الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهم: ﴿رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ فِيهِ حَذْفُ المُضافِ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِكَ. وثانِيها: وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ ذِكْرِ المُنادِي لِلْإيمانِ وهو الرَّسُولُ وعَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿فَآمَنّا﴾ وهو التَّصْدِيقُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَهُنا سُؤالٌ: وهو أنَّ الخُلْفَ في وعْدِ اللَّهِ مُحالٌ، فَكَيْفَ طَلَبُوا بِالدُّعاءِ ما عَلِمُوا أنَّهُ لا مَحالَةَ واقِعٌ ؟ والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنَ الدُّعاءِ طَلَبَ الفِعْلِ، بَلِ المَقْصُودُ مِنهُ إظْهارُ الخُضُوعِ والذِّلَّةِ والعُبُودِيَّةِ، وقَدْ أمَرَنا بِالدُّعاءِ في أشْياءَ نَعْلَمُ قَطْعًا أنَّها تُوجَدُ لا مَحالَةَ، كَقَوْلِهِ: ﴿قالَ رَبِّ احْكم ‎بِالحَقِّ﴾ [الأنبياء: ١١٢] وقَوْلِهِ: ﴿فاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر: ٧] . والوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنَّ وعْدَ اللَّهِ لا يَتَناوَلُ آحادَ الأُمَّةِ بِأعْيانِهِمْ، بَلْ إنَّما يَتَناوَلُهم بِحَسَبِ أوْصافِهِمْ، فَإنَّهُ تَعالى وعَدَ المُتَّقِينَ بِالثَّوابِ، ووَعَدَ الفُسّاقَ بِالعِقابِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وآتِنا ما وعَدْتَنا﴾ مَعْناهُ: وفِّقْنا لِلْأعْمالِ الَّتِي بِها نَصِيرُ أهْلًا لِوَعْدِكَ، واعْصِمْنا مِنَ الأعْمالِ الَّتِي نَصِيرُ بِها أهْلًا لِلْعِقابِ والخِزْيِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ المَقْصُودُ مِن هَذِهِ الآيَةِ طَلَبَ التَّوْفِيقِ لِلطّاعَةِ والعِصْمَةِ عَنِ المَعْصِيَةِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى وعَدَ المُؤْمِنِينَ بِأنْ يَنْصُرَهم في الدُّنْيا ويَقْهَرَ عَدُوَّهم، فَهم طَلَبُوا تَعْجِيلَ ذَلِكَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الإشْكالُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الآيَةُ دَلَّتْ عَلى أنَّهم إنَّما طَلَبُوا مَنافِعَ الآخِرَةِ بِحُكْمِ الوَعْدِ لا بِحُكْمِ الِاسْتِحْقاقِ لِأنَّهم قالُوا: رَبَّنا وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، وفي آخِرِ الكَلامِ قالُوا: ﴿إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعادَ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُقْتَضِيَ لِحُصُولِ مَنافِعِ الآخِرَةِ هو الوَعْدُ لا الِاسْتِحْقاقُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: هَهُنا سُؤالٌ آخَرُ: وهو أنَّهُ مَتى حَصَلَ الثَّوابُ كانَ انْدِفاعُ العِقابِ لازِمًا لا مَحالَةَ، فَقَوْلُهُ: ﴿وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ طَلَبٌ لِلثَّوابِ، فَبَعْدَ طَلَبِ الثَّوابِ كَيْفَ طُلِبَ تَرْكُ العِقابِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ بَلْ لَوْ طُلِبَ تَرْكُ العِقابِ أوَّلًا ثُمَّ طُلِبَ إيصالُ الثَّوابِ كانَ الكَلامُ مُسْتَقِيمًا ؟ . والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الثَّوابَ شَرْطُهُ أنْ يَكُونَ مَنفَعَةً مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ والسُّرُورِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وآتِنا ما وعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ﴾ المُرادُ مِنهُ المَنافِعُ، وقَوْلُهُ: ﴿ولا تُخْزِنا﴾ المُرادُ مِنهُ التَّعْظِيمُ. الثّانِي: أنّا قَدْ بَيَّنّا أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ طَلَبُ التَّوْفِيقِ عَلى الطّاعَةِ والعِصْمَةِ عَنِ المَعْصِيَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَحْسُنُ النَّظْمُ كَأنَّهُ قِيلَ: وفِّقْنا لِلطّاعاتِ، وإذا وفَّقْتَنا لَها فاعْصِمْنا عَمّا يُبْطِلُها ويُزِيلُها ويُوقِعُنا في الخِزْيِ والهَلاكِ، والحاصِلُ كَأنَّهُ قِيلَ: وفِّقْنا لِطاعَتِكَ فَإنّا لا نَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِنَ الطّاعاتِ إلّا بِتَوْفِيقِكَ، وإذا (p-١٢١)وفَّقْتَ لِفِعْلِها فَوَفِّقْنا لِاسْتِبْقائِها فَإنّا لا نَقْدِرُ عَلى اسْتِبْقائِها واسْتِدامَتِها إلّا بِتَوْفِيقِكَ، وهو إشارَةٌ إلى أنَّ العَبْدَ لا يُمْكِنُهُ عَمَلٌ مِنَ الأعْمالِ، ولا فِعْلٌ مِنَ الأفْعالِ، ولا لَمْحَةٌ ولا حَرَكَةٌ إلّا بِإعانَةِ اللَّهِ وتَوْفِيقِهِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: ٤٧] فَإنَّهُ رُبَّما ظَنَّ الإنْسانُ أنَّهُ عَلى الِاعْتِقادِ الحَقِّ والعَمَلِ الصّالِحِ، ثُمَّ إنَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ يَظْهَرُ لَهُ أنَّ اعْتِقادَهُ كانَ ضَلالًا وعَمَلَهُ كانَ ذَنْبًا، فَهُناكَ تَحْصُلُ الخَجالَةُ العَظِيمَةُ والحَسْرَةُ الكامِلَةُ والأسَفُ الشَّدِيدُ، ثُمَّ قالَ حُكَماءُ الإسْلامِ: وذَلِكَ هو العَذابُ الرُّوحانِيُّ. قالُوا: وهَذا العَذابُ أشَدُّ مِنَ العَذابِ الجُسْمانِيِّ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ حَكى عَنْ هَؤُلاءِ العِبادِ المُؤْمِنِينَ أنَّهم طَلَبُوا في هَذا الدُّعاءِ أشْياءَ، فَأوَّلُ مَطالِبِهِمُ الِاحْتِرازُ عَنِ العَذابِ الجُسْمانِيِّ وهو قَوْلُهُ: ﴿فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ وآخِرُها الِاحْتِرازُ عَنِ العَذابِ الرُّوحانِيِّ وهو قَوْلُهُ: ﴿ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ العَذابَ الرُّوحانِيَّ أشَدُّ مِنَ العَذابِ الجُسْمانِيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب