الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ مِن قَبْلُ حالَ مَن يُعْرِضُ ويَتَوَلّى بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ﴾ أرْدَفَهُ بِصِفَةِ هَذا المُتَوَلِّي فَذَكَرَ ثَلاثَةَ أنْواعٍ مِنَ الصِّفاتِ:
الصِّفَةُ الأُولى: قَوْلُهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ .
فَإنْ قِيلَ: ظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي كَوْنَهم كافِرِينَ بِجَمِيعِ آياتِ اللَّهِ واليَهُودُ والنَّصارى ما كانُوا كَذَلِكَ لِأنَّهم كانُوا مُقِرِّينَ بِالصّانِعِ وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ والمَعادِ.
قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ نَصْرِفَ آياتِ اللَّهِ إلى المَعْهُودِ السّابِقِ وهو القُرْآنُ، ومُحَمَّدٌ ﷺ .
الثّانِي: أنْ نَحْمِلَهُ عَلى العُمُومِ، ونَقُولَ إنَّ مَن كَذَّبَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَلْزَمُهُ أنْ يُكَذِّبَ بِجَمِيعِ آياتِ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ مَن تَناقَضَ لا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ مِنَ الآياتِ إذْ لَوْ كانَ مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ مِنها لَآمَنَ بِالجَمِيعِ.
الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ الحَسَنُ ”ويُقَتِّلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ“ وهو لِلْمُبالَغَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: رُوِيَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرّاحَ أنَّهُ قالَ: «قَلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ النّاسِ أشَدُّ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ ؟ قالَ: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أوْ رَجُلًا أمَرَ بِالمَعْرُوفِ ونَهى عَنِ المُنْكَرِ، وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ ثُمَّ قالَ: يا أبا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو إسْرائِيلَ ثَلاثَةً وأرْبَعِينَ نَبِيًّا مِن أوَّلِ النَّهارِ في ساعَةٍ واحِدَةٍ، فَقامَ مِائَةُ رَجُلٍ واثْنا عَشَرَ رَجُلًا مِن عُبّادِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَأمَرُوا مَن قَتَلَهم بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْهم عَنِ المُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا مِن آخِرِ النَّهارِ في ذَلِكَ اليَوْمِ فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى» . وأيْضًا القَوْمُ قَتَلُوا يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا، وزَعَمُوا أنَّهم قَتَلُوا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ فَعَلى قَوْلِهِمْ ثَبَتَ أنَّهم كانُوا يَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ.
* * *
وفِي الآيَةِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: إذا كانَ قَوْلُهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ في حُكْمِ المُسْتَقْبَلِ، لِأنَّهُ وعِيدٌ لِمَن كانَ في زَمَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولَمْ يَقَعْ مِنهم قَتْلُ الأنْبِياءِ ولا القائِمِينَ بِالقِسْطِ فَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ ؟
الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَمّا كانَتْ طَرِيقَةَ أسْلافِهِمْ صَحَّتْ هَذِهِ الإضافَةُ إلَيْهِمْ، إذْ كانُوا مُصَوِّبِينَ وبِطَرِيقَتِهِمْ راضِينَ، فَإنَّ صُنْعَ الأبِ قَدْ يُضافُ إلى الِابْنِ إذا كانَ راضِيًا بِهِ وجارِيًا عَلى طَرِيقَتِهِ. الثّانِي: أنَّ القَوْمَ كانُوا يُرِيدُونَ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقَتْلَ والمُؤْمِنِينَ إلّا أنَّهُ تَعالى عَصَمَهُ مِنهم، فَلَمّا كانُوا في (p-١٨٧)غايَةِ الرَّغْبَةِ في ذَلِكَ صَحَّ إطْلاقُ هَذا الِاسْمِ عَلَيْهِمْ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، كَما يُقالُ: النّارُ مُحْرِقَةٌ، والسُّمُّ قاتِلٌ، أيْ ذَلِكَ مِن شَأْنِهِما إذا وُجِدَ القابِلُ، فَكَذا هاهُنا لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ إلّا كَذَلِكَ.
السُّؤالُ الثّانِي: ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ وقَتْلُ الأنْبِياءِ لا يَكُونُ إلّا كَذَلِكَ ؟
والجَوابُ: ذَكَرْنا وُجُوهَ ذَلِكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ، والمُرادُ مِنهُ شَرْحُ عِظَمِ ذَنْبِهِمْ، وأيْضًا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهم قَصَدُوا بِطَرِيقَةِ الظُّلْمِ في قَتْلِهِمْ طَرِيقَةَ العَدْلِ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ ظاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأنَّهم قَتَلُوا الكُلَّ، ومَعْلُومٌ أنَّهم ما قَتَلُوا الكُلَّ ولا الأكْثَرَ ولا النِّصْفَ.
والجَوابُ: الألِفُ واللّامُ مَحْمُولانِ عَلى المَعْهُودِ لا عَلى الِاسْتِغْراقِ.
* * *
الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ ﴿ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النّاسِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ ”ويُقاتِلُونَ“ بِالألِفِ والباقُونَ ”ويَقْتُلُونَ“ وهُما سَواءٌ، لِأنَّهم قَدْ يُقاتِلُونَ فَيَقْتُلُونَ بِالقِتالِ، وقَدْ يَقْتُلُونَ ابْتِداءً مِن غَيْرِ قِتالٍ. وقَرَأ أُبَيٌّ ”ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ والَّذِينَ يَأْمُرُونَ“ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الحَسَنُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ القائِمَ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ عِنْدَ الخَوْفِ، تَلِي مَنزِلَتُهُ في العِظَمِ مَنزِلَةَ الأنْبِياءِ، ورُوِيَ «أنَّ رَجُلًا قامَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: أيُّ الجِهادِ أفْضَلُ ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”أفْضَلُ الجِهادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطانٍ جائِرٍ“» .
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى كَما وصَفَهم بِهَذِهِ الصِّفاتِ الثَّلاثَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ وعِيدَهم مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: إنَّما دَخَلَتِ الفاءُ في قَوْلِهِ (فَبَشِّرْهم) مَعَ أنَّهُ خَبَرُ إنَّ، لِأنَّهُ في مَعْنى الجَزاءِ والتَّقْدِيرُ: مَن يَكْفُرْ فَبَشِّرْهم.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذا مَحْمُولٌ عَلى الِاسْتِعارَةِ، وهو أنَّ إنْذارَ هَؤُلاءِ بِالعَذابِ قائِمٌ مَقامَ بُشْرى المُحْسِنِينَ بِالنَّعِيمِ، والكَلامُ في حَقِيقَةِ البِشارَةِ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [البقرة: ٢٥] .
النَّوْعُ الثّانِي مِنَ الوَعِيدِ: قَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ بِهَذا أنَّ مَحاسِنَ أعْمالِ الكُفّارِ مُحْبَطَةٌ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، أمّا الدُّنْيا فَبِإبْدالِ المَدْحِ بِالذَّمِّ والثَّناءِ بِاللَّعْنِ، ويَدْخُلُ فِيهِ ما يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ القَتْلِ والسَّبْيِ، وأخْذِ الأمْوالِ مِنهم غَنِيمَةً، والِاسْتِرْقاقِ لَهم إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّلِّ الظّاهِرِ فِيهِمْ، وأمّا حُبُوطُها في الآخِرَةِ فَبِإزالَةِ الثَّوابِ إلى العِقابِ.
النَّوْعُ الثّالِثُ مِن وعِيدِهِمْ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ بِالنَّوْعِ الأوَّلِ مِنَ الوَعِيدِ اجْتِماعَ أسْبابِ الآلامِ والمَكْرُوهاتِ في حَقِّهِمْ وبَيَّنَ بِالنَّوْعِ الثّانِي زَوالَ أسْبابِ المَنافِعِ عَنْهم بِالكُلِّيَّةِ وبَيَّنَ بِهَذا الوَجْهِ الثّالِثِ لُزُومَ ذَلِكَ في حَقِّهِمْ عَلى وجْهٍ لا يَكُونُ لَهم ناصِرٌ ولا دافِعٌ واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":21,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَیَقۡتُلُونَ ٱلَّذِینَ یَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِینَ"],"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَیَقۡتُلُونَ ٱلَّذِینَ یَأۡمُرُونَ بِٱلۡقِسۡطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِیمٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق