الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ﴾ واعْلَمْ أنَّ زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِفَرْطِ سُرُورِهِ بِما بُشِّرِ بِهِ وثِقَتِهِ بِكَرَمِ رَبِّهِ وإنْعامِهِ عَلَيْهِ أحَبَّ أنْ يَجْعَلَ لَهُ (p-٣٦)عَلامَةً تَدُلُّ عَلى حُصُولِ العُلُوقِ، وذَلِكَ لِأنَّ العُلُوقَ لا يَظْهَرُ في أوَّلِ الأمْرِ فَقالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿آيَتُكَ ألّا تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرَ هاهُنا ثَلاثَةَ أيّامٍ، وذَكَرَ في سُورَةِ مَرْيَمَ ثَلاثَ لَيالٍ فَدَلَّ مَجْمُوعُ الآيَتَيْنِ عَلى أنَّ تِلْكَ الآيَةَ كانَتْ حاصِلَةً في الأيّامِ الثَّلاثَةِ مَعَ لَيالِيها. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى حَبَسَ لِسانَهُ ثَلاثَةَ أيّامٍ فَلَمْ يَقْدِرْ أنْ يُكَلِّمَ النّاسَ إلّا رَمْزًا، وفِيهِ فائِدَتانِ: إحْداهُما: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ آيَةً عَلى عُلُوقِ الوَلَدِ. والثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى حَبَسَ لِسانَهُ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيا، وأقْدَرَهُ عَلى الذِّكْرِ والتَّسْبِيحِ والتَّهْلِيلِ، لِيَكُونَ في تِلْكَ المُدَّةِ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، وبِالطّاعَةِ والشُّكْرِ عَلى تِلْكَ النِّعْمَةِ الجَسِيمَةِ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ الشَّيْءُ الواحِدُ عَلامَةً عَلى المَقْصُودِ، وأداءً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، فَيَكُونُ جامِعًا لِكُلِّ المَقاصِدِ. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ تِلْكَ الواقِعَةَ كانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلى المُعْجِزِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ قُدْرَتَهُ عَلى التَّكَلُّمِ بِالتَّسْبِيحِ والذِّكْرِ، وعَجْزَهُ عَنِ التَّكَلُّمِ بِأُمُورِ الدُّنْيا مِن أعْظَمِ المُعْجِزاتِ. وثانِيها: أنَّ حُصُولَ ذَلِكَ المُعْجِزِ في تِلْكَ الأيّامِ المَقْدُورَةِ مَعَ سَلامَةِ البِنْيَةِ واعْتِدالِ المِزاجِ مِن جُمْلَةِ المُعْجِزاتِ. وثالِثُها: أنَّ إخْبارَهُ بِأنَّهُ مَتى حَصَلَتْ هَذِهِ الحالَةُ فَقَدْ حَصَلَ الوَلَدُ، ثُمَّ إنَّ الأمْرَ خَرَجَ عَلى وفْقِ هَذا الخَبَرِ يَكُونُ أيْضًا مِنَ المُعْجِزاتِ. القَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ: أنَّ المَعْنى أنَّ زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى آيَةً تَدُلُّهُ عَلى حُصُولِ العُلُوقِ، قالَ آيَتُكَ أنْ لا تُكَلِّمَ، أيْ تَصِيرُ مَأْمُورًا بِأنْ لا تَتَكَلَّمَ ثَلاثَةَ أيّامٍ بِلَيالِيها مَعَ الخَلْقِ، أيْ تَكُونُ مُشْتَغِلًا بِالذِّكْرِ والتَّسْبِيحِ والتَّهْلِيلِ مُعْرِضًا عَنِ الخَلْقِ والدُّنْيا شاكِرًا اللَّهَ تَعالى عَلى إعْطاءِ مِثْلِ هَذِهِ المَوْهِبَةِ، فَإنْ كانَتْ لَكَ حاجَةٌ دُلَّ عَلَيْها بِالرَّمْزِ فَإذا أُمِرْتَ بِهَذِهِ الطّاعَةِ فاعْلَمْ أنَّهُ قَدْ حَصَلَ المَطْلُوبُ، وهَذا القَوْلُ عِنْدِي حَسَنٌ مَعْقُولٌ، وأبُو مُسْلِمٍ حَسَنُ الكَلامِ في التَّفْسِيرِ، كَثِيرُ الغَوْصِ عَلى الدَّقائِقِ واللَّطائِفِ. القَوْلُ الثّالِثُ: رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عُوقِبَ بِذَلِكَ مِن حَيْثُ سَألَ الآيَةَ بَعْدَ بِشارَةِ المَلائِكَةِ فَأُخِذَ لِسانُهُ وصُيِّرَ بِحَيْثُ لا يَقْدِرُ عَلى الكَلامِ. * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿إلّا رَمْزًا﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: أصْلُ الرَّمْزِ الحَرَكَةُ، يُقالُ: ارْتَمَزَ إذا تَحَرَّكَ، ومِنهُ قِيلَ لِلْبَحْرِ: الرّامُوزُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالرَّمْزِ هاهُنا عَلى أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ الإشارَةِ كَيْفَ كانَتْ بِاليَدِ، أوِ الرَّأْسِ، أوِ الحاجِبِ، أوِ العَيْنِ، أوِ الشَّفَةِ. والثّانِي: أنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ تَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ بِاللَّفْظِ مِن غَيْرِ نُطْقٍ وصَوْتٍ. قالُوا: وحَمْلُ الرَّمْزِ عَلى هَذا المَعْنى أوْلى؛ لِأنَّ الإشارَةَ بِالشَّفَتَيْنِ يُمْكِنُ وُقُوعُها بِحَيْثُ تَكُونُ حَرَكاتُ الشَّفَتَيْنِ وقْتَ الرَّمْزِ مُطابِقَةً لِحَرَكاتِهِما عِنْدَ النُّطْقِ فَيَكُونُ الِاسْتِدْلالُ بِتِلْكَ الحَرَكاتِ عَلى المَعانِي الذِّهْنِيَّةِ أسْهَلَ. والثّالِثُ: وهو أنَّهُ كانَ يُمْكِنُهُ أنْ يَتَكَلَّمَ بِالكَلامِ الخَفِيِّ، وأمّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالكَلامِ فَكانَ مَمْنُوعًا مِنهُ. فَإنْ قِيلَ: الرَّمْزُ لَيْسَ مِن جِنْسِ الكَلامِ فَكَيْفَ اسْتُثْنِيَ مِنهُ ؟ قُلْنا: لَمّا أدّى ما هو المَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ سُمِّيَ كَلامًا، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا فَأمّا إنْ (p-٣٧)حَمَلْنا الرَّمْزَ عَلى الكَلامِ الخَفِيِّ فَإنَّ الإشْكالَ زائِلٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ ”إلّا رُمُزًا“ بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ رَمُوزٍ، كَرَسُولٍ ورُسُلٍ، وقُرِئَ ”رَمَزًا“ بِفَتْحِ الرّاءِ والمِيمِ جَمْعُ رامِزٍ، كَخادِمٍ وخَدَمٍ، وهو حالٌ مِنهُ ومِنَ النّاسِ، ومَعْنى ”إلّا رَمْزًا“ إلّا مُتَرامِزِينَ، كَما يَتَكَلَّمُ النّاسُ مَعَ الأخْرَسِ بِالإشارَةِ ويُكَلِّمُهم. * * * ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ تَعالى حَبَسَ لِسانَهُ عَنْ أُمُورِ الدُّنْيا ”إلّا رَمْزًا“ فَأمّا في الذِّكْرِ والتَّسْبِيحِ، فَقَدْ كانَ لِسانُهُ جَيِّدًا، وكانَ ذَلِكَ مِنَ المُعْجِزاتِ الباهِرَةِ. والثّانِي: إنَّ المُرادَ مِنهُ الذِّكْرُ بِالقَلْبِ وذَلِكَ؛ لِأنَّ المُسْتَغْرِقِينَ في بِحارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى عادَتُهم في الأوَّلِ أنْ يُواظِبُوا عَلى الذِّكْرِ اللِّسانِيِّ مُدَّةً فَإذا امْتَلَأ القَلْبُ مِن نُورِ ذِكْرِ اللَّهِ سَكَتَ اللِّسانُ وبَقِيَ الذِّكْرُ في القَلْبِ، ولِذَلِكَ قالُوا: مَن عَرَفَ اللَّهَ كَلَّ لِسانُهُ، فَكَأنَّ زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - أُمِرَ بِالسُّكُوتِ واسْتِحْضارِ مَعانِي الذِّكْرِ والمَعْرِفَةِ واسْتِدامَتِها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: (العَشِيِّ) مِن حِينِ نُزُولِ الشَّمْسِ إلى أنْ تَغِيبَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎فَلا الظِّلُّ مِن بَرْدِ الضُّحى تَسْتَطِيعُهُ ولا الفَيْءُ مِن بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ والفَيْءُ، إنَّما يَكُونُ مِن حِينِ زَوالِ الشَّمْسِ إلى أنْ يَتَناهى غُرُوبُها، وأمّا الإبْكارُ فَهو مَصْدَرُ بَكَّرَ يُبَكِّرُ إذا خَرَجَ لِلْأمْرِ في أوَّلِ النَّهارِ، ومِثْلُهُ بَكَرَ وابْتَكَرَ وبَكَّرَ، ومِنهُ الباكُورَةُ لِأوَّلِ الثَّمَرَةِ، هَذا هو أصْلُ اللُّغَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ ما بَيْنَ طُلُوعِ الفَجْرِ إلى الضُّحى: إبْكارًا، كَما سُمِّيَ إصْباحًا، وقَرَأ بَعْضُهم ”والأبْكارِ“ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، جَمْعُ بَكَرٍ كَسَحَرٍ وأسْحارٍ، ويُقالُ: أتَيْتُهُ بَكَرًا بِفَتْحَتَيْنِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: (وسَبِّحْ) قَوْلانِ: أحَدُهُما: المُرادُ مِنهُ: وصَلِّ لِأنَّ الصَّلاةَ تُسَمّى تَسْبِيحًا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ وأيْضًا الصَّلاةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى التَّسْبِيحِ، فَجازَ تَسْمِيَةُ الصَّلاةِ بِالتَّسْبِيحِ، وهاهُنا الدَّلِيلُ دَلَّ عَلى وُقُوعِ هَذا المُحْتَمَلِ وهو مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنّا لَوْ حَمَلْناهُ عَلى التَّسْبِيحِ والتَّهْلِيلِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ ما قَبْلَها وهو قَوْلُهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ﴾ فَرْقٌ، وحِينَئِذٍ يَبْطُلُ؛ لِأنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ غَيْرُ جائِزٍ. والثّانِي: وهو أنَّهُ شَدِيدُ المُوافَقَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ﴾ [ هُودٍ: ١١٤]، وثانِيهِما: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ﴾ مَحْمُولٌ عَلى الذِّكْرِ بِاللِّسانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب