الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وإلى اللَّهِ المَصِيرُ﴾ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ ما يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ عَلَيْهِ في تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يَجِبُ أنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ عَلَيْهِ في المُعامَلَةِ مَعَ النّاسِ، لِأنَّ كَمالَ الأمْرِ لَيْسَ إلّا في شَيْئَيْنِ: التَّعْظِيمُ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، والشَّفَقَةُ عَلى خَلْقِ اللَّهِ قالَ: ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ الثّانِي: لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ تَعالى مالِكُ الدُّنْيا والآخِرَةِ بَيَّنَ أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ الرَّغْبَةُ فِيما عِنْدَهُ، وعِنْدَ أوْلِيائِهِ دُونَ أعْدائِهِ. وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: جاءَ قَوْمٌ مِنَ اليَهُودِ إلى قَوْمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ لِيَفْتِنُوهم عَنْ دِينِهِمْ فَقالَ رِفاعَةُ بْنُ المُنْذِرِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، وسَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ لِأُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المُسْلِمِينَ: اجْتَنِبُوا هَؤُلاءِ اليَهُودَ، واحْذَرُوا أنْ يَفْتِنُوكم عَنْ دِينِكم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. والثّانِي: قالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في حاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ وغَيْرِهِ، وكانُوا يَتَوَلَّوْنَ اليَهُودَ والمُشْرِكِينَ ويُخْبِرُونَهم بِالأخْبارِ ويَرْجُونَ أنْ يَكُونَ لَهُمُ الظَّفَرُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. الثّالِثُ: أنَّها «نَزَلَتْ في عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ وكانَ لَهُ حُلَفاءُ مِنَ اليَهُودِ، فَفي يَوْمِ الأحْزابِ قالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّ مَعِيَ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ اليَهُودِ وقَدْ رَأيْتُ أنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ﴾ وهَذِهِ صِفَةُ الكافِرِ. قُلْنا: مَعْنى الآيَةِ فَلَيْسَ مِن ولايَةِ اللَّهِ في شَيْءٍ، وهَذا لا يُوجِبُ الكُفْرَ في تَحْرِيمِ مُوالاةِ الكافِرِينَ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أنْزَلَ آياتٍ كَثِيرَةً في هَذا المَعْنى مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِن دُونِكُمْ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١١٨ ] وقَوْلُهُ: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المُجادَلَةِ: ٢٢ ] وقَوْلُهُ: ﴿لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أوْلِياءَ﴾ [المائِدَةِ: ٥١] وقَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكم أوْلِياءَ﴾ [المُمْتَحِنَةِ: ١ ] وقالَ: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١] . واعْلَمْ أنَّ كَوْنَ المُؤْمِنِ مُوالِيًا لِلْكافِرِ يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ راضِيًا بِكُفْرِهِ ويَتَوَلّاهُ لِأجْلِهِ، وهَذا مَمْنُوعٌ مِنهُ لِأنَّ كُلَّ مَن فَعَلَ ذَلِكَ كانَ مُصَوِّبًا لَهُ في ذَلِكَ الدِّينِ، وتَصْوِيبُ الكُفْرِ كُفْرٌ والرِّضا بِالكُفْرِ كُفْرٌ، فَيَسْتَحِيلُ أنْ يَبْقى مُؤْمِنًا مَعَ كَوْنِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَإنْ قِيلَ ألَيْسَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ﴾ وهَذا لا يُوجِبُ الكُفْرَ فَلا يَكُونُ داخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ، لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المُمْتَحِنَةِ: ١ ] فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ خِطابًا في (p-١١)شَيْءٍ يَبْقى المُؤْمِنُ مَعَهُ مُؤْمِنًا. وثانِيها: المُعاشَرَةُ الجَمِيلَةُ في الدُّنْيا بِحَسَبِ الظّاهِرِ، وذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنهُ. والقِسْمُ الثّالِثُ: وهو كالمُتَوَسِّطِ بَيْنَ القِسْمَيْنِ الأوَّلَيْنِ هو أنَّ مُوالاةَ الكُفّارِ بِمَعْنى الرُّكُونِ إلَيْهِمْ والمَعُونَةِ، والمُظاهَرَةِ، والنُّصْرَةِ، إمّا بِسَبَبِ القَرابَةِ، أوْ بِسَبَبِ المَحَبَّةِ مَعَ اعْتِقادِ أنَّ دِينَهُ باطِلٌ فَهَذا لا يُوجِبُ الكُفْرَ إلّا أنَّهُ مَنهِيٌّ عَنْهُ، لِأنَّ المُوالاةَ بِهَذا المَعْنى قَدْ تَجُرُّهُ إلى اسْتِحْسانِ طَرِيقَتِهِ والرِّضا بِدِينِهِ، وذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنِ الإسْلامِ فَلا جَرَمَ هَدَّدَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ فَقالَ ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ﴾ . فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الآيَةِ النَّهْيَ عَنِ اتِّخاذِ الكافِرِينَ أوْلِياءَ بِمَعْنى أنْ يَتَوَلَّوْهم دُونَ المُؤْمِنِينَ، فَأمّا إذا تَوَلَّوْهم وتَوَلَّوُا المُؤْمِنِينَ مَعَهم فَذَلِكَ لَيْسَ بِمَنهِيٍّ عَنْهُ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ﴾ فِيهِ زِيادَةُ مَزِيَّةٍ، لِأنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُوالِي غَيْرَهُ ولا يَتَّخِذُهُ مُوالِيًا فالنَّهْيُ عَنِ اتِّخاذِهِ مُوالِيًا لا يُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ أصْلِ مُوالاتِهِ. قُلْنا: هَذانِ الِاحْتِمالانِ وإنْ قاما في الآيَةِ إلّا أنَّ سائِرَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ لا تَجُوزُ مُوالاتُهم دَلَّتْ عَلى سُقُوطِ هَذَيْنِ الِاحْتِمالَيْنِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما كُسِرَتِ الذّالُ مِن (يَتَّخِذِ) لِأنَّها مَجْزُومٌ لِلنَّهْيِ، وحُرِّكَتْ لِاجْتِماعِ السّاكِنَيْنِ، قالَ الزَّجّاجُ: ولَوْ رُفِعَ عَلى الخَبَرِ لَجازَ، ويَكُونُ المَعْنى عَلى الرَّفْعِ أنَّ مَن كانَ مُؤْمِنًا فَلا يَنْبَغِي أنْ يَتَّخِذَ الكافِرَ ولِيًّا. واعْلَمْ أنَّ مَعْنى النَّهْيِ ومَعْنى الخَبَرِ يَتَقارَبانِ؛ لِأنَّهُ مَتّى كانَتْ صِفَةُ المُؤْمِنِ أنْ لا يُوالِيَ الكافِرَ كانَ لا مَحالَةَ مَنهِيًّا عَنْ مُوالاةِ الكافِرِ، ومَتى كانَ مَنهِيًّا عَنْ ذَلِكَ، كانَ لا مَحالَةَ مِن شَأْنِهِ وطَرِيقَتِهِ أنْ لا يَفْعَلَ ذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ مِن غَيْرِ المُؤْمِنِينَ كَقَوْلِهِ: ﴿وادْعُوا شُهَداءَكم مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٣ ] أيْ مِن غَيْرِ اللَّهِ، وذَلِكَ لِأنَّ لَفْظَ دُونَ مُخْتَصٌّ بِالمَكانِ، تَقُولُ: زَيْدٌ جَلَسَ دُونَ عَمْرٍو؛ أيْ في مَكانٍ أسْفَلَ مِنهُ، ثُمَّ إنَّ مَن كانَ مُبايِنًا لِغَيْرِهِ في المَكانِ فَهو مُغايِرٌ لَهُ فَجُعِلَ لَفْظُ دُونَ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى غَيْرِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ﴾ وفِيهِ حَذْفٌ، والمَعْنى فَلَيْسَ مِن ولايَةِ اللَّهِ في شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الوَلايَةِ يَعْنِي أنَّهُ مُنْسَلِخٌ مِن ولايَةِ اللَّهِ تَعالى رَأْسًا، وهَذا أمْرٌ مَعْقُولٌ فَإنَّ مُوالاةَ الوَلِيِّ ومُوالاةَ عَدُوِّهِ ضِدّانِ قالَ الشّاعِرُ: ؎تُوِدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي صَدِيقُكَ لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعازِبٍ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: فَلَيْسَ مِن دِينِ اللَّهِ في شَيْءٍ وهَذا أبْلَغُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ الكِسائِيُّ: تُقاةً بِالإمالَةِ، وقَرَأ نافِعٌ وحَمْزَةُ: بَيْنَ التَّفْخِيمِ والإمالَةِ، والباقُونَ بِالتَّفْخِيمِ، وقَرَأ يَعْقُوبُ تَقِيَّةً، وإنَّما جازَتِ الإمالَةُ لِتُؤْذِنَ أنَّ الألِفَ مِنَ الياءِ، وتُقاةً وزْنُها فُعْلَةً نَحْوَ تُؤْدَةٍ وتُخْمَةٍ، ومَن فَخَّمَ فَلِأجْلِ الحَرْفِ المُسْتَعْلِي وهو القافُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: تَقَيْتُهُ تُقاةً، وتُقًى، وتُقْيَةً، وتَقْوى، فَإذا قُلْتَ اتَّقَيْتُ كانَ مَصْدَرُهُ (p-١٢)الِاتِّقاءَ، وإنَّما قالَ تَتَّقُوا ثُمَّ قالَ تُقاةً ولَمْ يَقُلِ اتِّقاءً اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المَصْدَرِ، كَما يُقالُ: جَلَسَ جَلْسَةً، ورَكِبَ رَكْبَةً، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٧] وقالَ الشّاعِرُ: ؎وبَعْدَ عَطائِكَ المِائَةَ الرِّتاعا فَأجْراهُ مَجْرى الإعْطاءِ، قالَ: ويَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ تُقاةً هاهُنا مِثْلَ رُماةٍ فَيَكُونُ حالًا مُؤَكِّدَةً. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: «قالَ الحَسَنُ: أخَذَ مُسَيْلِمَةُ الكَذّابُ رَجُلَيْنِ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لِأحَدِهِما: أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قالَ: نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ، فَقالَ: أفَتَشْهَدُ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قالَ: نَعَمْ، وكانَ مُسَيْلِمَةُ يَزْعُمُ أنَّهُ رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ، ومُحَمَّدٌ رَسُولُ قُرَيْشٍ، فَتَرَكَهُ ودَعا الآخَرَ فَقالَ أتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أفَتَشْهَدُ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَقالَ: إنِّي أصَمُّ ثَلاثًا، فَقَدَّمَهُ وقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: أمّا هَذا المَقْتُولُ فَمَضى عَلى يَقِينِهِ وصِدْقِهِ فَهَنِيئًا لَهُ، وأمّا الآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ اللَّهِ فَلا تَبِعَةَ عَلَيْهِ» . واعْلَمْ أنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ [النَّحْلِ: ١٠٦ ] . * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ لِلتَّقِيَّةِ أحْكامًا كَثِيرَةً ونَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَها. الحُكْمُ الأوَّلُ: أنَّ التَّقِيَّةَ إنَّما تَكُونُ إذا كانَ الرَّجُلُ في قَوْمٍ كُفّارٍ، ويَخافُ مِنهم عَلى نَفْسِهِ ومالِهِ فَيُدارِيهِمْ بِاللِّسانِ، وذَلِكَ بِأنْ لا يُظْهِرَ العَداوَةَ بِاللِّسانِ، بَلْ يَجُوزُ أيْضًا أنْ يُظْهِرَ الكَلامَ المُوهِمَ لِلْمَحَبَّةِ والمُوالاةِ، ولَكِنْ بِشَرْطِ أنْ يُضْمِرَ خِلافَهُ، وأنْ يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يَقُولُ، فَإنَّ التَّقِيَّةَ تَأْثِيرُها في الظّاهِرِ لا في أحْوالِ القُلُوبِ. الحُكْمُ الثّانِي لِلتَّقِيَّةِ: هو أنَّهُ لَوْ أفْصَحَ بِالإيمانِ والحَقِّ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ التَّقِيَّةُ كانَ ذَلِكَ أفْضَلَ، ودَلِيلُهُ ما ذَكَرْناهُ في قِصَّةِ مُسَيْلِمَةَ. الحُكْمُ الثّالِثُ لِلتَّقِيَّةِ: أنَّها إنَّما تَجُوزُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِإظْهارِ المُوالاةِ والمُعاداةِ، وقَدْ تَجُوزُ أيْضًا فِيما يَتَعَلَّقُ بِإظْهارِ الدِّينِ فَأمّا ما يَرْجِعُ ضَرَرُهُ إلى الغَيْرِ كالقَتْلِ والزِّنا وغَصْبِ الأمْوالِ والشَّهادَةِ بِالزُّورِ وقَذْفِ المُحْصَناتِ وإطْلاعِ الكُفّارِ عَلى عَوْراتِ المُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ البَتَّةَ. الحُكْمُ الرّابِعُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ أنَّ التَّقِيَّةَ إنَّما تَحِلُّ مَعَ الكُفّارِ الغالِبِينَ إلّا أنَّ مَذْهَبَ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ الحالَةَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ إذا شاكَلَتِ الحالَةَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ حَلَّتِ التَّقِيَّةُ مُحاماةً عَلى النَّفْسِ. الحُكْمُ الخامِسُ: التَّقِيَّةُ جائِزَةٌ لِصَوْنِ النَّفْسِ، وهَلْ هي جائِزَةٌ لِصَوْنِ المالِ يُحْتَمَلُ أنْ يُحْكَمَ فِيها بِالجَوازِ، لِقَوْلِهِ ﷺ: ”«حُرْمَةُ مالِ المُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» “ ولِقَوْلِهِ ﷺ: ”«مَن قُتِلَ دُونَ مالِهِ فَهو شَهِيدٌ» “ ولِأنَّ الحاجَةَ إلى المالِ شَدِيدَةٌ، والماءُ إذا بِيعَ بِالغَبْنِ سَقَطَ فَرْضُ الوُضُوءِ، وجازَ الِاقْتِصارُ عَلى التَّيَمُّمِ دَفْعًا لِذَلِكَ القَدْرِ مِن نُقْصانِ المالِ، فَكَيْفَ لا يَجُوزُ هاهُنا واللَّهُ أعْلَمُ. الحُكْمُ السّادِسُ: قالَ مُجاهِدٌ: هَذا الحُكْمُ كانَ ثابِتًا في أوَّلِ الإسْلامِ لِأجْلِ ضَعْفِ المُؤْمِنِينَ فَأمّا بَعْدَ قُوَّةِ دَوْلَةِ الإسْلامِ فَلا، ورَوى عَوْفٌ، عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: التَّقِيَّةُ جائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وهَذا القَوْلُ أوْلى، لِأنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ واجِبٌ بِقَدْرِ الإمْكانِ. (p-١٣)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ فِيهِ مَحْذُوفًا، والتَّقْدِيرُ: ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ عِقابَ نَفْسِهِ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: المَعْنى ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾: أنْ تَعْصُوهُ فَتَسْتَحِقُّوا عِقابَهُ، والفائِدَةُ في ذِكْرِ النَّفْسِ أنَّهُ لَوْ قالَ: ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ فَهَذا لا يُفِيدُ أنَّ الَّذِي أُرِيدَ التَّحْذِيرُ مِنهُ هو عِقابٌ يَصْدُرُ مِنَ اللَّهِ أوْ مِن غَيْرِهِ، فَلَمّا ذَكَرَ النَّفْسَ زالَ هَذا الِاشْتِباهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ العِقابَ الصّادِرَ عَنْهُ يَكُونُ أعْظَمَ أنْواعِ العِقابِ؛ لِكَوْنِهِ قادِرًا عَلى ما لا نِهايَةَ لَهُ، وأنَّهُ لا قُدْرَةَ لِأحَدٍ عَلى دَفْعِهِ ومَنعِهِ مِمّا أرادَ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ النَّفْسَ هاهُنا تَعُودُ إلى اتِّخاذِ الأوْلِياءِ مِنَ الكُفّارِ، أيْ يَنْهاهُمُ اللَّهُ عَنْ نَفْسِ هَذا الفِعْلِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وإلى اللَّهِ المَصِيرُ﴾ والمَعْنى: إنَّ اللَّهَ يُحَذِّرُكم عِقابَهُ عِنْدَ مَصِيرِكم إلى اللَّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب