الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وتُعِزُّ مَن تَشاءُ وتُذِلُّ مَن تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ وتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وتَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، وصِحَّةِ دِينِ الإسْلامِ، ثُمَّ قالَ لِرَسُولِهِ: ﴿فَإنْ حاجُّوكَ فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ مِن صِفاتِ المُخالِفِينَ كُفْرَهم بِاللَّهِ، وقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ والصّالِحِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وذَكَرَ شِدَّةَ عِنادِهِمْ وتَمَرُّدِهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ شِدَّةَ غُرُورِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ وعِيدَهم بِقَوْلِهِ: ﴿فَكَيْفَ إذا جَمَعْناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أمَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِدُعاءٍ وتَمْجِيدٍ يَدُلُّ عَلى مُبايَنَةِ طَرِيقِهِ وطَرِيقِ أتْباعِهِ، لِطَرِيقَةِ هَؤُلاءِ الكافِرِينَ المُعانِدِينَ المُعْرِضِينَ، فَقالَ مُعَلِّمًا نَبِيَّهُ: كَيْفَ يُمَجِّدُ ويُعَظِّمُ ويَدْعُو ويَطْلُبُ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ في قَوْلِهِ (اللَّهُمَّ) فَقالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: ”اللَّهُمَّ“ مَعْناهُ: يا أللَّهُ، والمِيمُ المُشَدَّدَةُ عِوَضٌ مِن: يا، وقالَ الفَرّاءُ: كانَ أصْلُها يا أللَّهُ أُمَّ بِخَيْرٍ، فَلَمّا كَثُرَ في الكَلامِ حَذَفُوا حَرْفَ النِّداءِ، وحَذَفُوا الهَمْزَةَ مِن: أُمَّ، فَصارَ ”اللَّهُمَّ“ ونَظِيرُهُ قَوْلُ العَرَبِ: هَلُمَّ، والأصْلُ: هَلْ، فَضُمَّ أُمَّ إلَيْها.
حُجَّةُ الأوَّلِينَ عَلى فَسادِ قَوْلِ الفَرّاءِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: لَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما قالَهُ الفَرّاءُ لَما صَحَّ أنْ يُقالَ: اللَّهُمَّ افْعَلْ كَذا إلّا بِحَرْفِ العَطْفِ، لِأنَّ التَّقْدِيرَ: يا أللَّهُ أُمَّنا واغْفِرْ لَنا، ولَمْ نَجِدْ أحَدًا يَذْكُرُ هَذا الحَرْفَ العاطِفَ.
والثّانِي: وهو حُجَّةُ الزَّجّاجِ أنَّهُ لَوْ كانَ الأمْرُ كَما قالَ، لَجازَ أنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ عَلى أصْلِهِ، فَيُقالُ ”اللَّهُ أُمَّ“ كَما يُقالُ ”ويْلَمَّ“ ثُمَّ يُتَكَلَّمُ بِهِ عَلى الأصْلِ فَيُقالُ ”ويْلَ أُمِّهِ“ .
الثّالِثُ: لَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما قالَهُ الفَرّاءُ لَكانَ حَرْفُ النِّداءِ مَحْذُوفًا، فَكانَ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: يا اللَّهُمَّ، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ هَذا جائِزًا عَلِمْنا فَسادَ قَوْلِ الفَرّاءِ بَلْ نَقُولُ: كانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حَرْفُ النِّداءِ لازِمًا، كَما يُقالُ: يا اللَّهُ اغْفِرْ لِي، وأجابَ الفَرّاءُ عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ، فَقالَ: أمّا الأوَّلُ فَضَعِيفٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ”يا أللَّهُ أُمَّ“ مَعْناهُ: يا أللَّهُ اقْصِدْ، فَلَوْ قالَ: واغْفِرْ لَكانَ المَعْطُوفُ مُغايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ السُّؤالُ سُؤالَيْنِ:
أحَدُهُما: قَوْلُهُ (أُمَّنا) .
والثّانِي: قَوْلُهُ ﴿واغْفِرْ لَنا﴾ [ البَقَرَةِ: ٢٨٦] أمّا إذا حَذَفْنا العَطْفَ صارَ (p-٤)قَوْلُهُ: اغْفِرْ لَنا تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: أُمَّنا، فَكانَ المَطْلُوبُ في الحالَيْنِ شَيْئًا واحِدًا فَكانَ ذَلِكَ آكَدَ، ونَظائِرُهُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ، وأمّا الثّانِي فَضَعِيفٌ أيْضًا، لِأنَّ أصْلَهُ عِنْدَنا أنْ يُقالَ: يا أللَّهُ أُمَّنا. ومَنِ الَّذِي يُنْكِرُ جَوازَ التَّكَلُّمِ بِذَلِكَ، وأيْضًا فَلِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الألْفاظِ لا يَجُوزُ فِيها إقامَةُ الفَرْعِ مَقامَ الأصْلِ، ألا تَرى أنَّ مَذْهَبَ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: ما أكْرَمَهُ، مَعْناهُ أيُّ شَيْءٍ أكْرَمَهُ ثُمَّ إنَّهُ قَطُّ لا يُسْتَعْمَلُ هَذا الكَلامُ الَّذِي زَعَمُوا أنَّهُ الأصْلُ في مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ فَكَذا هاهُنا.
وأمّا الثّالِثُ: فَمَنِ الَّذِي سَلَّمَ لَكم أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: يا أللَّهُمَّ؛ وأنْشَدَ الفَرّاءُ:
؎وأمّا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّما سَبَّحْتِ أوْ صَلَّيْتِ يا اللَّهُمّا
وقَوْلُ البَصْرِيِّينَ: إنَّ هَذا الشِّعْرَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، فَحاصِلُهُ تَكْذِيبُ النَّقْلِ، ولَوْ فَتَحْنا هَذا البابَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ اللُّغَةِ والنَّحْوِ سَلِيمًا عَنِ الطَّعْنِ، وأمّا قَوْلُهُ: كانَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ حَرْفِ النِّداءِ لازِمًا فَجَوابُهُ أنَّهُ قَدْ يُحْذَفُ حَرْفُ النِّداءِ كَقَوْلِهِ ﴿يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ أفْتِنا﴾ [يوسف: ٤٦] فَلا يَبْعُدُ أنْ يَخْتَصَّ هَذا الِاسْمُ بِإلْزامِ هَذا الحَذْفِ، ثُمَّ احْتَجَّ الفَرّاءُ عَلى فَسادِ قَوْلِ البَصْرِيِّينَ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنّا لَوْ جَعَلْنا المِيمَ قائِمًا مَقامَ حَرْفِ النِّداءِ لَكُنّا قَدْ أخَّرْنا النِّداءَ عَنْ ذِكْرِ المُنادى، وهَذا غَيْرُ جائِزٍ البَتَّةَ، فَإنَّهُ لا يُقالُ البَتَّةَ (اللَّهُ يا) وعَلى قَوْلِكم يَكُونُ الأمْرُ كَذَلِكَ.
الثّانِي: لَوْ كانَ هَذا الحَرْفُ قائِمًا مَقامَ النِّداءِ لَجازَ مِثْلُهُ في سائِرِ الأسْماءِ، حَتّى يُقالَ: زَيْدُمَّ، وبَكْرُمَّ، كَما يَجُوزُ أنْ يُقالَ: يا زَيْدُ ويا بَكْرُ.
والثّالِثُ: لَوْ كانَ المِيمُ بَدَلًا عَنْ حَرْفِ النِّداءِ لَما اجْتَمَعا، لَكِنَّهُما اجْتَمَعا في الشِّعْرِ الَّذِي رَوَيْناهُ.
الرّابِعُ: لَمْ نَجِدِ العَرَبَ يَزِيدُونَ هَذِهِ المِيمَ في الأسْماءِ التّامَّةِ لِإفادَةِ مَعْنى بَعْضِ الحُرُوفِ المُبايِنَةِ لِلْكَلِمَةِ الدّاخِلَةِ عَلَيْها، فَكانَ المَصِيرُ إلَيْهِ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ الواحِدَةِ حُكْمًا عَلى خِلافِ الِاسْتِقْراءِ العامِّ في اللُّغَةِ وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في هَذا المَوْضِعِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿مالِكَ المُلْكِ﴾ في نَصْبِهِ وجْهانِ؛ الأوَّلُ: وهو قَوْلُ سِيبَوَيْهِ أنَّهُ مَنصُوبٌ عَلى النِّداءِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الزمر: ٤٦] ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِقَوْلِهِ (اللَّهُمَّ) لِأنَّ قَوْلَنا ”اللَّهُمَّ“ مَجْمُوعُ الِاسْمِ والحَرْفِ، وهَذا المَجْمُوعُ لا يُمْكِنُ وصْفُهُ.
والثّانِي: وهو قَوْلُ المُبَرِّدِ والزَّجّاجِ أنَّ ”مالِكَ“ وصْفٌ لِلْمُنادى المُفْرَدِ، لِأنَّ هَذا الِاسْمَ ومَعَهُ المِيمُ بِمَنزِلَتِهِ ومَعَهُ ”يا“ ولا يَمْتَنِعُ الصِّفَةُ مَعَ المِيمِ، كَما لا يَمْتَنِعُ مَعَ الياءِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ وعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فارِسَ والرُّومِ، فَقالَ المُنافِقُونَ واليَهُودُ: هَيْهاتَ هَيْهاتَ مِن أيْنَ لِمُحَمَّدٍ مُلْكُ فارِسَ والرُّومِ، وهم أعَزُّ وأمْنَعُ مِن ذَلِكَ»، «ورُوِيَ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لَمّا خَطَّ الخَنْدَقَ عامَ الأحْزابِ، وقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أرْبَعِينَ ذِراعًا، وأخَذُوا يَحْفِرُونَ، خَرَجَ مِن بَطْنِ الخَنْدَقِ صَخْرَةٌ كالتَّلِّ العَظِيمِ لَمْ تَعْمَلْ فِيها المَعاوِلُ، فَوَجَّهُوا سَلْمانَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَخَبَّرَهُ، فَأخَذَ المِعْوَلَ مِن سَلْمانَ فَلَمّا ضَرَبَها ضَرْبَةً صَدَّعَها وبَرَقَ مِنها بَرْقٌ أضاءَ ما بَيْنَ لابَتَيْها كَأنَّهُ مِصْباحٌ في جَوْفِ لَيْلٍ مُظْلِمٍ، فَكَبَّرَ وكَبَّرَ المُسْلِمُونَ، وقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”أضاءَتْ لِي مِنها قُصُورُ الحِيرَةِ كَأنَّها أنْيابُ الكِلابِ“ ثُمَّ ضَرَبَ الثّانِيَةَ، فَقالَ: ”أضاءَتْ لِي مِنها القُصُورُ الحُمْرُ مِن أرْضِ الرُّومِ“ ثُمَّ ضَرَبَ الثّالِثَةَ فَقالَ: ”أضاءَتْ لِي مِنها قُصُورُ صَنْعاءَ وأخْبَرَنِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلى كُلِّها فَأبْشِرُوا“ فَقالَ المُنافِقُونَ: ألا تَعْجَبُونَ مِن نَبِيِّكم يَعِدُكُمُ الباطِلَ ويُخْبِرُكم أنَّهُ يُبْصِرُ مِن يَثْرِبَ قُصُورَ الحِيرَةِ ومَدايِنَ كِسْرى، وأنَّها تُفْتَحُ لَكم وأنْتُمْ تَحْفِرُونَ الخَنْدَقَ مِنَ الخَوْفِ لا تَسْتَطِيعُونَ أنْ تَخْرُجُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» واللَّهُ أعْلَمُ.
وقالَ الحَسَنُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ نَبِيَّهُ (p-٥)أنْ يَسْألَهُ أنْ يُعْطِيَهُ مُلْكَ فارِسَ والرُّومِ ويَرُدَّ ذُلَّ العَرَبِ عَلَيْهِما، وأمْرُهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يَسْتَجِيبُ لَهُ هَذا الدُّعاءَ، وهَكَذا مَنازِلُ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - إذا أُمِرُوا بِدُعاءٍ اسْتُجِيبَ دُعاؤُهم.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: (المُلْكِ) هو القُدْرَةُ، والمالِكُ هو القادِرُ، فَقَوْلُهُ: ﴿مالِكَ المُلْكِ﴾ مَعْناهُ القادِرُ عَلى القُدْرَةِ، والمَعْنى إنَّ قُدْرَةَ الخَلْقِ عَلى كُلِّ ما يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ لَيْسَتْ إلّا بِإقْدارِ اللَّهِ تَعالى فَهو الَّذِي يُقْدِرُ كُلَّ قادِرٍ عَلى مَقْدُورِهِ، ويُمْلِكُ كُلَّ مالِكٍ مَمْلُوكَهُ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ مالِكَ المُلْكِ ”أيْ يَمْلِكُ جِنْسَ المُلْكِ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ المُلّاكِ فِيما يَمْلِكُونَ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَوْنَهُ (مالِكَ المُلْكِ) عَلى الإطْلاقِ، فَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ وذَكَرَ أنْواعًا خَمْسَةً:
النَّوْعُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ: مُلْكُ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهم مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٤] والنُّبُوَّةُ أعْظَمُ مَراتِبِ المُلْكِ؛ لِأنَّ العُلَماءَ لَهم أمْرٌ عَظِيمٌ عَلى بَواطِنِ الخَلْقِ، والجَبابِرَةُ لَهم أمْرٌ عَلى ظَواهِرِ الخَلْقِ، والأنْبِياءُ أمْرُهم نافِذٌ في البَواطِنِ والظَّواهِرِ، فَأمّا عَلى البَواطِنِ فَلِأنَّهُ يَجِبُ عَلى كُلِّ أحَدٍ أنْ يَقْبَلَ دِينَهم وشَرِيعَتَهم، وأنْ يَعْتَقِدَ أنَّهُ هو الحَقُّ، وأمّا عَلى الظَّواهِرِ فَلِأنَّهم لَوْ تَمَرَّدُوا واسْتَكْبَرُوا لاسْتَوْجَبُوا القَتْلَ، ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ أنَّ بَعْضَهم كانَ يَسْتَبْعِدُ أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعالى بَشَرًا رَسُولًا فَحَكى اللَّهُ عَنْهم قَوْلَهم: [ ﴿أبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤] وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا﴾ ] [الأنعام: ٩] وقَوْمٌ آخَرُونَ جَوَّزُوا مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يُرْسِلَ رَسُولًا مِنَ البَشَرِ، إلّا أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا فَقِيرٌ يَتِيمٌ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذا المَنصِبُ العَظِيمُ عَلى ما حَكى اللَّهُ عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] وأمّا اليَهُودُ فَكانُوا يَقُولُونَ النُّبُوَّةُ كانَتْ في آبائِنا وأسْلافِنا، وأمّا قُرَيْشٌ فَهم ما كانُوا أهْلَ النُّبُوَّةِ والكِتابِ فَكَيْفَ يَلِيقُ النُّبُوَّةُ بِمُحَمَّدٍ ﷺ ؟ وأمّا المُنافِقُونَ فَكانُوا يَحْسُدُونَهُ عَلى النُّبُوَّةِ، عَلى ما حَكى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهم في قَوْلِهِ: ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٥٤] .
وأيْضًا فَقَدْ ذَكَرْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وبِئْسَ المِهادُ﴾ [ آلِ عِمْرانَ: ١٢] أنَّ اليَهُودَ تَكَبَّرُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وسِلاحِهِمْ وشِدَّتِهِمْ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى رَدَّ عَلى جَمِيعِ هَؤُلاءِ الطَّوائِفِ بِأنْ بَيَّنَ أنَّهُ سُبْحانَهُ هو مالِكُ المُلْكِ فَيُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ، فَقالَ: ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ .
فَإنْ قِيلَ: فَإذا حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ: ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ﴾ عَلى إيتاءِ مُلْكِ النُّبُوَّةِ، وجَبَ أنْ تَحْمِلُوا قَوْلَهُ: ﴿وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ عَلى أنَّهُ قَدْ يَعْزِلُ عَنِ النُّبُوَّةِ مَن جَعَلَهُ نَبِيًّا، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ.
قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى إذا جَعَلَ النُّبُوَّةَ في نَسْلِ رَجُلٍ، فَإذا أخْرَجَها اللَّهُ مِن نَسْلِهِ، وشَرَّفَ بِها إنْسانًا آخَرَ مِن غَيْرِ ذَلِكَ النَّسْلِ، صَحَّ أنْ يُقالَ إنَّهُ تَعالى نَزَعَها مِنهم، واليَهُودُ كانُوا مُعْتَقِدِينَ أنَّ النُّبُوَّةَ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ في بَنِي إسْرائِيلَ، فَلَمّا شَرَّفَ اللَّهُ تَعالى مُحَمَّدًا ﷺ بِها، صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يَنْزِعُ مُلْكَ النُّبُوَّةِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ إلى العَرَبِ.
والجَوابُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ أيْ تَحْرِمُهم ولا تُعْطِيهِمْ هَذا (p-٦)المُلْكَ لا عَلى مَعْنى أنَّهُ يَسْلُبُهُ ذَلِكَ بَعْدَ أنْ أعْطاهُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٧] مَعَ أنَّ هَذا الكَلامَ يَتَناوَلُ مَن لَمْ يَكُنْ في ظُلْمَةِ الكُفْرِ قَطُّ، وقالَ اللَّهُ تَعالى مُخْبِرًا عَنِ الكُفّارِ أنَّهم قالُوا لِلْأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ﴿أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾ [الأعراف: ٨٨] وأُولَئِكَ الأنْبِياءُ قالُوا: ﴿وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٨٩] مَعَ أنَّهم ما كانُوا فِيها قَطُّ، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في تَقْرِيرِ قَوْلِ مَن فَسَّرَ قَوْلَهَ تَعالى: ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ﴾ بِمُلْكِ النُّبُوَّةِ.
القَوْلُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ المُلْكِ، ما يُسَمّى مُلْكًا في العُرْفِ، وهو عِبارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أشْياءَ:
أحَدُها: تَكْثِيرُ المالِ والجاهِ، أمّا تَكْثِيرُ المالِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مُلْكُ الصّامِتِ والنّاطِقِ والدُّورِ والضِّياعِ، والحَرْثُ، والنَّسْلُ، وأمّا تَكْثِيرُ الجاهِ فَهو أنْ يَكُونَ مَهِيبًا عَنِ النّاسِ، مَقْبُولَ القَوْلِ، مُطاعًا في الخَلْقِ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلى غَيْرِهِ أنْ يَكُونَ في طاعَتِهِ، وتَحْتَ أمْرِهِ ونَهْيِهِ.
والثّالِثُ: أنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ نازَعَهُ في مُلْكِهِ أحَدٌ، قَدَرَ عَلى قَهْرِ ذَلِكَ المُنازِعِ، وعَلى غَلَبَتِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ ذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى، أمّا تَكْثِيرُ المالِ فَقَدْ نَرى جَمْعًا في غايَةِ الكِياسَةِ لا يَحْصُلُ لَهم مَعَ الكَدِّ الشَّدِيدِ، والعَناءِ العَظِيمِ قَلِيلٌ مِنَ المالِ، ونَرى الأبْلَهَ الغافِلَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الأمْوالِ ما لا يَعْلَمُ كَمِّيَّتَهُ، وأمّا الجاهُ فالأمْرُ أظْهَرُ، فَإنّا رَأيْنا كَثِيرًا مِنَ المُلُوكِ بَذَلُوا الأمْوالَ العَظِيمَةَ لِأجْلِ الجاهِ، وكانُوا كُلَّ يَوْمٍ أكْثَرَ حَقارَةً ومَهانَةً في أعْيُنِ الرَّعِيَّةِ، وقَدْ يَكُونُ عَلى العَكْسِ مِن ذَلِكَ وهو أنْ يَكُونَ الإنْسانُ مُعَظَّمًا في العَقائِدِ، مَهِيبًا في القُلُوبِ، يَنْقادُ لَهُ الصَّغِيرُ والكَبِيرُ، ويَتَواضَعُ لَهُ القاصِي والدّانِي،
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو كَوْنُهُ واجِبَ الطّاعَةِ، فَمَعْلُومٌ أنَّ هَذا تَشْرِيفٌ يُشَرِّفُ اللَّهُ تَعالى بِهِ بَعْضَ عِبادِهِ.
وأمّا القِسْمُ الثّالِثُ: وهو حُصُولُ النُّصْرَةِ والظَّفَرِ مَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا يَحْصُلُ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَكَمْ شاهَدْنا مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ، وعِنْدَ هَذا يَظْهَرُ بِالبُرْهانِ العَقْلِيِّ صِحَّةُ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى مِن قَوْلِهِ: ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ لِلْمُعْتَزِلَةِ هاهُنا بَحْثًا قالَ الكَعْبِيُّ قَوْلُهُ: ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ﴾ لَيْسَ عَلى سَبِيلِ المُخْتارِيَّةِ، ولَكِنْ بِالِاسْتِحْقاقِ فَيُؤْتِيهِ مَن يَقُومُ بِهِ، ولا يَنْزِعُهُ إلّا مِمَّنْ فَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٢٤] وقالَ في حَقِّ العَبْدِ الصّالِحِ: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكم وزادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٤٧ ] فَجَعَلَهَ سَبَبًا لِلْمُلْكِ، وقالَ الجُبّائِيُّ: هَذا الحُكْمُ مُخْتَصٌّ بِمُلُوكِ العَدْلِ، فَأمّا مُلُوكُ الظُّلْمِ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُلْكُهم بِإيتاءِ اللَّهِ، وكَيْفَ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإيتاءِ اللَّهِ، وقَدْ ألْزَمَهم أنْ لا يَتَمَلَّكُوهُ ومَنَعَهم مِن ذَلِكَ، فَصَحَّ بِما ذَكَرْنا أنَّ المُلُوكَ العادِلِينَ هُمُ المُخْتَصُّونَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى آتاهم ذَلِكَ المُلْكَ، فَأمّا الظّالِمُونَ فَلا، قالُوا: ونَظِيرُ هَذا ما قُلْناهُ في الرِّزْقِ: أنَّهُ لا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الحَرامُ الَّذِي زَجَرَهُ اللَّهُ عَنِ الِانْتِفاعِ بِهِ، وأمَرَهُ بِأنْ يَرُدَّهُ عَلى مالِكِهِ فَكَذا هاهُنا، قالُوا: وأمّا النَّزْعُ فَبِخِلافِ ذَلِكَ لِأنَّهُ كَما يُنْزَعُ المُلْكُ مِنَ المُلُوكِ العادِلِينَ لِمَصْلَحَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَقَدْ يُنْزَعُ المُلْكُ عَنِ المُلُوكِ الظّالِمِينَ ونَزْعُ المُلْكِ يَكُونُ بِوُجُوهٍ:
مِنها بِالمَوْتِ، وإزالَةِ العَقْلِ، وإزالَةِ القُوى، والقُدْرَةِ والحَواسِّ، ومِنها بِوُرُودِ الهَلاكِ والتَّلَفِ عَنِ الأمْوالِ، ومِنها أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعالى المُحِقَّ بِأنْ يَسْلُبَ المُلْكَ الَّذِي في يَدِ المُتَغَلِّبِ المُبْطِلِ، ويُؤْتِيَهُ القُوَّةَ والنُّصْرَةَ، فَإذا حارَبَهُ المُحِقُّ وقَهَرَهُ وسَلَبَ مُلْكَهُ جازَ أنْ يُضافَ هَذا السَّلْبُ والنَّزْعُ إلَيْهِ تَعالى، لِأنَّهُ وقَعَ عَنْ أمْرِهِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ نَزَعَ اللَّهُ تَعالى مُلْكَ فارِسَ عَلى يَدِ الرَّسُولِ، هَذا جُمْلَةُ كَلامِ المُعْتَزِلَةِ في هَذا البابِ.
(p-٧)واعْلَمْ أنَّ هَذا المَوْضِعَ مَقامُ بَحْثٍ مُهِمٍّ وذَلِكَ لِأنَّ حُصُولَ المُلْكِ لِلظّالِمِ، إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ وقَعَ لا عَنْ فاعِلٍ وإنَّما حَصَلَ بِفِعْلِ ذَلِكَ المُتَغَلِّبِ، أوْ إنَّما حَصَلَ بِالأسْبابِ الرَّبّانِيَّةِ، والأوَّلُ: نَفْيٌ لِلصّانِعِ، والثّانِي: باطِلٌ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يُرِيدُ تَحْصِيلَ المُلْكِ والدَّوْلَةِ لِنَفْسِهِ، ولا يَتَيَسَّرُ لَهُ البَتَّةَ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ بِأنَّ مُلْكَ الظّالِمِينَ إنَّما حَصَلَ بِإيتاءِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا الكَلامُ ظاهِرٌ، ومِمّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ تَهابُهُ النُّفُوسُ، وتَمِيلُ إلَيْهِ القُلُوبُ، ويَكُونُ النَّصْرُ قَرِينًا لَهُ، والظَّفَرُ جَلِيسًا مَعَهُ، فَأيْنَما تَوَجَّهَ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وقَدْ يَكُونُ عَلى الضِّدِّ مِن ذَلِكَ، ومَن تَأمَّلَ في كَيْفِيَّةِ أحْوالِ المُلُوكِ اضْطُرَّ إلى العِلْمِ بِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعالى، ولِذَلِكَ قالَ حَكِيمُ الشُّعَراءِ:
؎لَوْ كانَ بِالحِيَلِ الغِنى لَوَجَدْتَنِي بِأجَلِّ أسْبابِ السَّماءِ تَعَلُّقِي
؎لَكِنَّ مَن رُزِقَ الحِجا حُرِمَ الغِنى ∗∗∗ ضِدّانِ مُفْتَرِقانِ أيَّ تَفَرُّقٍ
؎ومِنَ الدَّلِيلِ عَلى القَضاءِ وكَوْنِهِ ∗∗∗ بُؤْسُ اللَّبِيبِ وطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ﴾ مَحْمُولٌ عَلى جَمِيعِ أنْواعِ المُلْكِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مُلْكُ النُّبُوَّةِ، ومُلْكُ العِلْمِ، ومُلْكُ العَقْلِ والصِّحَّةِ والأخْلاقِ الحَسَنَةِ، ومُلْكُ النَّفاذِ والقُدْرَةِ ومُلْكُ المَحَبَّةِ، ومُلْكُ الأمْوالِ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّفْظَ عامٌّ فالتَّخْصِيصُ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ لا يَجُوزُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتُعِزُّ مَن تَشاءُ وتُذِلُّ مَن تَشاءُ﴾ فاعْلَمْ أنَّ العِزَّةَ قَدْ تَكُونُ في الدِّينِ، وقَدْ تَكُونُ في الدُّنْيا، أمّا في الدِّينِ فَأشْرَفُ أنْواعِ العِزَّةِ الإيمانُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المُنافِقُونَ: ٨ ] إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَمّا كانَ أعَزُّ الأشْياءِ المُوجِبَةِ لِلْعِزَّةِ هو الإيمانَ، وأذَلُّ الأشْياءِ المُوجِبَةِ لِلْمَذَلَّةِ هو الكُفْرَ، فَلَوْ كانَ حُصُولُ الإيمانِ والكُفْرِ بِمُجَرَّدِ مَشِيئَةِ العَبْدِ، لَكانَ إعْزازُ العَبْدِ نَفْسَهُ بِالإيمانِ، وإذْلالُهُ نَفْسَهُ بِالكُفْرِ، أعْظَمَ مِن إعْزازِ اللَّهِ عَبْدَهُ بِكُلِّ ما أعَزَّهُ بِهِ، ومِن إذْلالِ اللَّهِ عَبْدَهُ بِكُلِّ ما أذَلَّهُ بِهِ ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَكانَ حَظُّ العَبْدِ مِن هَذا الوَصْفِ أتَمَّ وأكْمَلَ مِن حَظِّ اللَّهِ تَعالى مِنهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ باطِلٌ قَطْعًا، فَعَلِمْنا أنَّ الإعْزازَ بِالإيمانِ والحَقِّ لَيْسَ إلّا مِنَ اللَّهِ، والإذْلالَ بِالكُفْرِ والباطِلِ لَيْسَ إلّا مِنَ اللَّهِ، وهَذا وجْهٌ قَوِيٌّ في المَسْألَةِ، قالَ القاضِي: الإعْزازُ المُضافُ إلَيْهِ تَعالى قَدْ يَكُونُ في الدِّينِ وقَدْ يَكُونُ في الدُّنْيا، أمّا الَّذِي في الدِّينِ فَهو أنَّ الثَّوابَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلى التَّعْظِيمِ والمَدْحِ والكَرامَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وأيْضًا فَإنَّهُ تَعالى يَمُدُّهم بِمَزِيدِ الألْطافِ ويُعْلِيهِمْ عَلى الأعْداءِ بِحَسَبِ المَصْلَحَةِ، وأمّا ما يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيا فَبِإعْطاءِ الأمْوالِ الكَثِيرَةِ مِنَ النّاطِقِ والصّامِتِ وتَكْثِيرِ الحَرْثِ وتَكْثِيرِ النِّتاجِ في الدَّوابِّ، وإلْقاءِ الهَيْبَةِ في قُلُوبِ الخَلْقِ.
واعْلَمْ أنَّ كَلامَنا يَأْبى ذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ ما يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ التَّعْظِيمِ في بابِ الثَّوابِ فَهو حَقٌّ واجِبٌ عَلى اللَّهِ تَعالى ولَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لانْعَزَلَ عَنِ الإلَهِيَّةِ ولَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ إلَهًا لِلْخَلْقِ فَهو تَعالى بِإعْطاءِ هَذِهِ التَّعْظِيماتِ يَحْفَظُ إلَهِيَّةَ نَفْسِهِ عَنِ الزَّوالِ، فَأمّا العَبْدُ فَلَمّا خَصَّ نَفْسَهُ بِالإيمانِ الَّذِي يُوجِبُ هَذِهِ التَّعْظِيماتِ فَهو الَّذِي أعَزَّ نَفْسَهُ فَكانَ إعْزازُهُ لِنَفْسِهِ أعْظَمَ مِن إعْزازِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ، فَعَلِمْنا أنَّ هَذا الكَلامَ المَذْكُورَ لازِمٌ عَلى القَوْمِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وتُذِلُّ مَن تَشاءُ﴾ فَقالَ الجُبّائِيُّ في تَفْسِيرِهِ: إنَّهُ تَعالى إنَّما يُذِلُّ أعْداءَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ولا يُذِلُّ أحَدًا مِن أوْلِيائِهِ وإنْ أفْقَرَهم وأمْرَضَهم وأحْوَجَهم إلى غَيْرِهِمْ؛ لِأنَّهُ تَعالى إنَّما يَفْعَلُ هَذِهِ الأشْياءَ لِيُعِزَّهم في الآخِرَةِ، إمّا بِالثَّوابِ وإمّا بِالعِوَضِ، فَصارَ ذَلِكَ كالفَصْدِ والحِجامَةِ فَإنَّهُما وإنْ كانا يُؤْلِمانِ في الحالِ إلّا (p-٨)أنَّهُما لَمّا كانا يَسْتَعْقِبانِ نَفْعًا عَظِيمًا لا جَرَمَ لا يُقالُ فِيهِما: إنَّهُما تَعْذِيبٌ، قالَ وإذا وُصِفَ الفَقْرُ بِأنَّهُ ذُلٌّ فَعَلى وجْهِ المَجازِ كَما سَمّى اللَّهُ تَعالى لِينَ المُؤْمِنِينَ ذُلًّا بِقَوْلِهِ: ﴿أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾ [المائِدَةِ: ٥٤ ] .
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إذْلالُ اللَّهِ تَعالى عَبْدَهُ المُبْطِلَ إنَّما يَكُونُ بِوُجُوهٍ مِنها بِالذَّمِّ واللَّعْنِ ومِنها بِأنْ يَخْذُلَهم بِالحُجَّةِ والنُّصْرَةِ، ومِنها بِأنْ يَجْعَلَهم خَوَلًا لِأهْلِ دِينِهِ، ويَجْعَلَ مالَهم غَنِيمَةً لَهم ومِنها بِالعُقُوبَةِ لَهم في الآخِرَةِ، هَذا جُمْلَةُ كَلامِ المُعْتَزِلَةِ، ومَذْهَبُنا أنَّهُ تَعالى يُعِزُّ البَعْضَ بِالإيمانِ والمَعْرِفَةِ، ويُذِلُّ البَعْضَ بِالكُفْرِ والضَّلالَةِ، وأعْظَمُ أنْواعِ الإعْزازِ والإذْلالِ هو هَذا والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ.
الأوَّلُ: وهو أنَّ عِزَّ الإسْلامِ وذُلَّ الكُفْرِ لا بُدَّ فِيهِ مِن فاعِلٍ، وذَلِكَ الفاعِلُ إمّا أنْ يَكُونَ هو العَبْدَ أوِ اللَّهَ تَعالى، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ أحَدًا لا يَخْتارُ الكُفْرَ لِنَفْسِهِ، بَلْ إنَّما يُرِيدُ الإيمانَ والمَعْرِفَةَ والهِدايَةَ فَلَمّا أرادَ العَبْدُ الإيمانَ ولَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَلْ حَصَلَ لَهُ الجَهْلُ، عَلِمْنا أنَّ حُصُولَهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى لا مِنَ العَبْدِ.
الثّانِي: وهو أنَّ الجَهْلَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ إمّا أنْ يَكُونَ بِواسِطَةِ شُبْهَةٍ وإمّا أنْ يُقالَ: يَفْعَلُهُ العَبْدُ ابْتِداءً، والأوَّلُ باطِلٌ، إذْ لَوْ كانَ كُلُّ جَهْلٍ إنَّما يَحْصُلُ بِجَهْلٍ آخَرَ يَسْبِقُهُ ويَتَقَدَّمُهُ؛ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وهو مُحالٌ، فَبَقِيَ أنْ يُقالَ: تِلْكَ الجِهاتُ تَنْتَهِي إلى جَهْلٍ يَفْعَلُهُ العَبْدُ ابْتِداءً مِن غَيْرِ سَبْقِ مُوجِبٍ البَتَّةَ، لَكِنّا نَجِدُ مِن أنْفُسِنا أنَّ العاقِلَ لا يَرْضى لِنَفْسِهِ أنْ يَصِيرَ عَلى الجَهْلِ ابْتِداءً مِن غَيْرِ مُوجِبٍ، فَعَلِمْنا أنَّ ذَلِكَ بِإذْلالِ اللَّهِ عَبْدَهُ وبِخِذْلانِهِ إيّاهُ.
الثّالِثُ: ما بَيَّنّا أنَّ الفِعْلَ لا بُدَّ فِيهِ مِنَ الدّاعِي والمُرَجِّحِ، وذَلِكَ المُرَجِّحُ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَإنْ كانَ في طَرَفِ الخَيْرِ كانَ إعْزازًا، وإنْ كانَ في طَرَفِ الجَهْلِ والشَّرِّ والضَّلالَةِ كانَ إذْلالًا، فَثَبَتَ أنَّ المُعِزَّ والمُذِلَّ هو اللَّهُ تَعالى.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ .
فاعْلَمْ أنَّ المُرادَ مِنَ اليَدِ هو القُدْرَةُ، والمَعْنى بِقُدْرَتِكَ الخَيْرُ والألِفُ واللّامُ في الخَيْرِ يُوجِبانِ العُمُومَ، فالمَعْنى بِقُدْرَتِكَ تَحْصُلُ كُلُّ البَرَكاتِ والخَيْراتِ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ كَأنَّهُ قالَ بِيَدِكَ الخَيْرُ لا بِيَدِ غَيْرِكِ، كَما أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ [الكافِرُونَ: ٦ ] أيْ لَكم دِينُكم أيْ لا لِغَيْرِكم وذَلِكَ الحَصْرُ يُنافِي حُصُولَ الخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ دَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ مِن هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ عَلى أنَّ جَمِيعَ الخَيْراتِ مِنهُ، وبِتَكْوِينِهِ وتَخْلِيقِهِ وإيجادِهِ وإبْداعِهِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: أفْضَلُ الخَيْراتِ هو الإيمانُ بِاللَّهِ تَعالى ومَعْرِفَتُهُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الخَيْرُ مِن تَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى لا مِن تَخْلِيقِ العَبْدِ وهَذا اسْتِدْلالٌ ظاهِرٌ، ومِنَ الأصْحابِ مَن زادَ في هَذا التَّقْدِيرِ فَقالَ: كُلُّ فاعِلَيْنِ فِعْلُ أحَدِهِما أشْرَفُ وأفْضَلُ مِن فِعْلِ الآخَرِ كانَ ذَلِكَ الفاعِلُ أشْرَفَ وأكْمَلَ مِنَ الآخَرِ، ولا شَكَّ أنَّ الإيمانَ أفْضَلُ مِنَ الخَيْرِ، ومِن كُلِّ ما سِوى الإيمانِ، فَلَوْ كانَ الإيمانُ بِخَلْقِ العَبْدِ لا بِخَلْقِ اللَّهِ لَوَجَبَ كَوْنُ العَبْدِ زائِدًا في الخَيْرِيَّةِ عَلى اللَّهِ تَعالى، وفي الفَضِيلَةِ والكَمالِ، وذَلِكَ كُفْرٌ قَبِيحٌ فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ مِن هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ عَلى أنَّ الإيمانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى.
فَإنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْكم مِن وجْهٍ آخَرَ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ كانَ مَعْناهُ أنَّهُ لَيْسَ بِيَدِكَ إلّا الخَيْرُ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ لا يَكُونَ الكُفْرُ والمَعْصِيَةُ واقِعَيْنِ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ.
والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِيَدِكَ الخَيْرُ﴾ يُفِيدُ أنَّ بِيَدِهِ الخَيْرَ لا بِيَدِ غَيْرِهِ، وهَذا يُنافِي أنْ يَكُونَ بِيَدِ غَيْرِهِ، ولَكِنْ لا يُنافِي أنْ يَكُونَ بِيَدِهِ الخَيْرُ وبِيَدِهِ ما سِوى الخَيْرِ، إلّا أنَّهُ خَصَّ الخَيْرَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ الأمْرُ المُنْتَفَعُ بِهِ فَوَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ لِهَذا المَعْنى، قالَ القاضِي: كُلُّ خَيْرٍ حَصَلَ مِن جِهَةِ العِبادِ فَلَوْلا أنَّهُ تَعالى أقْدَرَهم عَلَيْهِ (p-٩)وهَداهم إلَيْهِ لَما تَمَكَّنُوا مِنهُ، فَلِهَذا السَّبَبِ كانَ مُضافًا إلى اللَّهِ تَعالى إلّا أنَّ هَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ بَعْضُ الخَيْرِ مُضافًا إلى اللَّهِ تَعالى، ويَصِيرُ أشْرَفُ الخَيْراتِ مُضافًا إلى العَبْدِ، وذَلِكَ عَلى خِلافِ هَذا النَّصِّ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فَهَذا كالتَّأْكِيدِ لِما تَقَدَّمَ مِن كَوْنِهِ مالِكًا لِإيتاءِ المُلْكِ ونَزْعِهِ والإعْزازِ والإذْلالِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْلِ﴾ فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَجْعَلَ اللَّيْلَ قَصِيرًا ويَجْعَلَ ذَلِكَ القَدْرَ الزّائِدَ داخِلًا في النَّهارِ وتارَةً عَلى العَكْسِ مِن ذَلِكَ وإنَّما فَعَلَ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ عَلَّقَ قِوامَ العالَمِ ونِظامَهُ بِذَلِكَ.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ هو أنَّهُ تَعالى يَأْتِي بِاللَّيْلِ عَقِيبَ النَّهارِ، فَيُلْبِسُ الدُّنْيا ظُلْمَةً بَعْدَ أنْ كانَ فِيها ضَوْءُ النَّهارِ، ثُمَّ يَأْتِي بِالنَّهارِ عَقِيبَ اللَّيْلِ فَيُلْبِسُ الدُّنْيا ضَوْءَهُ، فَكانَ المُرادُ مِن إيلاجِ أحَدِهِما في الآخَرِ إيجادَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَقِيبَ الآخَرِ، والأوَّلُ أقْرَبُ إلى اللَّفْظِ، لِأنَّهُ إذا كانَ النَّهارُ طَوِيلًا فَجَعَلَ ما نَقَصَ مِنهُ زِيادَةً في اللَّيْلِ كانَ ما نَقَصَ مِنهُ داخِلًا في اللَّيْلِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ“ المَيِّتَ " بِالتَّشْدِيدِ، والباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وهُما لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، قالَ المُبَرِّدُ: أجْمَعَ البَصْرِيُّونَ عَلى أنَّهُما سَواءٌ وأنْشَدُوا:
؎إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحْياءِ
وهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: هَيِّنٌ وهَيْنٌ، ولَيِّنٌ ولَيْنٌ، وقَدْ ذَهَبَ ذاهِبُونَ إلى أنَّ المَيْتَ مَن قَدْ ماتَ، والمَيِّتَ مَن لَمْ يَمُتْ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا:
أحَدُها: يُخْرِجُ المُؤْمِنَ مِنَ الكافِرِ كَإبْراهِيمَ مِن آزَرَ، والكافِرَ مِنَ المُؤْمِنِ مِثْلُ كَنْعانَ مِن نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
والثّانِي: يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنَ الخَبِيثِ وبِالعَكْسِ.
والثّالِثُ: يُخْرِجُ الحَيَوانَ مِنَ النُّطْفَةِ، والطَّيْرَ مِنَ البَيْضَةِ وبِالعَكْسِ. والرّابِعُ: يُخْرِجُ السُّنْبُلَةَ مِنَ الحَبَّةِ وبِالعَكْسِ، والنَّخْلَةَ مِنَ النَّواةِ وبِالعَكْسِ، قالَ القَفّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والكَلِمَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْكُلِّ، أمّا الكُفْرُ والإيمانُ فَقالَ تَعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ [الأنْعامِ: ١٢٢ ] يُرِيدُ كانَ كافِرًا فَهَدَيْناهُ فَجَعَلَ المَوْتَ كُفْرًا والحَياةَ إيمانًا، وسَمّى إخْراجَ النَّباتِ مِنَ الأرْضِ إحْياءً، وجَعَلَ قَبْلَ ذَلِكَ مَيْتَةً فَقالَ: ﴿ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ [الرُّومِ: ٥٠ ] وقالَ: ﴿فَسُقْناهُ إلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأحْيَيْنا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ [فاطِرٍ: ٩ ] وقالَ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨ ] .
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وتَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ يُعْطِي مَن يَشاءُ ما يَشاءُ لا يُحاسِبُهُ عَلى ذَلِكَ أحَدٌ، إذْ لَيْسَ فَوْقَهُ مَلِكٌ يُحاسِبُهُ بَلْ هو المَلِكُ، يُعْطِي مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
والثّانِي: تَرْزُقُ مَن تَشاءُ [ رِزْقًا ]غَيْرَ مَقْدُورٍ ولا مَحْدُودٍ، بَلْ تَبْسُطُهُ لَهُ وتُوَسِّعُهُ عَلَيْهِ كَما يُقالُ: فُلانٌ يُنْفِقُ بِغَيْرِ حِسابٍ إذا وُصِفَ عَطاؤُهُ بِالكَثْرَةِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهم في تَكْثِيرِ مالِ الإنْسانِ: عِنْدَهُ مالٌ لا يُحْصى.
والثّالِثُ: تَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، يَعْنِي عَلى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ مِن غَيْرِ اسْتِحْقاقٍ لِأنَّ مَن أعْطى عَلى قَدْرِ الِاسْتِحْقاقِ فَقَدْ أعْطى بِحِسابٍ، وقالَ بَعْضُ مَن ذَهَبَ إلى هَذا المَعْنى: إنَّكَ لا تَرْزُقُ عِبادَكَ عَلى مَقادِيرِ أعْمالِهِمْ واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":26,"ayahs":["قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِی ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَاۤءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَاۤءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاۤءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاۤءُۖ بِیَدِكَ ٱلۡخَیۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ","تُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ"],"ayah":"تُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق