الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهم وهم مُعْرِضُونَ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ وغَرَّهم في دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿فَكَيْفَ إذا جَمَعْناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا نَبَّهَ عَلى عِنادِ القَوْمِ بِقَوْلِهِ ﴿فَإنْ حاجُّوكَ فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ﴾ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ غايَةَ عِنادِهِمْ، وهو أنَّهم يُدْعَوْنَ إلى الكِتابِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أنَّهم يُؤْمِنُونَ بِهِ، وهو التَّوْراةُ، ثُمَّ إنَّهم يَتَمَرَّدُونَ، ويَتَوَلَّوْنَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى غايَةِ عِنادِهِمْ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ظاهِرُ قَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ يَتَناوَلُ كُلَّهم، ولا شَكَّ أنَّ هَذا مَذْكُورٌ في مَعْرِضِ الذَّمِّ، إلّا أنَّهُ قَدْ دَلَّ دَلِيلٌ آخَرُ، عَلى أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أهْلِ الكِتابِ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَعالى يَقُولُ ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وهم يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: ١١٣] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ المُرادُ بِهِ غَيْرُ القُرْآنِ لِأنَّهُ أضافَ الكِتابَ إلى الكُفّارِ، وهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ حَمْلُهُ عَلى الكِتابِ الَّذِي كانُوا مُقِرِّينَ بِأنَّهُ حَقٌّ، ومِن عِنْدِ اللَّهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرُوا في سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: أحَدُها: «رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ رَجُلًا وامْرَأةً مِنَ اليَهُودِ زَنَيا، وكانا ذَوَيْ شَرَفٍ، وكانَ في كِتابِهِمُ الرَّجْمُ، فَكَرِهُوا رَجْمَهُما لِشَرَفِهِما، فَرَجَعُوا في أمْرِهِما إلى النَّبِيِّ ﷺ، رَجاءَ أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ رُخْصَةٌ في تَرْكِ الرَّجْمِ فَحَكَمَ الرَّسُولُ ﷺ بِالرَّجْمِ فَأنْكَرُوا ذَلِكَ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: بَيْنِي وبَيْنَكُمُ التَّوْراةُ فَإنَّ فِيها الرَّجْمَ فَمَن أعْلَمُكم ؟ قالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيا الفَدَكِيُّ فَأتَوْا بِهِ وأحْضَرُوا التَّوْراةَ، فَلَمّا أتى عَلى آيَةِ الرَّجْمِ وضَعَ يَدَهُ عَلَيْها، فَقالَ ابْنُ سَلامٍ: قَدْ جاوَزَ مَوْضِعَها يا رَسُولَ اللَّهِ فَرَفَعَ كَفَّهُ عَنْها فَوَجَدُوا آيَةَ الرَّجْمِ، فَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِهِما فَرُجِما، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ» . والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ: «أنَّهُ ﷺ دَخَلَ مَدْرَسَةَ اليَهُودِ، وكانَ فِيها جَماعَةٌ مِنهم فَدَعاهم إلى الإسْلامِ فَقالُوا: عَلى أيِّ دِينٍ أنْتَ ؟ فَقالَ: عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ، فَقالُوا: إنَّ إبْراهِيمَ كانَ يَهُودِيًّا، فَقالَ ﷺ: هَلُمُّوا إلى التَّوْراةِ، فَأبَوْا ذَلِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ» . والرِّوايَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ عَلاماتِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَذْكُورَةٌ في التَّوْراةِ، والدَّلائِلُ الدّالَّةُ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ (p-١٨٩)مَوْجُودَةٌ فِيها، فَدَعاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ إلى التَّوْراةِ، وإلى تِلْكَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّتِهِ فَأبَوْا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ. والمَعْنى أنَّهم إذا أبَوْا أنْ يُجِيبُوا إلى التَّحاكُمِ إلى كِتابِهِمْ، فَلا تَعْجَبْ مِن مُخالَفَتِهِمْ كِتابَكَ فَلِذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣] وهَذِهِ الآيَةُ عَلى هَذِهِ الرِّوايَةِ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ وُجِدَ في التَّوْراةِ دَلائِلُ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، إذْ لَوْ عَلِمُوا أنَّهُ لَيْسَ في التَّوْراةِ ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَسارَعُوا إلى بَيانِ ما فِيها ولَكِنَّهم أسَرُّوا ذَلِكَ. والرِّوايَةُ الرّابِعَةُ: أنَّ هَذا الحُكْمَ عامٌّ في اليَهُودِ والنَّصارى، وذَلِكَ لِأنَّ دَلائِلَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ كانَتْ مَوْجُودَةً في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ وكانُوا يُدْعَوْنَ إلى حُكْمِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ وكانُوا يَأْبَوْنَ. * * * أمّا قَوْلُهُ ﴿نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ فالمُرادُ مِنهُ نَصِيبًا مِن عِلْمِ الكِتابِ، لِأنّا لَوْ أجْرَيْناهُ عَلى ظاهِرِهِ فُهِمَ أنَّهم قَدْ أُوتُوا كُلَّ الكِتابِ والمُرادُ بِذَلِكَ العُلَماءُ مِنهم وهُمُ الَّذِينَ يُدْعَوْنَ إلى الكِتابِ، لِأنَّ مَن لا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ لا يُدْعى إلَيْهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما والحَسَنِ أنَّهُ القُرْآنُ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ دُعُوا إلى حُكْمِ كِتابٍ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ؟ قُلْنا: إنَّهم إنَّما دُعُوا إلَيْهِ بَعْدَ قِيامِ الحُجَجِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ. والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ: إنَّهُ التَّوْراةُ واحْتَجَّ القائِلُونَ بِهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الرِّواياتِ المَذْكُورَةَ في سَبَبِ النُّزُولِ دالَّةٌ عَلى أنَّ القَوْمَ كانُوا يُدْعَوْنَ إلى التَّوْراةِ فَكانُوا يَأْبَوْنَ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى عَجَّبَ رَسُولَهُ ﷺ مِن تَمَرُّدِهِمْ وإعْراضِهِمْ، والتَّعَجُّبُ إنَّما يَحْصُلُ إذا تَمَرَّدُوا عَنْ حُكْمِ الكِتابِ الَّذِي يَعْتَقِدُونَ في صِحَّتِهِ، ويُقِرُّونَ بِحَقِيقَتِهِ. الثّالِثُ: أنَّ هَذا هو المُناسِبُ لِما قَبْلَ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلّا البَلاغُ، وصَبَّرَهُ عَلى ما قالُوهُ في تَكْذِيبِهِ مَعَ ظُهُورِ الحُجَّةِ بَيَّنَ أنَّهم إنَّما اسْتَعْمَلُوا طَرِيقَ المُكابَرَةِ في نَفْسِ كِتابِهِمُ الَّذِي أقَرُّوا بِصِحَّتِهِ فَسَتَرُوا ما فِيهِ مِنَ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهم في غايَةِ التَّعَصُّبِ والبُعْدِ عَنْ قَبُولِ الحَقِّ. وأمّا قَوْلُهُ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ فالمَعْنى: لِيَحْكُمَ الكِتابُ بَيْنَهم، وإضافَةُ الحُكْمِ إلى الكِتابِ مَجازٌ مَشْهُورٌ، وقُرِئَ ”لِيُحْكَمَ“ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: وقَوْلُهُ ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الِاخْتِلافُ واقِعًا فِيما بَيْنَهم، لا فِيما بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أنَّهم عِنْدَ الدُّعاءِ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهم وهُمُ الرُّؤَساءُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم هُمُ العُلَماءُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وهم مُعْرِضُونَ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: المُتَوَلُّونَ هُمُ الرُّؤَساءُ والعُلَماءُ والمُعْرِضُونَ الباقُونَ مِنهم، كَأنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ يَتَوَلّى العُلَماءُ والأتْباعُ مُعْرِضُونَ عَنِ القَبُولِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِأجْلِ تَوَلِّي عُلَمائِهِمْ. والثّانِي: أنَّ المُتَوَلِّيَ والمُعْرِضَ هو ذَلِكَ الفَرِيقُ، والمَعْنى أنَّهُ مُتَوَلٍّ عَنِ اسْتِماعِ الحُجَّةِ في ذَلِكَ المَقامِ ومُعْرِضٌ عَنِ اسْتِماعِ سائِرِ الحُجَجِ في سائِرِ المَسائِلِ والمَطالِبِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَظُنَّ أنَّهُ تَوَلّى عَنْ هَذِهِ (p-١٩٠)المَسْألَةِ بَلْ هو مُعْرِضٌ عَنِ الكُلِّ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ فالكَلامُ في تَفْسِيرِهِ قَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ، ووَجْهُ النَّظْمِ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ في الآيَةِ الأُولى ﴿ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهم وهم مُعْرِضُونَ﴾ قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ذَلِكَ التَّوَلِّي والإعْراضُ إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِ أنَّهم قالُوا: لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ، قالَ الجُبّائِيُّ: وفِيها دَلالَةٌ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ أهْلَ النّارِ يَخْرُجُونَ مِنَ النّارِ، قالَ: لِأنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ في هَذِهِ الأُمَّةِ لَصَحَّ في سائِرِ الأُمَمِ، ولَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ في سائِرِ الأُمَمِ لَما كانَ الخَبَرُ بِذَلِكَ كاذِبًا، ولَما اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، فَلَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ في مَعْرِضِ الذَّمِّ عَلِمْنا أنَّ القَوْلَ بِخُرُوجِ أهْلِ النّارِ قَوْلٌ باطِلٌ. وأقُولُ: كانَ مِن حَقِّهِ أنْ لا يَذْكُرَ مِثْلَ هَذا الكَلامِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَذْهَبَهُ أنَّ العَفْوَ حَسَنٌ جائِزٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِن حُصُولِ العَفْوِ في هَذِهِ الأُمَّةِ حُصُولُهُ في سائِرِ الأُمَمِ. سَلَّمْنا أنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ القَوْمَ إنَّما اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ عَلى مُجَرَّدِ الإخْبارِ بِأنَّ الفاسِقَ يَخْرُجُ مِنَ النّارِ ؟ بَلْ هاهُنا وُجُوهٌ أُخَرُ: الأوَّلُ: لِعِلْمِهِمُ اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ عَلى أنَّهم قَطَعُوا بِأنَّ مُدَّةَ عَذابِ الفاسِقِ قَصِيرَةٌ قَلِيلَةٌ فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: مُدَّةُ عَذابِنا سَبْعَةُ أيّامٍ، ومِنهم مَن قالَ: بَلْ أرْبَعُونَ لَيْلَةً عَلى قَدْرِ مُدَّةِ عِبادَةِ العِجْلِ. والثّانِي: أنَّهم كانُوا يَتَساهَلُونَ في أُصُولِ الدِّينِ ويَقُولُونَ: بِتَقْدِيرِ وُقُوعِ الخَطَأِ مِنّا فَإنَّ عَذابَنا قَلِيلٌ؛ وهَذا خَطَأٌ، لِأنَّ عِنْدَنا المُخْطِئَ في التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ عَذابُهُ دائِمٌ، لِأنَّهُ كافِرٌ، والكافِرُ عَذابُهُ دائِمٌ. والثّالِثُ: أنَّهم لَمّا قالُوا ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ فَقَدِ اسْتَحْقَرُوا تَكْذِيبَ مُحَمَّدٍ ﷺ واعْتَقَدُوا أنَّهُ لا تَأْثِيرَ لَهُ في تَغْلِيظِ العِقابِ فَكانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ ﷺ وذَلِكَ كُفْرٌ والكافِرُ المُصِرُّ عَلى كُفْرِهِ لا شَكَّ أنَّ عَذابَهُ مُخَلَّدٌ، وإذا كانَ الأمْرُ عَلى ما ذَكَرْناهُ ثَبَتَ أنَّ احْتِجاجَ الجُبّائِيِّ بِهَذِهِ الآيَةِ ضَعِيفٌ وتَمامُ الكَلامِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقْصاءِ مَذْكُورٌ في سُورَةِ البَقَرَةِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وغَرَّهم في دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ ﴿ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ فَقِيلَ: هو قَوْلُهم ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وقِيلَ: هو قَوْلُهم ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ وقِيلَ: غَرَّهم قَوْلُهم: نَحْنُ عَلى الحَقِّ وأنْتَ عَلى الباطِلِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكَيْفَ إذا جَمَعْناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهُمُ اغْتِرارَهم بِما هم عَلَيْهِ مِنَ الجَهْلِ بَيَّنَ أنَّهُ سَيَجِيءُ يَوْمٌ يَزُولُ فِيهِ ذَلِكَ الجَهْلُ، ويُكْشَفُ فِيهِ ذَلِكَ الغُرُورُ فَقالَ ﴿فَكَيْفَ إذا جَمَعْناهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ وفي الكَلامِ حَذْفٌ، والتَّقْدِيرُ: فَكَيْفَ صُورَتُهم وحالُهم ويُحْذَفُ الحالُ كَثِيرًا مَعَ كَيْفَ لِدَلالَتِهِ عَلَيْها، تَقُولُ: كُنْتُ أُكْرِمُهُ وهو لَمْ يَزُرْنِي، فَكَيْفَ لَوْ زارَنِي أيْ كَيْفَ حالُهُ إذا زارَنِي، واعْلَمْ أنَّ هَذا الحَذْفَ يُوجِبُ مَزِيدَ البَلاغَةِ لِما فِيهِ مِن تَحْرِيكِ النَّفْسِ عَلى اسْتِحْضارِ كُلِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ الكَرامَةِ في قَوْلِ القائِلِ: لَوْ زارَنِي، وكُلِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ العَذابِ في هَذِهِ الآيَةِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا جَمَعْناهم لِيَوْمٍ﴾ ولَمْ يَقُلْ في يَوْمٍ، لِأنَّ المُرادَ: لِجَزاءِ يَوْمٍ أوْ لِحِسابِ يَوْمٍ فَحُذِفَ المُضافُ ودَلَّتِ اللّامُ عَلَيْهِ، قالَ الفَرّاءُ: اللّامُ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ إذا قُلْتَ: جُمِعُوا لِيَوْمِ الخَمِيسِ، كانَ المَعْنى جُمِعُوا لِفِعْلٍ يُوجَدُ في يَوْمِ الخَمِيسِ، وإذا قُلْتَ: جُمِعُوا في يَوْمِ الخَمِيسِ لَمْ تُضْمِرْ فِعْلًا وأيْضًا فَمِنَ المَعْلُومِ (p-١٩١)أنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ لا فائِدَةَ فِيهِ إلّا المُجازاةُ وإظْهارُ الفَرْقِ بَيْنَ المُثابِ والمُعاقَبِ، وقَوْلُهُ ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ لا شَكَّ فِيهِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ﴾ فَإنْ حَمَلْتَ ما كَسَبَتْ عَلى عَمَلِ العَبْدِ جُعِلَ في الكَلامِ حَذْفٌ، والتَّقْدِيرُ: ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جَزاءَ ما كَسَبَتْ مِن ثَوابٍ أوْ عِقابٍ، وإنْ حَمَلْتَ ما كَسَبَتْ عَلى الثَّوابِ والعِقابِ اسْتَغْنَيْتَ عَنْ هَذا الإضْمارِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ فَلا يُنْقَصُ مِن ثَوابِ الطّاعاتِ، ولا يُزادُ عَلى عِقابِ السَّيِّئاتِ. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ﴾ يَسْتَدِلُّ بِهِ القائِلُونَ بِالوَعِيدِ، ويَسْتَدِلُّ بِهِ أصْحابُنا القائِلُونَ بِأنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ مِن أهْلِ الصَّلاةِ لا يُخَلَّدُ في النّارِ، أمّا الأوَّلُونَ قالُوا: لِأنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ لا شَكَّ أنَّهُ مُسْتَحِقٌّ العِقابَ بِتِلْكَ الكَبِيرَةِ، والآيَةُ دَلَّتْ عَلى أنَّ كُلَّ نَفْسٍ تُوَفّى عَمَلَها وما كَسَبَتْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي وصُولَ العِقابِ إلى صاحِبِ الكَبِيرَةِ. وجَوابُنا: أنَّ هَذا مِنَ العُمُوماتِ، وقَدْ تَكَلَّمْنا في تَمَسُّكِ المُعْتَزِلَةِ بِالعُمُوماتِ. وأمّا أصْحابُنا فَإنَّهم يَقُولُونَ: إنَّ المُؤْمِنَ اسْتَحَقَّ ثَوابَ الإيمانِ فَلا بُدَّ وأنْ يُوَفّى عَلَيْهِ ذَلِكَ الثَّوابُ لِقَوْلِهِ ﴿ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ﴾ فَإمّا أنْ يُثابَ في الجَنَّةِ ثُمَّ يُنْقَلَ إلى دارِ العِقابِ وذَلِكَ باطِلٌ بِالإجْماعِ، وإمّا أنْ يُقالَ: يُعاقَبُ بِالنّارِ ثُمَّ يُنْقَلُ إلى دارِ الثَّوابِ أبَدًا مُخَلَّدًا وهو المَطْلُوبُ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ ثَوابَ إيمانِهِمْ يُحْبَطُ بِعِقابِ مَعْصِيَتِهِمْ ؟ قُلْنا: هَذا باطِلٌ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ القَوْلَ بِالمُحابَطَةِ مُحالٌ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وأيْضًا فَإنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ ثَوابَ تَوْحِيدِ سَبْعِينَ سَنَةً أزْيَدُ مِن عِقابِ شُرْبِ جَرْعَةٍ مِنَ الخَمْرِ، والمُنازِعُ فِيهِ مُكابِرٌ، فَبِتَقْدِيرِ القَوْلِ بِصِحَّةِ المُحابَطَةِ يَمْتَنِعُ سُقُوطُ كُلِّ ثَوابِ الإيمانِ بِعِقابِ شُرْبِ جَرْعَةٍ مِنَ الخَمْرِ، وكانَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُ: ثَوابُ إيمانِ لَحْظَةٍ، يُسْقِطُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً، فَثَوابُ إيمانِ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ يُعْقَلُ أنْ يُحْبَطَ بِعِقابِ ذَنْبِ لَحْظَةٍ ! ولا شَكَّ أنَّهُ كَلامٌ ظاهِرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب