الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم ألّا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ (p-٧٦)واعْلَمْ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا أوْرَدَ عَلى نَصارى نَجْرانَ أنْواعَ الدَّلائِلِ وانْقَطَعُوا، ثُمَّ دَعاهم إلى المُباهَلَةِ فَخافُوا وما شَرَعُوا فِيها وقَبِلُوا الصَّغارَ بِأداءِ الجِزْيَةِ، وقَدْ كانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - حَرِيصًا عَلى إيمانِهِمْ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: يا مُحَمَّدُ اتْرُكْ ذَلِكَ المَنهَجَ مِنَ الكَلامِ واعْدِلْ إلى مَنهَجٍ آخَرَ يَشْهَدُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ وطَبْعٍ مُسْتَقِيمٍ أنَّهُ كَلامٌ مَبْنِيٌّ عَلى الإنْصافِ وتَرْكِ الجِدالِ، و﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾ أيْ هَلُمُّوا إلى كَلِمَةٍ فِيها إنْصافٌ مِن بَعْضِنا لِبَعْضٍ، ولا مَيْلَ فِيهِ لِأحَدٍ عَلى صاحِبِهِ، وهي ﴿ألّا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ هَذا هو المُرادُ مِنَ الكَلامِ، ولْنَذْكُرِ الآنَ تَفْسِيرَ الألْفاظِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ﴾ فَفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: المُرادُ نَصارى نَجْرانَ. والثّانِي: المُرادُ يَهُودُ المَدِينَةِ. والثّالِثُ: أنَّها نَزَلَتْ في الفَرِيقَيْنِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ ظاهِرَ اللَّفْظِ يَتَناوَلُهُما. والثّانِي: رُوِيَ في سَبَبِ النُّزُولِ، أنَّ اليَهُودَ قالُوا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ما نُرِيدُ إلّا أنْ نَتَّخِذَكَ رَبًّا كَما اتَّخَذَتِ النَّصارى عِيسى، وقالَتِ النَّصارى: يا مُحَمَّدُ ما تُرِيدُ إلّا أنْ نَقُولَ فِيكَ ما قالَتِ اليَهُودُ في عُزَيْرٍ ! فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، وعِنْدِي أنَّ الأقْرَبَ حَمْلُهُ عَلى النَّصارى، لِما بَيَّنّا أنَّهُ لَمّا أوْرَدَ الدَّلائِلَ عَلَيْهِمْ أوَّلًا، ثُمَّ باهَلَهم ثانِيًا، فَعَدَلَ في هَذا المَقامِ إلى الكَلامِ المَبْنِيِّ عَلى رِعايَةِ الإنْصافِ، وتَرْكِ المُجادَلَةِ، وطَلَبِ الإفْحامِ والإلْزامِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ خاطَبَهم هاهُنا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ﴾، وهَذا الِاسْمُ مِن أحْسَنِ الأسْماءِ وأكْمَلِ الألْقابِ حَيْثُ جَعَلَهم أهْلًا لِكِتابِ اللَّهِ، ونَظِيرُهُ ما يُقالُ لِحافِظِ القُرْآنِ يا حامِلَ كِتابِ اللَّهِ، ولِلْمُفَسِّرِ يا مُفَسِّرَ كَلامِ اللَّهِ، فَإنَّ هَذا اللَّقَبَ يَدُلُّ عَلى أنَّ قائِلَهُ أرادَ المُبالَغَةَ في تَعْظِيمِ المُخاطَبِ وفي تَطْيِيبِ قَلْبِهِ، وذَلِكَ إنَّما يُقالُ عِنْدَ عُدُولِ الإنْسانِ مَعَ خَصْمِهِ عَنْ طَرِيقَةِ اللَّجاجِ والنِّزاعِ إلى طَرِيقَةِ طَلَبِ الإنْصافِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: (تَعالَوْا)، فالمُرادُ تَعْيِينُ ما دَعَوْا إلَيْهِ والتَّوَجُّهُ إلى النَّظَرِ فِيهِ وإنْ لَمْ يَكُنِ انْتِقالًا مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ؛ لِأنَّ أصْلَ اللَّفْظِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّعالِي وهو الِارْتِفاعُ مِن مَوْضِعٍ هابِطٍ إلى مَكانٍ عالٍ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ حَتّى صارَ دالًّا عَلى طَلَبِ التَّوَجُّهِ إلى حَيْثُ يُدْعى إلَيْهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا﴾ فالمَعْنى هَلُمُّوا إلى كَلِمَةٍ فِيها إنْصافٌ مِن بَعْضِنا لِبَعْضٍ، لا مَيْلَ فِيهِ لِأحَدٍ عَلى صاحِبِهِ، والسَّواءُ هو العَدْلُ والإنْصافُ، وذَلِكَ لِأنَّ حَقِيقَةَ الإنْصافِ إعْطاءُ النُّصْفِ، فَإنَّ الواجِبَ في العُقُولِ تَرْكُ الظُّلْمِ عَلى النَّفْسِ وعَلى الغَيْرِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا بِإعْطاءِ النُّصْفِ، فَإذا أنْصَفَ وتَرَكَ ظُلْمَهُ أعْطاهُ النُّصْفَ فَقَدْ سَوّى بَيْنَ نَفْسِهِ وبَيْنَ غَيْرِهِ وحَصَلَ الِاعْتِدالُ، وإذا ظَلَمَ وأخَذَ أكَثَرَ مِمّا أعْطى زالَ الِاعْتِدالُ، فَلَمّا كانَ مِن لَوازِمِ العَدْلِ والإنْصافِ التَّسْوِيَةُ جُعِلَ لَفْظُ التَّسْوِيَةِ عِبارَةً عَنِ العَدْلِ. ثُمَّ قالَ الزَّجّاجُ: ”سَواءٍ“ نَعْتٌ لِلْكَلِمَةِ يُرِيدُ: ذاتِ سَواءٍ، فَعَلى هَذا قَوْلُهُ ﴿كَلِمَةٍ سَواءٍ﴾ أيْ: كَلِمَةٍ عادِلَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَإذا آمَنّا بِها نَحْنُ وأنْتُمْ كُنّا عَلى السَّواءِ والِاسْتِقامَةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿ألّا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ﴾، وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: مَحَلُّ ”أنْ“ في قَوْلِهِ أنْ لا نَعْبُدَ، فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ رُفِعَ بِإضْمارِ ”هي“ كَأنَّ قائِلًا قالَ: ما تِلْكَ الكَلِمَةُ ؟ فَقِيلَ هي أنْ لا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ. والثّانِي: خُفِضَ عَلى البَدَلِ مِن: كَلِمَةٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ ثَلاثَةَ أشْياءَ: أوَّلُها: ﴿ألّا نَعْبُدَ إلّا اللَّهَ﴾ . وثانِيها: أنْ ﴿ولا نُشْرِكَ بِهِ﴾ (p-٧٧)(شَيْئًا) وثالِثُها: أنْ ﴿ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾، وإنَّما ذَكَرَ هَذِهِ الثَّلاثَةَ لِأنَّ النَّصارى جَمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الثَّلاثَةِ فَيَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وهو المَسِيحُ، ويُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ وذَلِكَ لِأنَّهم يَقُولُونَ إنَّهُ [ ثالِثُ ] ثَلاثَةٍ: أبٍ وابْنٍ ورُوحِ القُدُسِ، فَأثْبَتُوا ذَواتًا ثَلاثَةً قَدِيمَةً سَواءً، وإنَّما قُلْنا: إنَّهم أثْبَتُوا ذَواتًا ثَلاثَةً قَدِيمَةً؛ لِأنَّهم قالُوا: إنَّ أُقْنُومَ الكَلِمَةِ تَدَرَّعَتْ بِناسُوتِ المَسِيحِ، وأُقْنُومَ رُوحِ القُدُسِ تَدَرَّعَتْ بِناسُوتِ مَرْيَمَ، ولَوْلا كَوْنُ هَذَيْنِ الأُقْنُومَيْنِ ذاتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ وإلّا لَما جازَتْ عَلَيْهِما مُفارَقَةُ ذاتِ الأبِ والتَّدَرُّعُ بِناسُوتِ عِيسى ومَرْيَمَ، ولَمّا أثْبَتُوا ذَواتًا ثَلاثَةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ أشْرَكُوا، وأمّا أنَّهُمُ اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهم كانُوا يُطِيعُونَهم في التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ. والثّانِي: أنَّهم كانُوا يَسْجُدُونَ لِأحْبارِهِمْ. والثّالِثُ: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: مِن مَذْهَبِهِمْ أنَّ مَن صارَ كامِلًا في الرِّياضَةِ والمُجاهَدَةِ يَظْهَرُ فِيهِ أثَرُ حُلُولِ اللّاهُوتِ، فَيَقْدِرُ عَلى إحْياءِ المَوْتى وإبْراءِ الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فَهم وإنْ لَمْ يُطْلِقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ الرَّبِّ إلّا أنَّهم أثْبَتُوا في حَقِّهِ مَعْنى الرُّبُوبِيَّةِ. والرّابِعُ: هو أنَّهم كانُوا يُطِيعُونَ أحْبارَهم في المَعاصِي، ولا مَعْنى لِلرُّبُوبِيَّةِ إلّا ذَلِكَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: (﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ﴾ [الجاثية: ٢٣] فَثَبَتَ أنَّ النَّصارى جَمَعُوا بَيْنَ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ، وكانَ القَوْلُ بِبُطْلانِ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ كالأمْرِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ العُقَلاءِ، وذَلِكَ لِأنَّ قَبْلَ المَسِيحِ ما كانَ المَعْبُودُ إلّا اللَّهَ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى الأمْرُ بَعْدَ ظُهُورِ المَسِيحِ عَلى هَذا الوَجْهِ، وأيْضًا القَوْلُ بِالشَّرِكَةِ باطِلٌ بِاتِّفاقِ الكُلِّ، وأيْضًا إذا كانَ الخالِقُ والمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ هو اللَّهَ، وجَبَ أنْ لا يُرْجَعَ في التَّحْلِيلِ والتَّحْرِيمِ والِانْقِيادِ والطّاعَةِ إلّا إلَيْهِ، دُونَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ، فَهَذا هو شَرْحُ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾، والمَعْنى إنْ أبَوْا إلّا الإصْرارَ، فَقُولُوا إنّا مُسْلِمُونَ، يَعْنِي أظْهِرُوا أنَّكم عَلى هَذا الدِّينِ، ولا تَكُونُوا في قَيْدِ أنْ تَحْمِلُوا غَيْرَكم عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب