الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إلَهَ إلّا هو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: الِاحْتِمالُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ قَيُّومٌ، والقَيُّومُ هو القائِمُ بِإصْلاحِ مَصالِحِ الخَلْقِ ومُهِمّاتِهِمْ، وكَوْنُهُ كَذَلِكَ لا يَتِمُّ إلّا بِمَجْمُوعِ أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ عالِمًا بِحاجاتِهِمْ عَلى جَمِيعِ وُجُوهِ الكَمِّيَّةِ والكَيْفِيَّةِ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ بِحَيْثُ مَتى عَلِمَ جِهاتِ حاجاتِهِمْ قَدَرَ عَلى دَفْعِها. والأوَّلُ: لا يَتِمُّ إلّا إذا كانَ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، والثّانِي: لا يَتِمُّ إلّا إذا كانَ قادِرًا عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ، فَقَوْلُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ إشارَةٌ إلى كَمالِ عِلْمِهِ المُتَعَلِّقِ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ عالِمًا لا مَحالَةَ مَقادِيرَ الحاجاتِ ومَراتِبَ الضَّرُوراتِ، لا يَشْغَلُهُ سُؤالٌ عَنْ سُؤالٍ، ولا يَشْتَبِهُ الأمْرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ أسْئِلَةِ السّائِلِينَ ثُمَّ قَوْلُهُ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ﴾ إشارَةٌ إلى كَوْنِهِ تَعالى قادِرًا عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ قادِرًا عَلى تَحْصِيلِ مَصالِحِ جَمِيعِ الخَلْقِ ومَنافِعِهِمْ، وعِنْدَ حُصُولِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ يَظْهَرُ كَوْنُهُ قائِمًا بِالقِسْطِ قَيُّومًا بِجَمِيعِ المُمْكِناتِ والكائِناتِ، ثُمَّ فِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرى، وهي أنَّ قَوْلَهُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ كَما ذَكَرْناهُ إشارَةٌ إلى كَمالِ عِلْمِهِ سُبْحانَهُ، والطَّرِيقُ إلى إثْباتِ كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو السَّمْعَ، لِأنَّ مَعْرِفَةَ صِحَّةِ السَّمْعِ مَوْقُوفَةٌ عَلى العِلْمِ بِكَوْنِهِ تَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، بَلِ الطَّرِيقُ إلَيْهِ لَيْسَ إلّا الدَّلِيلَ العَقْلِيَّ، وذَلِكَ هو أنْ نَقُولَ: إنَّ أفْعالَ اللَّهِ تَعالى مُحْكَمَةٌ مُتْقَنَةٌ، والفِعْلُ المُحْكَمُ المُتْقَنُ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ فاعِلِهِ عالِمًا، فَلَمّا كانَ دَلِيلُ كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا هو ما ذَكَرْنا، فَحِينَ ادَّعى كَوْنَهُ عالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ أتْبَعَهُ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ الدّالِّ عَلى ذَلِكَ، وهو أنَّهُ هو الَّذِي صَوَّرَ في ظُلُماتِ الأرْحامِ هَذِهِ البِنْيَةَ العَجِيبَةَ، والتَّرْكِيبَ الغَرِيبَ، ورَكَّبَهُ مِن أعْضاءٍ مُخْتَلِفَةٍ في الشَّكْلِ والطَّبْعِ والصِّفَةِ، فَبَعْضُها عِظامٌ، وبَعْضُها غَضارِيفُ، وبَعْضُها (p-١٤٢)شَرايِينُ، وبَعْضُها أوْرِدَةٌ، وبَعْضُها عَضَلاتٌ، ثُمَّ إنَّهُ ضَمَّ بَعْضَها إلى بَعْضٍ عَلى التَّرْكِيبِ الأحْسَنِ، والتَّأْلِيفِ الأكْمَلِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ حَيْثُ قَدَرَ أنْ يَخْلُقَ مِن قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ هَذِهِ الأعْضاءَ المُخْتَلِفَةَ في الطَّبائِعِ والشَّكْلِ واللَّوْنِ، ويَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ عالِمًا مِن حَيْثُ إنَّ الفِعْلَ المُحْكَمَ لا يَصْدُرُ إلّا عَنِ العالِمِ، فَكانَ قَوْلُهُ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ﴾ دالًّا عَلى كَوْنِهِ قادِرًا عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، ودالًّا عَلى صِحَّةِ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ وإذا ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، وقادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، ثَبَتَ أنَّهُ قَيُّومُ المُحْدَثاتِ والمُمْكِناتِ، فَظَهَرَ أنَّ هَذا كالتَّقْرِيرِ لِما ذَكَرَهُ تَعالى أوَّلًا مِن أنَّهُ هو الحَيُّ القَيُّومُ، ومَن تَأْمَّلَ في هَذِهِ اللَّطائِفِ عَلِمَ أنَّهُ لا يُعْقَلُ كَلامٌ أكْثَرُ فائِدَةً، ولا أحْسَنُ تَرْتِيبًا، ولا أكْثَرُ تَأْثِيرًا في القُلُوبِ مِن هَذِهِ الكَلِماتِ. والِاحْتِمالُ الثّانِي: أنْ تُنَزَّلَ هَذِهِ الآياتُ عَلى سَبَبِ نُزُولِها، وذَلِكَ لِأنَّ النَّصارى ادَّعَوْا إلَهِيَّةَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَوَّلُوا في ذَلِكَ عَلى نَوْعَيْنِ مِنَ الشُّبَهِ، أحَدُ النَّوْعَيْنِ شُبَهٌ مُسْتَخْرَجَةٌ مِن مُقَدِّماتٍ مُشاهَدَةٍ، والنَّوْعُ الثّانِي: شُبَهٌ مُسْتَخْرَجَةٌ مِن مُقَدِّماتٍ إلْزامِيَّةٍ. أمّا النَّوْعُ الأوَّلُ مِنَ الشُّبَهِ: فاعْتِمادُهم في ذَلِكَ عَلى أمْرَيْنِ أحَدُهُما: يَتَعَلَّقُ بِالعِلْمِ، والثّانِي: يَتَعَلَّقُ بِالقُدْرَةِ. أمّا ما يَتَعَلَّقُ بِالعِلْمِ فَهو أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُخْبِرُ عَنِ الغُيُوبِ، وكانَ يَقُولُ لِهَذا: أنْتَ أكَلْتَ في دارِكَ كَذا، ويَقُولُ لِذاكَ: إنَّكَ صَنَعْتَ في دارِكَ كَذا، فَهَذا النَّوْعُ مِن شُبَهِ النَّصارى يَتَعَلَّقُ بِالعِلْمِ. وأمّا الأمْرُ الثّانِي مِن شُبَهِهِمْ، فَهو مُتَعَلِّقٌ بِالقُدْرَةِ، وهو أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُحْيِي المَوْتى، ويُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ، ويَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإذْنِ اللَّهِ، وهَذا النَّوْعُ مِن شُبَهِ النَّصارى يَتَعَلَّقُ بِالقُدْرَةِ، ولَيْسَ لِلنَّصارى شُبَهٌ في المَسْألَةِ سِوى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا اسْتَدَلَّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِهِمْ في إلَهِيَّةِ عِيسى وفي التَّثْلِيثِ بِقَوْلِهِ ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥] يَعْنِي الإلَهَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حَيًّا قَيُّومًا، وعِيسى ما كانَ حَيًّا قَيُّومًا، لَزِمَ القَطْعُ أنَّهُ ما كانَ إلَهًا، فَأتْبَعَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ لِيُقَرِّرَ فِيها ما يَكُونُ جَوابًا عَنْ هاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ: أمّا الشُّبْهَةُ الأُولى: وهي المُتَعَلِّقَةُ بِالعِلْمِ، وهي قَوْلُهم: إنَّهُ أخْبَرَ عَنِ الغُيُوبِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ إلَهًا، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ وتَقْرِيرُ الجَوابِ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِهِ عالِمًا بِبَعْضِ المُغَيَّباتِ أنْ يَكُونَ إلَهًا لِاحْتِمالِ أنَّهُ إنَّما عَلِمَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إلَيْهِ، وتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعالى لَهُ ذَلِكَ، لَكِنَّ عَدَمَ إحاطَتِهِ بِبَعْضِ المُغَيَّباتِ يَدُلُّ دَلالَةً قاطِعَةً عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِإلَهٍ لِأنَّ الإلَهَ هو الَّذِي لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ فَإنَّ الإلَهَ هو الَّذِي يَكُونُ خالِقًا، والخالِقُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عالِمًا بِمَخْلُوقِهِ، ومِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ والمُغَيَّباتِ، فَكَيْفَ والنَّصارى يَقُولُونَ: إنَّهُ أظْهَرَ الجَزَعَ مِنَ المَوْتِ فَلَوْ كانَ عالِمًا بِالغَيْبِ كُلِّهِ، لِعَلِمَ أنَّ القَوْمَ يُرِيدُونَ أخْذَهُ وقَتْلَهُ، وأنَّهُ يَتَأذّى بِذَلِكَ ويَتَألَّمُ، فَكانَ يَفِرُّ مِنهم قَبْلَ وُصُولِهِمْ إلَيْهِ، فَلَمّا لَمْ يَعْلَمْ هَذا الغَيْبَ ظَهَرَ أنَّهُ ما كانَ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ والمُغَيَّباتِ والإلَهُ هو الَّذِي لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ المَعْلُوماتِ، فَوَجَبَ القَطْعُ بِأنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ إلَهًا فَثَبَتَ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِمَعْرِفَةِ بَعْضِ الغَيْبِ لا يَدُلُّ عَلى حُصُولِ الإلَهِيَّةِ، وأمّا (p-١٤٣)الجَهْلُ بِبَعْضِ الغَيْبِ يَدُلُّ قَطْعًا عَلى عَدَمِ الإلَهِيَّةِ، فَهَذا هو الجَوابُ عَنِ النَّوْعِ الأوَّلِ مِنَ الشُّبَهِ المُتَعَلِّقَةِ بِالعِلْمِ. أمّا النَّوْعُ الثّانِي مِنَ الشُّبَهِ، وهو الشُّبْهَةُ المُتَعَلِّقَةُ بِالقُدْرَةِ: فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْها بِقَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ﴾ والمَعْنى أنَّ حُصُولَ الإحْياءِ والإماتَةِ عَلى وفْقِ قَوْلِهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ لا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ إلَهًا، لِاحْتِمالِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أكْرَمَهُ بِذَلِكَ الإحْياءِ إظْهارًا لِمُعْجِزَتِهِ وإكْرامًا لَهُ. أمّا العَجْزُ عَنِ الإحْياءِ والإماتَةِ في بَعْضِ الصُّوَرِ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الإلَهِيَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الإلَهَ هو الَّذِي يَكُونُ قادِرًا عَلى أنْ يُصَوِّرَ في الأرْحامِ مِن قَطْرَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ هَذا التَّرْكِيبَ العَجِيبَ، والتَّأْلِيفَ الغَرِيبَ، ومَعْلُومٌ أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ قادِرًا عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ، وكَيْفَ ! ولَوْ قَدَرَ عَلى ذَلِكَ لَأماتَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أخَذُوهُ عَلى زَعْمِ النَّصارى وقَتَلُوهُ، فَثَبَتَ أنَّ حُصُولَ الإحْياءِ والإماتَةِ عَلى وفْقِ قَوْلِهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ لا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ إلَهًا، أمّا عَدَمُ حُصُولِهِما عَلى وفْقِ مُرادِهِ في سائِرِ الصُّوَرِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما كانَ إلَهًا، فَظَهَرَ بِما ذَكَرَ أنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الثّانِيَةَ أيْضًا ساقِطَةٌ. وأمّا النَّوْعُ الثّانِي مِنَ الشُّبَهِ: فَهي الشُّبَهُ المَبْنِيَّةُ عَلى مُقَدِّماتٍ إلْزامِيَّةٍ، وحاصِلُها يَرْجِعُ إلى نَوْعَيْنِ. النَّوْعُ الأوَّلُ: أنَّ النَّصارى يَقُولُونَ: أيُّها المُسْلِمُونَ أنْتُمْ تُوافِقُونَنا عَلى أنَّهُ ما كانَ لَهُ أبٌ مِنَ البَشَرِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أيْضًا بِقَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ﴾ لِأنَّ هَذا التَّصْوِيرَ لَمّا كانَ مِنهُ فَإنْ شاءَ صَوَّرَهُ مِن نُطْفَةِ الأبِ وإنْ شاءَ صَوَّرَهُ ابْتِداءً مِن غَيْرِ الأبِ. والنَّوْعُ الثّانِي: أنَّ النَّصارى قالُوا لِلرَّسُولِ ﷺ ألَسْتَ تَقُولُ: إنَّ عِيسى رُوحُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِأنَّ هَذا إلْزامٌ لَفْظِيٌّ، واللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْحَقِيقَةِ والمَجازِ، فَإذا ورَدَ اللَّفْظُ بِحَيْثُ يَكُونُ ظاهِرُهُ مُخالِفًا لِلدَّلِيلِ العَقْلِيِّ كانَ مِن بابِ المُتَشابِهاتِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إلى التَّأْوِيلِ، وذَلِكَ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] فَظَهَرَ بِما ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ ﴿الحَيُّ القَيُّومُ﴾ إشارَةٌ إلى ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المَسِيحَ لَيْسَ بِإلَهٍ ولا ابْنًا لَهُ، وأمّا قَوْلُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ فَهو جَوابٌ عَنِ الشُّبْهَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالعِلْمِ، وقَوْلُهُ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكم في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ﴾ جَوابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقُدْرَتِهِ عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ، وعَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِأنَّهُ ما كانَ لَهُ أبٌ مِنَ البَشَرِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ابْنًا لِلَّهِ، وأمّا قَوْلُهُ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ [آل عمران: ٧] فَهو جَوابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِما ورَدَ في القُرْآنِ أنَّ عِيسى رُوحُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ، ومَن أحاطَ عِلْمًا بِما ذَكَرْناهُ ولَخَّصْناهُ عَلِمَ أنَّ هَذا الكَلامَ عَلى اخْتِصارِهِ أكْثَرُ تَحْصِيلًا مِن كُلِّ ما ذَكَرَهُ المُتَكَلِّمُونَ في هَذا البابِ، وأنَّهُ لَيْسَ في المَسْألَةِ حُجَّةٌ ولا شُبْهَةٌ ولا سُؤالٌ ولا جَوابٌ إلّا وقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَيْهِ، فالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا وما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدانا اللَّهُ. وأمّا كَلامُ مَن قَبْلَنا مِنَ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآياتِ فَلَمْ نَذْكُرْهُ لِأنَّهُ لا حاجَةَ إلَيْهِ فَمَن أرادَ ذَلِكَ طالَعَ الكُتُبَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا أجابَ عَنْ شُبَهِهِمْ أعادَ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ زَجْرًا لِلنَّصارى عَنْ قَوْلِهِمْ بِالتَّثْلِيثِ، فَقالَ: ﴿لا إلَهَ إلّا هو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ فالعَزِيزُ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُدْرَةِ والحَكِيمُ إشارَةٌ إلى كَمالِ العِلْمِ، وهو تَقْرِيرٌ لِما تَقَدَّمَ مِن أنَّ عِلْمَ المَسِيحِ بِبَعْضِ الغُيُوبِ، وقُدْرَتَهُ عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ في بَعْضِ الصُّوَرِ (p-١٤٤)لا يَكْفِي في كَوْنِهِ إلَهًا فَإنَّ الإلَهَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ كامِلَ القُدْرَةِ وهو العَزِيزُ، وكامِلَ العِلْمِ وهو الحَكِيمُ، وبَقِيَ في الآيَةِ أبْحاثٌ لَطِيفَةٌ: أمّا قَوْلُهُ ﴿لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ فالمُرادُ أنَّهُ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ. فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ ﴿فِي الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ مَعَ أنَّهُ لَوْ أطْلَقَ كانَ أبْلَغَ ؟ قُلْنا: الغَرَضُ بِذَلِكَ إفْهامُ العِبادِ كَمالَ عِلْمِهِ، وفَهْمُهم هَذا المَعْنى عِنْدَ ذِكْرِ السَّماواتِ والأرْضِ أقْوى، وذَلِكَ لِأنَّ الحِسَّ يَرى عَظَمَةَ السَّماواتِ والأرْضِ، فَيُعِينُ العَقْلَ عَلى مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ والحِسُّ مَتى أعانَ العَقْلَ عَلى المَطْلُوبِ كانَ الفَهْمُ أتَمَّ والإدْراكُ أكْمَلَ، ولِذَلِكَ فَإنَّ المَعانِي الدَّقِيقَةَ إذا أُرِيدَ إيضاحُها ذُكِرَ لَها مِثالٌ، فَإنَّ المِثالَ يُعِينُ عَلى الفَهْمِ. أمّا قَوْلُهُ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: التَّصْوِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ عَلى صُورَةٍ، والصُّورَةُ هَيْئَةٌ حاصِلَةٌ لِلشَّيْءِ عِنْدَ إيقاعِ التَّأْلِيفِ بَيْنَ أجْزائِهِ وأصْلُهُ مِن صارَهُ يَصُورُهُ إذا أمالَهُ، فَهي صُورَةٌ لِأنَّها مائِلَةٌ إلى شَكْلِ أبَوَيْهِ، وتَمامُ الكَلامِ فِيهِ ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ﴾ [البقرة: ٢٦٠] وأمّا (الأرْحامِ) فَهي جَمْعُ رَحِمٍ وأصْلُها مِنَ الرَّحْمَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الِاشْتِراكَ في الرَّحِمِ يُوجِبُ الرَّحْمَةَ والعَطْفَ، فَلِهَذا سُمِّيَ ذَلِكَ العُضْوُ رَحِمًا واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب