِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ، ولَوْ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ ما كانَ يَحْتاجُ الإنْسانُ إلى تَحْصِيلِ هَذِهِ العُلُومِ الكَثِيرَةِ، فَكانَ إيرادُ هَذِهِ المُتَشابِهاتِ لِأجْلِ هَذِهِ الفَوائِدِ الكَثِيرَةِ.
الوَجْهُ الخامِسُ: وهو السَّبَبُ الأقْوى في هَذا البابِ أنَّ القُرْآنَ كِتابٌ مُشْتَمِلٌ عَلى دَعْوَةِ الخَواصِّ والعَوامِّ بِالكُلِّيَّةِ، وطَبائِعُ العَوامِّ تَنْبُو في أكْثَرِ الأمْرِ عَنْ إدْراكِ الحَقائِقِ، فَمَن سَمِعَ مِنَ العَوامِّ في أوَّلِ الأمْرِ إثْباتَ مَوْجُودٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا بِمُتَحَيِّزٍ ولا مُشارٍ إلَيْهِ، ظَنَّ أنَّ هَذا عَدَمٌ ونَفْيٌ فَوَقَعَ في التَّعْطِيلِ، فَكانَ الأصْلَحُ أنْ يُخاطَبُوا بِألْفاظٍ دالَّةٍ عَلى بَعْضِ ما يُناسِبُ ما يَتَوَهَّمُونَهُ ويَتَخَيَّلُونَهُ، ويَكُونُ ذَلِكَ مَخْلُوطًا بِما يَدُلُّ عَلى الحَقِّ الصَّرِيحِ، فالقِسْمُ الأوَّلُ وهو الَّذِي يُخاطَبُونَ بِهِ في أوَّلِ الأمْرِ يَكُونُ مِن بابِ المُتَشابِهاتِ، والقِسْمُ الثّانِي وهو الَّذِي يُكْشَفُ لَهم في آخِرِ الأمْرِ هو المُحْكَماتُ، فَهَذا ما حَضَرَنا في هَذا البابِ واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ.
وإذا عَرَفْتَ هَذِهِ المَباحِثَ فَلْنَرْجِعْ إلى التَّفْسِيرِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ فالمُرادُ بِهِ هو القُرْآنُ ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ وهي الَّتِي (p-١٥٠)يَكُونُ مَدْلُولاتُها مُتَأكَّدَةً إمّا بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ القاطِعَةِ وذَلِكَ في المَسائِلِ القَطْعِيَّةِ، أوْ يَكُونُ مَدْلُولاتُها خالِيَةً عَنْ مُعارَضاتٍ أقْوى مِنها.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿هُنَّ أُمُّ الكِتابِ﴾ وفِيهِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: ما مَعْنى كَوْنِ المُحْكَمِ أُمًّا لِلْمُتَشابِهِ ؟
الجَوابُ: الأُمُّ في حَقِيقَةِ اللُّغَةِ الأصْلُ الَّذِي مِنهُ يَكُونُ الشَّيْءُ، فَلَمّا كانَتِ المُحْكَماتُ مَفْهُومَةً بِذَواتِها، والمُتَشابِهاتُ إنَّما تَصِيرُ مَفْهُومَةً بِإعانَةِ المُحْكَماتِ، لا جَرَمَ صارَتِ المُحْكَماتُ كالأُمِّ لِلْمُتَشابِهاتِ، وقِيلَ: إنَّ ما جَرى في الإنْجِيلِ مِن ذِكْرِ الأبِ، وهو أنَّهُ قالَ: إنَّ البارِّيَ القَدِيمَ المُكَوِّنَ لِلْأشْياءِ الَّذِي بِهِ قامَتِ الخَلائِقُ وبِهِ ثَبَتَتْ إلى أنْ يَبْعَثَها، فَعَبَّرَ عَنْ هَذا المَعْنى بِلَفْظِ الأبِ مِن جِهَةِ أنَّ الأبَ هو الَّذِي حَصَلَ مِنهُ تَكْوِينُ الِابْنِ، ثُمَّ وقَعَ في التَّرْجَمَةِ ما أوْهَمَ الأُبُوَّةَ الواقِعَةَ مِن جِهَةِ الوِلادَةِ، فَكانَ قَوْلُهُ ﴿ما كانَ لِلَّهِ أنْ يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ﴾ [مريم: ٣٥] مُحْكَمًا لِأنَّ مَعْناهُ مُتَأكَّدٌ بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ القَطْعِيَّةِ، وكانَ قَوْلُهُ: عِيسى رُوحُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ مِنَ المُتَشابِهاتِ الَّتِي يَجِبُ رَدُّها إلى ذَلِكَ المُحْكَمِ.
السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ قالَ: ﴿أُمُّ الكِتابِ﴾ ولَمْ يَقُلْ: أُمَّهاتُ الكِتابِ ؟
الجَوابُ: أنَّ مَجْمُوعَ المُحْكَماتِ في تَقْدِيرِ شَيْءٍ واحِدٍ، ومَجْمُوعَ المُتَشابِهاتِ في تَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ وأحَدُهُما أُمُّ الآخَرِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠] ولَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ، وإنَّما قالَ ذَلِكَ عَلى مَعْنى أنَّ مَجْمُوعَهُما آيَةٌ واحِدَةٌ، فَكَذَلِكَ هاهُنا.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ وقَدْ عَرَفْتَ حَقِيقَةَ المُتَشابِهاتِ، قالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: إنَّ ”أُخَرَ“ فارَقَتْ أخَواتِها في حَكَمٍ واحِدٍ، وذَلِكَ لِأنَّ أُخَرَ جَمْعُ أُخْرى وأُخْرى تَأْنِيثُ آخَرَ وآخَرُ عَلى وزْنِ أفْعَلَ وما كانَ عَلى وزْنِ أفْعَلَ فَإنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَعَ ”مِن“ أوْ بِالألِفِ واللّامِ، فَيُقالُ: زَيْدٌ أفْضَلُ مِن عَمْرٍو، وزَيْدٌ الأفْضَلُ؛ فالألِفُ واللّامُ مُعَقِّبَتانِ لِمِن في بابِ أفْعَلَ، فَكانَ القِياسُ أنْ يُقالَ: زَيْدٌ آخَرُ مِن عَمْرٍو، أوْ يُقالُ: زَيْدٌ الآخَرُ إلّا أنَّهم حَذَفُوا مِنهُ لَفْظَ ”مِن“ لِأنَّ لَفْظَهُ اقْتَضى مَعْنى ”مِن“ فَأسْقَطُوها اكْتِفاءً بِدَلالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ والألِفُ واللّامُ مُعاقِبَتانِ لِمِن، فَسَقَطَ الألِفُ واللّامُ أيْضًا فَلَمّا جازَ اسْتِعْمالُهُ بِغَيْرِ الألِفِ واللّامِ صارَ أُخَرَ، فَأُخَرُ جَمْعُهُ، فَصارَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مَعْدُولَةً عَنْ حُكْمِ نَظائِرِها في سُقُوطِ الألِفِ واللّامِ عَنْ جَمْعِها ووُحْدانِها.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ الكِتابَ يَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ مِنهُ مُحْكَمٌ ومِنهُ مُتَشابِهٌ، بَيَّنَ أنَّ أهْلَ الزَّيْغِ لا يَتَمَسَّكُونَ إلّا بِالمُتَشابِهِ، والزَّيْغُ المَيْلُ عَنِ الحَقِّ، يُقالُ: زاغَ زَيْغًا: أيْ مالَ مَيْلًا، واخْتَلَفُوا في هَؤُلاءِ الَّذِينَ أُرِيدُوا بِقَوْلِهِ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ فَقالَ الرَّبِيعُ: «هم وفْدُ نَجْرانَ لَمّا حاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في المَسِيحِ فَقالُوا: ألَيْسَ هو كَلِمَةُ اللَّهِ ورُوحٌ مِنهُ قالَ: بَلى. فَقالُوا: حَسْبُنا. فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، ثُمَّ أنْزَلَ ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ»﴾ [آل عمران: ٥٩] وقالَ الكَلْبِيُّ: هُمُ اليَهُودُ طَلَبُوا عِلْمَ مُدَّةِ بَقاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ واسْتِخْراجِهِ مِنَ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُّورِ. وقالَ قَتادَةُ والزَّجّاجُ: هُمُ الكُفّارُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ البَعْثَ، لِأنَّهُ قالَ في آخِرِ الآيَةِ ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾ وما ذاكَ إلّا وقْتَ القِيامَةِ لِأنَّهُ تَعالى أخْفاهُ عَنْ كُلِّ الخَلْقِ حَتّى عَنِ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
(p-١٥١)وقالَ المُحَقِّقُونَ: إنَّ هَذا يَعُمُّ جَمِيعَ المُبْطِلِينَ، وكُلَّ مَنِ احْتَجَّ لِباطِلِهِ بِالمُتَشابِهِ، لِأنَّ اللَّفْظَ عامٌّ، وخُصُوصُ السَّبَبِ لا يَمْنَعُ عُمُومَ اللَّفْظِ ويَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ما فِيهِ لَبْسٌ واشْتِباهٌ ومِن جُمْلَتِهِ ما وعَدَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ مِنَ النُّصْرَةِ وما أوْعَدَ الكُفّارَ مِنَ النِّقْمَةِ ويَقُولُونَ ﴿ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: ٢٩] و﴿لا تَأْتِينا السّاعَةُ﴾ [سبأ: ٣] و﴿لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ﴾ [الحجر: ٧] فَمَوَّهُوا الأمْرَ عَلى الضَّعَفَةِ، ويَدْخُلُ في هَذا البابِ اسْتِدْلالُ المُشَبِّهَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] فَإنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِصَرِيحِ العَقْلِ أنَّ كُلَّ ما كانَ مُخْتَصًّا بِالحَيِّزِ فَإمّا أنْ يَكُونَ في الصِّغَرِ كالجُزْءِ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ وهو باطِلٌ بِالِاتِّفاقِ وإمّا أنْ يَكُونَ أكْبَرَ فَيَكُونُ مُنْقَسِمًا مُرَكَّبًا وكُلُّ مُرَكَّبٍ فَإنَّهُ مُمْكِنٌ ومُحْدَثٌ، فَبِهَذا الدَّلِيلِ الظّاهِرِ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الإلَهُ في مَكانٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ مُتَشابِهًا، فَمَن تَمَسَّكَ بِهِ كانَ مُتَمَسِّكًا بِالمُتَشابِهاتِ، ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ اسْتِدْلالُ المُعْتَزِلَةِ بِالظَّواهِرِ الدّالَّةِ عَلى تَفْوِيضِ الفِعْلِ بِالكُلِّيَّةِ إلى العَبْدِ، فَإنَّهُ لَمّا ثَبَتَ بِالبُرْهانِ العَقْلِيِّ أنَّ صُدُورَ الفِعْلِ يَتَوَقَّفُ عَلى حُصُولِ الدّاعِي، وثَبَتَ أنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الدّاعِي مِنَ اللَّهِ تَعالى، وثَبَتَ أنَّهُ مَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ حُصُولُ الفِعْلِ عِنْدَ تِلْكَ الدّاعِيَةِ واجِبًا، وعَدَمُهُ عِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الدّاعِيَةِ واجِبًا، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّفْوِيضُ، وثَبَتَ أنَّ الكُلَّ بِقَضاءِ اللَّهِ تَعالى وقَدَرِهِ ومَشِيئَتِهِ، فَيَصِيرُ اسْتِدْلالُ المُعْتَزِلَةِ بِتِلْكَ الظَّواهِرِ وإنْ كَثُرَتِ اسْتِدْلالًا بِالمُتَشابِهاتِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى في كُلِّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنِ الدَّلائِلِ القاطِعَةِ ويَقْتَصِرُونَ عَلى الظَّواهِرِ المُوهِمَةِ أنَّهم يَتَمَسَّكُونَ بِالمُتَشابِهاتِ لِأجْلِ أنَّ في قُلُوبِهِمْ زَيْغًا عَنِ الحَقِّ وطَلَبًا لِتَقْرِيرِ الباطِلِ.
واعْلَمْ أنَّكَ لا تَرى طائِفَةً في الدُّنْيا إلّا وتُسَمِّي الآياتِ المُطابِقَةَ لِمَذْهَبِهِمْ مُحْكَمَةً، والآياتِ المُطابِقَةَ لِمَذْهَبِ خَصْمِهِمْ مُتَشابِهَةً ثُمَّ هو الأمْرُ في ذَلِكَ، ألا تَرى إلى الجُبّائِيِّ فَإنَّهُ يَقُولُ: المُجْبِرَةُ الَّذِينَ يُضِيفُونَ الظُّلْمَ والكَذِبَ وتَكْلِيفَ ما لا يُطاقُ إلى اللَّهِ تَعالى هُمُ المُتَمَسِّكُونَ بِالمُتَشابِهاتِ.
وقالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: الزّائِغُ الطّالِبُ لِلْفِتْنَةِ هو مَن يَتَعَلَّقُ بِآياتِ الضَّلالِ، ولا يَتَأوَّلُهُ عَلى المُحْكَمِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ ﴿وأضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ﴾ [طه: ٨٥] ﴿وأضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وما هَدى﴾ [طه: ٧٩] ﴿وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٦] وفَسَّرُوا أيْضًا قَوْلَهُ ﴿وإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها﴾ [الإسراء: ١٦] عَلى أنَّهُ تَعالى أهْلَكَهم وأرادَ فِسْقَهم، وأنَّ اللَّهَ تَعالى يَطْلُبُ العِلَلَ عَلى خَلْقِهِ لِيُهْلِكَهم مَعَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكم ويَهْدِيَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦] وتَأوَّلُوا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿زَيَّنّا لَهم أعْمالَهم فَهم يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: ٤] عَلى أنَّهُ تَعالى زَيَّنَ لَهُمُ النِّعْمَةَ ونَقَضُوا بِذَلِكَ ما في القُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١] ﴿وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ﴾ [القصص: ٦٠] وقالَ: ﴿وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧] وقالَ: ﴿فَمَنِ اهْتَدى فَإنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ [يونس: ١٠٨] وقالَ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ٧] فَكَيْفَ يُزَيِّنُ النِّعْمَةَ ؟ فَهَذا ما قالَهُ أبُو مُسْلِمٍ، ولَيْتَ شِعْرِي لِمَ حَكَمَ عَلى الآياتِ المُوافِقَةِ لِمَذْهَبِهِ بِأنَّها مُحْكَماتٌ، وعَلى الآياتِ المُخالِفَةِ لِمَذْهَبِهِ بِأنَّها مُتَشابِهاتٌ ؟ ولِمَ أوْجَبَ في تِلْكَ الآياتِ المُطابِقَةِ لِمَذْهَبِهِ إجْراءَها عَلى الظّاهِرِ، وفي الآياتِ المُخالِفَةِ لِمَذْهَبِهِ صَرْفَها عَنِ الظّاهِرِ ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ لا يَتِمُّ إلّا بِالرُّجُوعِ إلى الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ الباهِرَةِ، فَإذا دَلَّ عَلى بُطْلانِ مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ الأدِلَّةُ العَقْلِيَّةُ، فَإنَّ مَذْهَبَهم لا يَتِمُّ إلّا إذا قُلْنا بِأنَّهُ صَدَرَ عَنْ أحَدِ الفِعْلَيْنِ دُونَ الثّانِي مِن غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الصّانِعِ، ولا يَتِمُّ إلّا إذا (p-١٥٢)قُلْنا بِأنَّ صُدُورَ الفِعْلِ المُحْكَمِ المُتْقَنِ عَنِ العَبْدِ لا يَدُلُّ عَلى عِلْمِ فاعِلِهِ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ تَخَصَّصَ ذَلِكَ العَدَدُ بِالوُقُوعِ دُونَ الأزْيَدِ والأنْقَصِ لا لِمُخَصَّصٍ، وذَلِكَ نَفْيٌ لِلصّانِعِ، ولَزِمَ مِنهُ أيْضًا أنْ لا يَدُلَّ صُدُورُ الفِعْلِ المُحْكَمِ عَلى كَوْنِ الفاعِلِ عالِمًا وحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ بابُ الِاسْتِدْلالِ بِأحْكامِ أفْعالِ اللَّهِ تَعالى عَلى كَوْنِ فاعِلِها عالِمًا، ولَوْ أنَّ أهْلَ السَّماواتِ والأرْضِ اجْتَمَعُوا عَلى هَذِهِ الدَّلائِلِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلى دَفْعِها، فَإذا لاحَتْ هَذِهِ الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ الباهِرَةُ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِعاقِلٍ أنْ يُسَمِّيَ الآياتِ الدّالَّةَ عَلى القَضاءِ والقَدَرَ بِالمُتَشابِهَةِ، فَظَهَرَ بِما ذَكَرْناهُ أنَّ القانُونَ المُسْتَمِرَّ عِنْدَ جُمْهُورِ النّاسِ أنَّ كُلَّ آيَةٍ تُوافِقُ مَذْهَبَهم فَهي المُحْكَمَةُ وكُلَّ آيَةٍ تُخالِفُهم فَهي المُتَشابِهَةُ.
وأمّا المُحَقِّقُ المُنْصِفُ، فَإنَّهُ يَحْمِلُ الأمْرَ في الآياتِ عَلى أقْسامٍ ثَلاثَةٍ:
أحَدُها: ما يَتَأكَّدُ ظاهِرُها بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ، فَذاكَ هو المُحْكَمُ حَقًّا.
وثانِيها: الَّذِي قامَتِ الدَّلائِلُ القاطِعَةُ عَلى امْتِناعِ ظَواهِرِها، فَذاكَ هو الَّذِي يُحْكَمُ فِيهِ بِأنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ ظاهِرِهِ.
وثالِثُها: الَّذِي لا يُوجَدُ مِثْلُ هَذِهِ الدَّلائِلِ عَلى طَرَفَيْ ثُبُوتِهِ وانْتِفائِهِ، فَيَكُونُ مِن حَقِّهِ التَّوَقُّفُ فِيهِ، ويَكُونُ ذَلِكَ مُتَشابِهًا بِمَعْنى أنَّ الأمْرَ اشْتَبَهَ فِيهِ، ولَمْ يَتَمَيَّزْ أحَدُ الجانِبَيْنِ عَنِ الآخَرِ، إلّا أنَّ الظَّنَّ الرّاجِحَ حاصِلٌ في إجْرائِها عَلى ظَواهِرِها. فَهَذا ما عِنْدِي في هَذا البابِ واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ.
* * *
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ الزّائِغِينَ يَتَّبِعُونَ المُتَشابِهَ، بَيَّنَ أنَّ لَهم فِيهِ غَرَضَيْنِ، فالأوَّلُ: هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ﴾ والثّانِي: هو قَوْلُهُ ﴿وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ .
فَأمّا الأوَّلُ: فاعْلَمْ أنَّ الفِتْنَةَ في اللُّغَةِ الِاسْتِهْتارُ بِالشَّيْءِ والغُلُوُّ فِيهِ، يُقالُ: فُلانٌ مَفْتُونٌ بِطَلَبِ الدُّنْيا، أيْ قَدْ غَلا في طَلَبِها وتَجاوَزَ القَدْرَ، وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الفِتْنَةِ وُجُوهًا:
أوَّلُها: قالَ الأصَمُّ: إنَّهم مَتى أوْقَعُوا تِلْكَ المُتَشابِهاتِ في الدِّينِ، صارَ بَعْضُهم مُخالِفًا لِلْبَعْضِ في الدِّينِ، وذَلِكَ يُفْضِي إلى التَّقاتُلِ والهَرْجِ والمَرْجِ فَذاكَ هو الفِتْنَةُ.
وثانِيها: أنَّ التَّمَسُّكَ بِذَلِكَ المُتَشابِهِ يُقَرِّرُ البِدْعَةَ والباطِلَ في قَلْبِهِ فَيَصِيرُ مَفْتُونًا بِذَلِكَ الباطِلِ عاكِفًا عَلَيْهِ لا يَنْقَلِعُ عَنْهُ بِحِيلَةٍ البَتَّةَ.
وثالِثُها: أنَّ الفِتْنَةَ في الدِّينِ هو الضَّلالُ عَنْهُ ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا فِتْنَةَ ولا فَسادَ أعْظَمُ مِنَ الفِتْنَةِ في الدِّينِ والفَسادِ فِيهِ.
وأمّا الغَرَضُ الثّانِي لَهم: وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ فاعْلَمْ أنَّ التَّأْوِيلَ هو التَّفْسِيرُ وأصْلُهُ في اللُّغَةِ المَرْجِعُ والمَصِيرُ، مِن قَوْلِكَ آلَ الأمْرُ إلى كَذا إذا صارَ إلَيْهِ، وأوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا إذا صَيَّرْتَهُ إلَيْهِ، هَذا مَعْنى التَّأْوِيلِ في اللُّغَةِ، ثُمَّ يُسَمّى التَّفْسِيرُ تَأْوِيلًا، قالَ تَعالى: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨] وقالَ تَعالى: ﴿وأحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩] وذَلِكَ أنَّهُ إخْبارٌ عَمّا يَرْجِعُ إلَيْهِ اللَّفْظُ مِنَ المَعْنى، واعْلَمْ أنَّ المُرادَ مِنهُ أنَّهم يَطْلُبُونَ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ولا بَيانٌ، مِثْلُ طَلَبِهِمْ أنَّ السّاعَةَ مَتى تَقُومُ ؟ وأنَّ مَقادِيرَ الثَّوابِ والعِقابِ لِكُلِّ مُطِيعٍ وعاصٍ كَمْ تَكُونُ ؟
قالَ القاضِي: هَؤُلاءِ الزّائِغُونَ قَدِ ابْتَغَوُا المُتَشابِهَ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَحْمِلُوهُ عَلى غَيْرِ الحَقِّ: وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ﴾ .
والثّانِي: أنْ يَحْكُمُوا بِحُكْمٍ في المَوْضِعِ الَّذِي لا دَلِيلَ فِيهِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى ما يَكُونُ زِيادَةً في ذَمِّ طَرِيقَةِ هَؤُلاءِ الزّائِغِينَ فَقالَ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾ واخْتَلَفَ النّاسُ في هَذا المَوْضِعِ، فَمِنهم مَن قالَ: تَمَّ الكَلامُ هاهُنا، ثُمَّ الواوُ في قَوْلِهِ ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ واوُ الِابْتِداءِ، وعَلى هَذا القَوْلِ: لا يَعْلَمُ المُتَشابِهَ (p-١٥٣)إلّا اللَّهُ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وعائِشَةَ ومالِكِ بْنِ أنَسٍ والكِسائِيِّ والفَرّاءِ، ومِنَ المُعْتَزِلَةِ قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ وهو المُخْتارُ عِنْدَنا.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الكَلامَ إنَّما يَتِمُّ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ العِلْمُ بِالمُتَشابِهِ حاصِلًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وعِنْدَ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ وهَذا القَوْلُ أيْضًا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ وأكْثَرِ المُتَكَلِّمِينَ والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ وُجُوهٌ:
الحُجَّةُ الأُولى: أنَّ اللَّفْظَ إذا كانَ لَهُ مَعْنًى راجِحٌ، ثُمَّ دَلَّ دَلِيلٌ أقْوى مِنهُ عَلى أنَّ ذَلِكَ الظّاهِرَ غَيْرُ مُرادٍ، عَلِمْنا أنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى بَعْضُ مَجازاتِ تِلْكَ الحَقِيقَةِ، وفي المَجازاتِ كَثْرَةٌ، وتَرْجِيحُ البَعْضِ عَلى البَعْضِ لا يَكُونُ إلّا بِالتَّرْجِيحاتِ اللُّغَوِيَّةِ، والتَّرْجِيحاتُ اللُّغَوِيَّةُ لا تُفِيدُ إلّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ، فَإذا كانَتِ المَسْألَةُ قَطْعِيَّةً يَقِينِيَّةً، كانَ القَوْلُ فِيها بِالدَّلائِلِ الظَّنِّيَّةِ الضَّعِيفَةِ غَيْرُ جائِزٍ، مِثالُهُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] ثُمَّ قامَ الدَّلِيلُ القاطِعُ عَلى أنَّ مِثْلَ هَذا التَّكْلِيفِ قَدْ وُجِدَ عَلى ما بَيَّنّا في البَراهِينِ الخَمْسَةِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ فَعَلِمْنا أنَّ مُرادَ اللَّهِ تَعالى لَيْسَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ، فَلا بُدَّ مِن صَرْفِ اللَّفْظِ إلى بَعْضِ المَجازاتِ، وفي المَجازاتِ كَثْرَةٌ وتَرْجِيحُ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ لا يَكُونُ إلّا بِالتَّرْجِيحاتِ اللُّغَوِيَّةِ، وأنَّها لا تُفِيدُ إلّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ، وهَذِهِ المَسْألَةُ لَيْسَتْ مِنَ المَسائِلِ الظَّنِّيَّةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ القَوْلُ فِيها بِالدَّلائِلِ الظَّنِّيَّةِ باطِلًا، وأيْضًا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الإلَهُ في المَكانِ، فَعَرَفْنا أنَّهُ لَيْسَ مُرادُ اللَّهِ تَعالى مِن هَذِهِ الآيَةِ ما أشْعَرَ بِهِ ظاهِرُها، إلّا أنَّ في مَجازاتِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ كَثْرَةٌ فَصَرْفُ اللَّفْظِ إلى البَعْضِ دُونَ البَعْضِ لا يَكُونُ إلّا بِالتَّرْجِيحاتِ اللُّغَوِيَّةِ الظَّنِّيَّةِ، والقَوْلُ بِالظَّنِّ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ غَيْرُ جائِزٍ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ، وهَذِهِ حُجَّةٌ قاطِعَةٌ في المَسْألَةِ، والقَلْبُ الخالِي عَنِ التَّعَصُّبِ يَمِيلُ إلَيْهِ، والفِطْرَةُ الأصْلِيَّةُ تَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: وهو أنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ طَلَبَ تَأْوِيلِ المُتَشابِهِ مَذْمُومٌ، حَيْثُ قالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ ولَوْ كانَ طَلَبُ تَأْوِيلِ المُتَشابِهِ جائِزًا لَما ذَمَّ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ طَلَبَ وقْتِ قِيامِ السّاعَةِ، كَما في قَوْلِهِ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي﴾ [الأعراف: ١٨٧] وأيْضًا طَلَبَ مَقادِيرِ الثَّوابِ والعِقابِ، وطَلَبَ ظُهُورِ الفَتْحِ والنُّصْرَةِ كَما قالُوا ﴿لَوْ ما تَأْتِينا بِالمَلائِكَةِ﴾ [الحجر: ٧] .
قُلْنا: إنَّهُ تَعالى لَمّا قَسَّمَ الكِتابَ إلى قِسْمَيْنِ مُحْكَمٍ ومُتَشابِهٍ، ودَلَّ العَقْلُ عَلى صِحَّةِ هَذِهِ القِسْمَةِ مِن حَيْثُ إنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلى مَعْناهُ الرّاجِحِ هو المُحْكَمُ، وحَمْلَهُ عَلى مَعْناهُ الَّذِي لَيْسَ بِراجِحٍ هو المُتَشابِهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَمَّ طَرِيقَةَ مَن طَلَبَ تَأْوِيلَ المُتَشابِهِ كانَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِبَعْضِ المُتَشابِهاتِ دُونَ البَعْضِ تَرْكًا لِلظّاهِرِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ اللَّهَ مَدَحَ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ بِأنَّهم يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ، وقالَ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦] فَهَؤُلاءِ الرّاسِخُونَ لَوْ كانُوا عالِمِينَ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ (p-١٥٤)المُتَشابِهِ عَلى التَّفْصِيلِ لِما كانَ لَهم في الإيمانِ بِهِ مَدْحٌ، لِأنَّ كُلَّ مَن عَرَفَ شَيْئًا عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يُؤْمِنَ بِهِ، إنَّما الرّاسِخُونَ في العِلْمِ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا بِالدَّلائِلِ القَطْعِيَّةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى عالِمٌ بِالمَعْلُوماتِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها، وعَلِمُوا أنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى، وعَلِمُوا أنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ بِالباطِلِ والعَبَثِ، فَإذا سَمِعُوا آيَةً ودَلَّتِ الدَّلائِلُ القَطْعِيَّةُ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ظاهِرُها مُرادَ اللَّهِ تَعالى، بَلْ مُرادُهُ مِنهُ غَيْرُ ذَلِكَ الظّاهِرِ، ثُمَّ فَوَّضُوا تَعْيِينَ ذَلِكَ المُرادِ إلى عِلْمِهِ، وقَطَعُوا بِأنَّ ذَلِكَ المَعْنى أيَّ شَيْءٍ كانَ فَهو الحَقُّ والصَّوابُ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ بِاللَّهِ حَيْثُ لَمْ يُزَعْزِعْهم قَطْعُهم بِتَرْكِ الظّاهِرِ، ولا عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِالمُرادِ عَلى التَّعْيِينِ عَنِ الإيمانِ بِاللَّهِ والجَزْمِ بِصِحَّةِ القُرْآنِ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: لَوْ كانَ قَوْلُهُ ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ (إلّا اللَّهُ) لَصارَ قَوْلُهُ ﴿يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ ابْتِداءً، وأنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ ذَوْقِ الفَصاحَةِ، بَلْ كانَ الأوْلى أنْ يُقالَ: وهم يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ، أوْ يُقالَ: ويَقُولُونَ آمَنّا بِهِ.
فَإنْ قِيلَ: في تَصْحِيحِهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ (يَقُولُونَ) كَلامٌ مُبْتَدَأٌ، والتَّقْدِيرُ: هَؤُلاءِ العالِمُونَ بِالتَّأْوِيلِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ (يَقُولُونَ) حالًا مِنَ الرّاسِخِينَ.
قُلْنا: أمّا الأوَّلُ فَمَدْفُوعٌ، لِأنَّ تَفْسِيرَ كَلامِ اللَّهِ تَعالى بِما لا يَحْتاجُ مَعَهُ إلى الإضْمارِ أوْلى مِن تَفْسِيرِهِ بِما يَحْتاجُ مَعَهُ إلى الإضْمارِ. والثّانِي: أنَّ ذا الحالِ هو الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وهاهُنا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى وذِكْرُ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ فَوَجَبَ أنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ ﴿يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ حالًا مِنَ الرّاسِخِينَ لا مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْكًا لِلظّاهِرِ، فَثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ المَذْهَبَ لا يَتِمُّ إلّا بِالعُدُولِ عَنِ الظّاهِرِ ومَذْهَبُنا لا يَحْتاجُ إلَيْهِ، فَكانَ هَذا القَوْلُ أوْلى.
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ يَعْنِي أنَّهم آمَنُوا بِما عَرَفُوهُ عَلى التَّفْصِيلِ، وبِما لَمْ يَعْرِفُوا تَفْصِيلَهُ وتَأْوِيلَهُ، فَلَوْ كانُوا عالِمِينَ بِالتَّفْصِيلِ في الكُلِّ لَمْ يَبْقَ لِهَذا الكَلامِ فائِدَةٌ.
الحُجَّةُ السّادِسَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: تَفْسِيرُ القُرْآنِ عَلى أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ لا يَسَعُ أحَدًا جَهْلُهُ، وتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ العَرَبُ بِألْسِنَتِها، وتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ العُلَماءُ، وتَفْسِيرٌ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى.
وسُئِلَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنِ الِاسْتِواءِ، فَقالَ: الِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ، والإيمانُ بِهِ واجِبٌ، والسُّؤالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وقَدْ ذَكَرْنا بَعْضَ هَذِهِ المَسْألَةِ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ، فَإذا ضُمَّ ما ذَكَرْناهُ هاهُنا إلى ما ذَكَرْنا هُناكَ تَمَّ الكَلامُ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الرُّسُوخُ في اللُّغَةِ الثُّبُوتُ في الشَّيْءِ.
واعْلَمْ أنَّ الرّاسِخَ في العِلْمِ هو الَّذِي عَرَفَ ذاتَ اللَّهِ وصِفاتِهِ بِالدَّلائِلِ اليَقِينِيَّةِ القَطْعِيَّةِ، وعَرَفَ أنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى بِالدَّلائِلِ اليَقِينِيَّةِ، فَإذا رَأى شَيْئًا مُتَشابِهًا، ودَلَّ القَطْعِيُّ عَلى أنَّ الظّاهِرَ لَيْسَ مُرادَ اللَّهِ تَعالى، عَلِمَ حِينَئِذٍ قَطْعًا أنَّ مُرادَ اللَّهِ شَيْءٌ آخَرُ سِوى ما دَلَّ عَلَيْهِ ظاهِرُهُ، وأنَّ ذَلِكَ المُرادَ حَقٌّ، ولا يَصِيرُ كَوْنُ ظاهِرِهِ مَرْدُودًا شُبْهَةً في الطَّعْنِ في صِحَّةِ القُرْآنِ.
(p-١٥٥)ثُمَّ حَكى عَنْهم أيْضًا أنَّهم يَقُولُونَ ﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ والمَعْنى: أنْ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ مِن عِنْدِ رَبِّنا، وفِيهِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: لَوْ قالَ: كُلٌّ مِن رَبِّنا كانَ صَحِيحًا، فَما الفائِدَةُ في لَفْظِ (عِنْدِ) ؟
الجَوابُ؛ الإيمانُ بِالمُتَشابِهِ يُحْتاجُ فِيهِ إلى مَزِيدِ التَّأْكِيدِ، فَذَكَرَ كَلِمَةَ (عِنْدِ) لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ.
السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ جازَ حَذْفُ المُضافِ إلَيْهِ مِن (كُلٌّ) ؟
الجَوابُ: لِأنَّ دَلالَةَ المُضافِ عَلَيْهِ قَوِيَّةٌ، فَبَعْدَ الحَذْفِ الأمْنُ مِنَ اللَّبْسِ حاصِلٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ وهَذا ثَناءٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِهِ ومَعْناهُ: ما يَتَّعِظُ بِما في القُرْآنِ إلّا ذَوُو العُقُولِ الكامِلَةِ، فَصارَ هَذا اللَّفْظُ كالدَّلالَةِ عَلى أنَّهم يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهم في فَهْمِ القُرْآنِ، فَيَعْلَمُونَ الَّذِي يُطابِقُ ظاهِرُهُ دَلائِلَ العُقُولِ فَيَكُونُ مُحْكَمًا، وأمّا الَّذِي يُخالِفُ ظاهِرُهُ دَلائِلَ العُقُولِ فَيَكُونُ مُتَشابِهًا، ثُمَّ يَعْلَمُونَ أنَّ الكُلَّ كَلامُ مَن لا يَجُوزُ في كَلامِهِ التَّناقُضُ والباطِلُ، فَيَعْلَمُونَ أنَّ ذَلِكَ المُتَشابِهَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى عُلُوِّ شَأْنِ المُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَبْحَثُونَ عَنِ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ، ويَتَوَسَّلُونَ بِها إلى مَعْرِفَةِ ذاتِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ، ولا يُفَسِّرُونَ القُرْآنَ إلّا بِما يُطابِقُ دَلائِلَ العُقُولِ، ويُوافِقُ اللُّغَةَ والإعْرابَ.
واعْلَمْ أنَّ الشَّيْءَ كُلَّما كانَ أشْرَفَ كانَ ضِدُّهُ أخَسَّ، فَكَذَلِكَ مُفَسِّرُ القُرْآنِ مَتى كانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كانَتْ دَرَجَتُهُ هَذِهِ الدَّرَجَةَ العُظْمى الَّتِي عَظَّمَ اللَّهُ الثَّناءَ عَلَيْهِ، ومَتى تَكَلَّمَ في القُرْآنِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ مُتَبَحِّرًا في عِلْمِ الأُصُولِ، وفي عِلْمِ اللُّغَةِ والنَّحْوِ كانَ في غايَةِ البُعْدِ عَنِ اللَّهِ، ولِهَذا قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”«مَن فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ» “ .
{"ayah":"هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق