الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾
اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن بابِ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، ومِن تَمامِ الكَلامِ الَّذِي تَقَدَّمَ.
وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في العامِلِ في قَوْلِهِ: (يَوْمَ) وُجُوهًا:
الأوَّلُ: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: اليَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالمَصِيرِ والتَّقْدِيرُ: وإلى اللَّهِ المَصِيرُ يَوْمَ تَجِدُ.
الثّانِي: العامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ في الآيَةِ السّابِقَةِ، كَأنَّهُ قالَ: ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ.
الثّالِثُ: العامِلُ فِيهِ قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أيْ قَدِيرٌ في ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَرًا، وخُصَّ هَذا اليَوْمُ بِالذِّكْرِ، وإنْ كانَ غَيْرُهُ مِنَ الأيّامِ بِمَنزِلَتِهِ في قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى تَفْضِيلًا لَهُ لِعِظَمَ شَأْنِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتِحَةِ: ٤ ] .
الرّابِعُ: أنَّ العامِلَ فِيهِ قَوْلُهُ: (تَوَدُّ) والمَعْنى: تَوَدُّ كُلُّ نَفْسٍ كَذا وكَذا في ذَلِكَ اليَوْمِ.
الخامِسُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا بِمُضْمَرٍ، والتَّقْدِيرُ: واذْكُرْ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ العَمَلَ لا يَبْقى، ولا يُمْكِنُ وِجْدانُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، فَلا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّأْوِيلِ وهو مِن (p-١٥)وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ يَجِدُ صَحائِفَ الأعْمالِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثِيَةِ: ٢٩ ] وقالَ: ﴿فَيُنَبِّئُهم بِما عَمِلُوا أحْصاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ﴾ [المُجادَلَةِ: ٦ ] .
الثّانِي: أنَّهُ يَجِدُ جَزاءَ الأعْمالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: (مُحْضَرًا) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ تِلْكَ الصَّحائِفَ تَكُونُ مُحْضَرَةً يَوْمَ القِيامَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أنَّ جَزاءَ العَمَلِ يَكُونُ مَحْضَرًا، كَقَوْلِهِ: ﴿ووَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا﴾ وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ، فالتَّرْغِيبُ والتَّرْهِيبُ حاصِلانِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ: الأظْهَرُ أنْ يُجْعَلَ (ما) هاهُنا بِمَنزِلَةِ الَّذِي، ويَكُونُ ”عَمِلَتْ“ صِلَةً لَها، ويَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى ”ما“ الأوَّلِ، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ”ما“ شَرْطِيَّةً، وإلّا كانَ يَلْزَمُ أنْ يَنْصِبَ ”تَوَدُّ“ أوْ يَخْفِضَهُ، ولَمْ يَقْرَأْهُ أحَدٌ إلّا بِالرَّفْعِ، فَكانَ هَذا دَلِيلًا عَلى أنَّ ”ما“ هاهُنا بِمَعْنى الَّذِي.
فَإنْ قِيلَ: فَهَلْ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً عَلى قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، ”ودَّتْ“ .
قُلْنا: لا كَلامَ في صِحَّتِهِ لَكِنَّ الحَمْلَ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ أوْقَعُ، لِأنَّهُ حِكايَةُ حالِ الكافِرِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وأكْثَرُ مُوافَقَةً لِلْقِراءَةِ المَشْهُورَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الواوُ في قَوْلِهِ: ﴿وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ: الواوُ واوُ العَطْفِ، والتَّقْدِيرُ: تَجِدُ ما عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿تَوَدُّ لَوْ أنَّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أمَدًا بَعِيدًا﴾ فَفِيهِ وجْهانِ:الأوَّلُ: أنَّهُ صِفَةٌ لِلسُّوءِ، والتَّقْدِيرُ: وما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ الَّذِي تَوَدُّ أنْ يَبْعُدَ ما بَيْنَها وبَيْنَهُ، والثّانِي: أنْ يَكُونَ حالًا، والتَّقْدِيرُ: يَوْمَ تَجِدُ ما عَمِلَتْ مِن سُوءٍ مُحْضَرًا حالَ ما تَوَدُّ بُعْدَهُ عَنْها.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الواوَ لِلِاسْتِئْنافِ، وعَلى هَذا القَوْلِ لا تَكُونُ الآيَةُ دَلِيلًا عَلى القَطْعِ بِوَعِيدِ المُذْنِبِينَ، ومَوْضِعُ الكَرَمِ واللُّطْفِ هَذا، وذَلِكَ لِأنَّهُ نَصَّ في جانِبِ الثَّوابِ عَلى كَوْنِهِ مُحْضَرًا، وأمّا في جانِبِ العِقابِ فَلَمْ يَنُصَّ عَلى الحُضُورِ، بَلْ ذَكَرَ أنَّهم يَوَدُّونَ الفِرارَ مِنهُ، والبُعْدَ عَنْهُ، وذَلِكَ يُنَبِّهُ عَلى أنَّ جانِبَ الوَعْدِ أوْلى بِالوُقُوعِ مِن جانِبِ الوَعِيدِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الأمَدُ، الغايَةُ الَّتِي يُنْتَهى إلَيْها ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يالَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ﴾ [الزخرف: ٣٨] .
واعْلَمْ أنَّ المُرادَ مِن هَذا التَّمَنِّي مَعْلُومٌ، سَواءٌ حَمَلْنا لَفْظَ الأمَدِ عَلى الزَّمانِ أوْ عَلى المَكانِ، إذِ المَقْصُودُ تَمَنِّي بُعْدَهُ، ثُمَّ قالَ: ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وهو لِتَأْكِيدِ الوَعِيدِ. ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ رَؤُوفٌ بِهِمْ حَيْثُ حَذَّرَهم مِن نَفْسِهِ، وعَرَّفَهم كَمالَ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ، وأنَّهُ يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ، ورَغَّبَهم في اسْتِيجابِ رَحْمَتِهِ، وحَذَّرَهم مِنِ اسْتِحْقاقِ غَضَبِهِ، قالَ الحَسَنُ: ومِن رَأْفَتِهِ بِهِمْ أنْ حَذَّرَهم نَفْسَهُ.
الثّانِي: أنَّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبادِ حَيْثُ أمْهَلَهم لِلتَّوْبَةِ والتَّدارُكِ والتَّلافِي. الثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وهو لِلْوَعِيدِ أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ وهو المَوْعِدُ لِيَعْلَمَ العَبْدُ أنَّ وعْدَهُ ورَحْمَتَهُ، غالِبٌ عَلى وعِيدِهِ وسَخَطِهِ.
والرّابِعُ: وهو أنَّ لَفْظَ العِبادِ في القُرْآنِ مُخْتَصٌّ، قالَ تَعالى: ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا﴾ [الفُرْقانِ: ٦٣ ] وقالَ تَعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ [الإنْسانِ: ٦ ] (p-١٦)فَكانَ المَعْنى أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ وعِيدَ الكُفّارِ والفُسّاقِ ذَكَرَ وعْدَ أهْلِ الطّاعَةِ فَقالَ: ﴿واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ أيْ كَما هو مُنْتَقِمٌ مِنَ الفُسّاقِ، فَهو رَؤُوفٌ بِالمُطِيعِينَ والمُحْسِنِينَ.
{"ayah":"یَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسࣲ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَیۡرࣲ مُّحۡضَرࣰا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوۤءࣲ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَیۡنَهَا وَبَیۡنَهُۥۤ أَمَدَۢا بَعِیدࣰاۗ وَیُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق