الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ ﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ دَلائِلَ الإلَهِيَّةِ والقُدْرَةِ والحِكْمَةِ وهو ما يَتَّصِلُ بِتَقْرِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ ذَكَرَ بَعْدَها ما يَتَّصِلُ بِالعُبُودِيَّةِ، وأصْنافُ العُبُودِيَّةِ ثَلاثَةُ أقْسامٍ: التَّصْدِيقُ بِالقَلْبِ، والإقْرارُ بِاللِّسانِ، والعَمَلُ بِالجَوارِحِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَذْكُرُونَ اللَّهَ﴾ إشارَةٌ إلى عُبُودِيَّةِ اللِّسانِ، وقَوْلُهُ: ﴿قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ﴾ إشارَةٌ إلى عُبُودِيَّةِ الجَوارِحِ والأعْضاءِ، وقَوْلُهُ: ﴿ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ إشارَةٌ إلى عُبُودِيَّةِ القَلْبِ والفِكْرِ والرُّوحِ، والإنْسانُ لَيْسَ إلّا هَذا المَجْمُوعَ، فَإذا كانَ اللِّسانُ مُسْتَغْرِقًا في الذِّكْرِ، والأرْكانُ في الشُّكْرِ، والجِنانُ في الفِكْرِ، كانَ هَذا العَبْدُ مُسْتَغْرِقًا بِجَمِيعِ أجْزائِهِ في العُبُودِيَّةِ، فالآيَةُ الأُولى دالَّةٌ عَلى كَمالِ الرُّبُوبِيَّةِ، وهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى كَمالِ العُبُودِيَّةِ، فَما أحْسَنَ هَذا التَّرْتِيبَ في جَذْبِ الأرْواحِ مِنَ الخَلْقِ إلى الحَقِّ، وفي نَقْلِ الأسْرارِ مِن جانِبِ عالَمِ الغُرُورِ إلى جَنابِ المَلِكِ الغَفُورِ، ونَقُولُ: في الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: لِلْمُفَسِّرِينَ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ كَوْنَ الإنْسانِ دائِمَ الذِّكْرِ لِرَبِّهِ، فَإنَّ الأحْوالَ لَيْسَتْ إلّا هَذِهِ الثَّلاثَةُ، ثُمَّ لَمّا وصَفَهم بِكَوْنِهِمْ ذاكِرِينَ فِيها كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى كَوْنِهِمْ مُواظِبِينَ عَلى الذِّكْرِ غَيْرَ فاتِرِينَ عَنْهُ البَتَّةَ.
(p-١١١)والقَوْلُ الثّانِي: إنَّ المُرادَ مِنَ الذِّكْرِ الصَّلاةُ، والمَعْنى أنَّهم يُصَلُّونَ في حالِ القِيامِ، فَإنْ عَجَزُوا فَفي حالِ القُعُودِ، فَإنْ عَجَزُوا فَفي حالِ الِاضْطِجاعِ، والمَعْنى أنَّهم لا يَتْرُكُونَ الصَّلاةَ في شَيْءٍ مِنَ الأحْوالِ. والحَمْلُ عَلى الأوَّلِ أوْلى لِأنَّ الآياتِ الكَثِيرَةَ ناطِقَةٌ بِفَضِيلَةِ الذِّكْرِ، وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن أحَبَّ أنْ يَرْتَعَ في رِياضِ الجَنَّةِ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ» “ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهَذا الذِّكْرِ هو الذِّكْرَ بِاللِّسانِ، وأنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ الذِّكْرَ بِالقَلْبِ، والأكْمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الجَمْعَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذا صَلّى المَرِيضُ مُضْطَجِعًا وجَبَ أنْ يُصَلِّيَ عَلى جَنْبِهِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلْ يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا حَتّى إذا وجَدَ خِفَّةً قَعَدَ. وحُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ، وهو أنَّهُ تَعالى مَدَحَ مَن ذَكَرَهُ عَلى حالِ الِاضْطِجاعِ عَلى الجَنْبِ، فَكانَ هَذا الوَضْعُ أوْلى.
واعْلَمْ أنَّ فِيهِ دَقِيقَةً طِبِّيَّةً وهو أنَّهُ ثَبَتَ في المَباحِثِ الطِّبِّيَّةِ أنَّ كَوْنَ الإنْسانِ مُسْتَلْقِيًا عَلى قَفاهُ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِكْمالِ الفِكْرِ والتَّدَبُّرِ، وأمّا كَوْنُهُ مُضْطَجِعًا عَلى الجَنْبِ فَإنَّهُ غَيْرُ مانِعٍ مِنهُ، وهَذا المَقامُ يُرادُ فِيهِ التَّدَبُّرُ والتَّفَكُّرُ، ولِأنَّ الِاضْطِجاعَ عَلى الجَنْبِ يَمْنَعُ مِنَ النَّوْمِ المُغْرِقِ، فَكانَ هَذا الوَضْعُ أوْلى، لِكَوْنِهِ أقْرَبَ إلى اليَقَظَةِ، وإلى الِاشْتِغالِ بِالذِّكْرِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مَحَلُّ ”عَلى جُنُوبِهِمْ“ نَصْبٌ عَلى الحالِ عَطْفًا عَلى ما قَبْلَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: قِيامًا وقُعُودًا ومُضْطَجِعِينَ.
* * *
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَهم بِالذِّكْرِ وثَبَتَ أنَّ الذِّكْرَ لا يَكْمُلُ إلّا مَعَ الفِكْرِ، لا جَرَمَ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى رَغَّبَ في ذِكْرِ اللَّهِ، ولَمّا آلَ الأمْرُ إلى الفِكْرِ لَمْ يُرَغِّبْ في الفِكْرِ في اللَّهِ، بَلْ رَغَّبَ في الفِكْرِ في أحْوالِ السَّماواتِ والأرْضِ، وعَلى وفْقِ هَذِهِ الآيَةِ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«تَفَكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تَتَفَكَّرُوا في الخالِقِ» “، والسَّبَبُ في ذَلِكَ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِالخَلْقِ عَلى الخالِقِ لا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلى نَعْتِ المُماثَلَةِ، إنَّما يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلى نَعْتِ المُخالَفَةِ، فَإذَنْ نَسْتَدِلُّ بِحُدُوثِ هَذِهِ المَحْسُوساتِ عَلى قِدَمِ خالِقِها، وبِكَمِّيَّتِها وكَيْفِيَّتِها وشَكْلِها عَلى بَراءَةِ خالِقِها عَنِ الكَمِّيَّةِ والكَيْفِيَّةِ والشَّكْلِ، وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» “ مَعْناهُ مَن عَرَفَ نَفْسَهُ بِالحُدُوثِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالقِدَمِ، ومَن عَرَفَ نَفْسَهُ بِالإمْكانِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالوُجُوبِ، ومَن عَرَفَ نَفْسَهُ بِالحاجَةِ عَرَفَ رَبَّهُ بِالِاسْتِغْناءِ، فَكانَ التَّفَكُّرُ في الخَلْقِ مُمْكِنًا مِن هَذا الوَجْهِ، أمّا التَّفَكُّرُ في الخالِقِ فَهو غَيْرُ مُمْكِنٍ البَتَّةَ، فَإذَنْ لا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَتُهُ إلّا بِالسُّلُوبِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ ولا عَرَضٍ، ولا مُرَكَّبٍ ولا مُؤَلَّفٍ، ولا في الجِهَةِ، ولا شَكَّ أنَّ حَقِيقَتَهُ المَخْصُوصَةَ مُغايِرَةٌ لِهَذِهِ السُّلُوبِ، وتِلْكَ الحَقِيقَةُ المَخْصُوصَةُ لا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ إلى مَعْرِفَتِها، فَيَصِيرُ العَقْلُ كالوالِهِ المَدْهُوشِ المُتَحَيِّرِ في هَذا المَوْقِفِ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ نَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ التَّفَكُّرِ في اللَّهِ، وأمَرَ بِالتَّفَكُّرِ في المَخْلُوقاتِ، فَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ أمَرَ اللَّهُ في هَذِهِ الآياتِ بِذِكْرِهِ، ولَمّا ذَكَرَ الفِكْرَ لَمْ يَأْمُرْ بِالتَّفَكُّرِ فِيهِ، بَلْ أمَرَ بِالفِكْرِ في مَخْلُوقاتِهِ.
(p-١١٢)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِحَقِيقَتِهِ المَخْصُوصَةِ إنَّما يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِآثارِهِ وأفْعالِهِ، فَكُلَّما كانَتْ أفْعالُهُ أشْرَفَ وأعْلى كانَ وُقُوفُ العَقْلِ عَلى كَمالِ ذَلِكَ الفاعِلِ أكْمَلَ، ولِذَلِكَ إنَّ العامِّيَّ يَعْظُمُ اعْتِقادُهُ في القُرْآنِ ولَكِنَّهُ يَكُونُ اعْتِقادًا تَقْلِيدِيًّا إجْمالِيًّا، أمّا المُفَسِّرُ المُحَقِّقُ الَّذِي لا يَزالُ يَطَّلِعُ في كُلِّ آيَةٍ عَلى أسْرارٍ عَجِيبَةٍ، ودَقائِقَ لَطِيفَةٍ، فَإنَّهُ يَكُونُ اعْتِقادُهُ في عَظَمَةِ القُرْآنِ أكْمَلَ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: دَلائِلُ التَّوْحِيدِ مَحْصُورَةٌ في قِسْمَيْنِ: دَلائِلِ الآفاقِ ودَلائِلِ الأنْفُسِ، ولا شَكَّ أنَّ دَلائِلَ الآفاقِ أجَلُّ وأعْظَمُ كَما قالَ تَعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ﴾ [غافر: ٥٧] . ولَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لا جَرَمَ أمَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بِالفِكْرِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ لِأنَّ دَلالَتَها أعْجَبُ وشَواهِدَها أعْظَمُ، وكَيْفَ لا نَقُولُ ذَلِكَ ولَوْ أنَّ الإنْسانَ نَظَرَ إلى ورَقَةٍ صَغِيرَةٍ مِن أوْراقِ شَجَرَةٍ، رَأى في تِلْكَ الوَرَقَةِ عِرْقًا واحِدًا مُمْتَدًّا في وسَطِها، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِن ذَلِكَ العِرْقِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ إلى الجانِبَيْنِ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنها عُرُوقٌ دَقِيقَةٌ، ولا يَزالُ يَتَشَعَّبُ مِن كُلِّ عِرْقٍ عُرُوقٌ أُخَرُ حَتّى تَصِيرَ في الدِّقَّةِ بِحَيْثُ لا يَراها البَصَرُ، وعِنْدَ هَذا يَعْلَمُ أنَّ لِلْخالِقِ في تَدْبِيرِ تِلْكَ الوَرَقَةِ عَلى هَذِهِ الخِلْقَةِ حِكَمًا بالِغَةً وأسْرارًا عَجِيبَةً، وأنَّ اللَّهَ تَعالى أوْدَعَ فِيها قُوًى جاذِبَةً لِغِذائِها مِن قَعْرِ الأرْضِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الغِذاءَ يَجْرِي في تِلْكَ العُرُوقِ حَتّى يَتَوَزَّعَ عَلى كُلِّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ تِلْكَ الوَرَقَةِ جُزْءٌ مِن أجْزاءِ ذَلِكَ الغِذاءِ بِتَقْدِيرِ العَزِيزِ العَلِيمِ، ولَوْ أرادَ الإنْسانُ أنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ تِلْكَ الوَرَقَةِ وكَيْفِيَّةَ التَّدْبِيرِ في إيجادِها وإيداعِ القُوى الغاذِيَةِ والنّامِيَةِ فِيها لَعَجَزَ عَنْهُ، فَإذا عَرَفَ أنَّ عَقْلَهُ قاصِرٌ عَنِ الوُقُوفِ عَلى كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ تِلْكَ الوَرَقَةِ الصَّغِيرَةِ، فَحِينَئِذٍ يَقِيسُ تِلْكَ الوَرَقَةَ إلى السَّماواتِ مَعَ ما فِيها مِنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ، وإلى الأرْضِ مَعَ ما فِيها مِنَ البِحارِ والجِبالِ والمَعادِنِ والنَّباتِ والحَيَوانِ، عَرَفَ أنَّ تِلْكَ الوَرَقَةَ بِالنِّسْبَةِ إلى هَذِهِ الأشْياءِ كالعَدَمِ، فَإذا عَرَفَ قُصُورَ عَقْلِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الحَقِيرِ عَرَفَ أنَّهُ لا سَبِيلَ لَهُ البَتَّةَ إلى الِاطِّلاعِ عَلى عَجائِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وإذا عَرَفَ بِهَذا البُرْهانِ النَّيِّرِ قُصُورَ عَقْلِهِ وفَهْمِهِ عَنِ الإحاطَةِ بِهَذا المَقامِ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلّا الِاعْتِرافُ بِأنَّ الخالِقَ أجَلُّ وأعْظَمُ مِن أنْ يُحِيطَ بِهِ وصْفُ الواصِفِينَ ومَعارِفُ العارِفِينَ، بَلْ يُسَلِّمُ أنَّ كُلَّ ما خَلَقَهُ فَفِيهِ حِكَمٌ بالِغَةٌ وأسْرارٌ عَظِيمَةٌ، وإنْ كانَ لا سَبِيلَ لَهُ إلى مَعْرِفَتِها، فَعِنْدَ هَذا يَقُولُ: سُبْحانَكَ ! والمُرادُ مِنهُ اشْتِغالُهُ بِالتَّسْبِيحِ والتَّهْلِيلِ والتَّحْمِيدِ والتَّعْظِيمِ، ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَشْتَغِلُ بِالدُّعاءِ فَيَقُولُ: فَقِنا عَذابَ النّارِ. وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”«بَيْنَما رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ عَلى فِراشِهِ إذْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إلى النُّجُومِ وإلى السَّماءِ وقالَ: أشْهَدُ أنَّ لَكِ رَبًّا وخالِقًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ! فَنَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ فَغَفَرَ لَهُ» “ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”«لا عِبادَةَ كالتَّفَكُّرِ» “ وقِيلَ: الفِكْرَةُ تُذْهِبُ الغَفْلَةَ وتَجْذِبُ لِلْقَلْبِ الخَشْيَةَ كَما يُنْبِتُ الماءُ الزَّرْعَ. وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”«لا تُفَضِّلُونِي عَلى يُونُسَ بْنِ مَتّى فَإنَّهُ كانَ يُرْفَعُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ عَمَلِ أهْلِ الأرْضِ» “ قالُوا وكانَ ذَلِكَ العَمَلُ هو التَّفَكُّرَ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ، لِأنَّ أحَدًا لا يَقْدِرُ أنْ يَعْمَلَ بِجَوارِحِهِ مِثْلَ عَمَلِ أهْلِ الأرْضِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ أعْلى مَراتِبِ الصِّدِّيقِينَ التَّفَكُّرُ في دَلائِلِ الذّاتِ والصِّفاتِ وأنَّ التَّقْلِيدَ أمْرٌ باطِلٌ لا عِبْرَةَ بِهِ ولا التِفاتَ إلَيْهِ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ هَؤُلاءِ العِبادِ الصّالِحِينَ المُواظِبِينَ عَلى الذِّكْرِ والفِكْرِ أنَّهم ذَكَرُوا خَمْسَةَ أنْواعٍ مِنَ الدُّعاءِ:
(p-١١٣)النَّوْعُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في الآيَةِ إضْمارٌ وفِيهِ وجْهانِ: قالَ الواحِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا، وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: إنَّهُ في مَحالِّ الحالِ بِمَعْنى يَتَفَكَّرُونَ قائِلِينَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ”﴿هَذا﴾“ في قَوْلِهِ: ﴿ما خَلَقْتَ هَذا﴾ كِنايَةٌ عَنِ المَخْلُوقِ، يَعْنِي ما خَلَقْتَ هَذا المَخْلُوقَ العَجِيبَ باطِلًا، وفي كَلِمَةِ ”هَذا“ ضَرْبٌ مِنَ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في نَصْبِ قَوْلِهِ ﴿باطِلًا﴾ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ خَلْقًا باطِلًا.
الثّانِي: أنَّهُ بِنَزْعِ الخافِضِ تَقْدِيرُهُ: بِالباطِلِ أوْ لِلْباطِلِ.
الثّالِثُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”باطِلًا“ حالًا مِن ”هَذا“ .
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّ كُلَّ ما يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعالى فَهو إنَّما يَفْعَلُهُ لِغَرَضِ الإحْسانِ إلى العَبِيدِ ولِأجْلِ الحِكْمَةِ، والمُرادُ مِنها رِعايَةُ مَصالِحِ العِبادِ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الآيَةِ لِأنَّهُ تَعالى لَوْ لَمْ يَخْلُقِ السَّماواتِ والأرْضَ لِغَرَضٍ لَكانَ قَدْ خَلَقَها باطِلًا، وذَلِكَ ضِدُّ هَذِهِ الآيَةِ، قالُوا: وظَهَرَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ الَّذِي تَقُولُهُ المُجَبِّرَةُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ بِخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ صُدُورَ الظُّلْمِ والباطِلِ مِن أكْثَرِ عِبادِهِ ولِيَكْفُرُوا بِخالِقِها، وذَلِكَ رَدٌّ لِهَذِهِ الآيَةِ، قالُوا: وقَوْلُهُ: ﴿سُبْحانَكَ﴾ تَنْزِيهٌ لَهُ عَنْ خَلْقِهِ لَهُما باطِلًا، وعَنْ كُلِّ قَبِيحٍ. وذَكَرَ الواحِدِيُّ كَلامًا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جَوابًا عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فَقالَ: الباطِلُ عِبارَةٌ عَنِ الزّائِلِ الذّاهِبِ الَّذِي لا يَكُونُ لَهُ قُوَّةٌ ولا صَلابَةٌ ولا بَقاءٌ، وخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ خَلْقٌ مُتْقَنٌ مُحْكَمٌ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ [الملك: ٣] وقالَ: ﴿وبَنَيْنا فَوْقَكم سَبْعًا شِدادًا﴾ [النبأ: ١٢] فَكانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا﴾ هَذا المَعْنى، لا ما ذَكَرَهُ المُعْتَزِلَةُ.
فَإنْ قِيلَ: هَذا الوَجْهُ مَدْفُوعٌ بِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: لَوْ كانَ المُرادُ بِالباطِلِ الرَّخْوَ المُتَلاشِيَ لَكانَ قَوْلُهُ ﴿سُبْحانَكَ﴾ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ أنْ يَخْلُقَ مِثْلَ هَذا الخَلْقِ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ باطِلٌ.
الثّانِي: أنَّهُ إنَّما يَحْسُنُ وصْلُ قَوْلِهِ: ﴿فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ بِهِ إذا حَمَلْناهُ عَلى المَعْنى الَّذِي ذَكَرْناهُ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: ما خَلَقْتَهُ باطِلًا بِغَيْرِ حِكْمَةٍ بَلْ خَلَقْتَهُ بِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وهي أنْ تَجْعَلَها مَساكِنَ لِلْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِطاعَتِكَ وتَحَرَّزُوا عَنْ مَعْصِيَتِكَ، فَقِنا عَذابَ النّارِ، لِأنَّهُ جَزاءُ مَن عَصى ولَمْ يُطِعْ، فَثَبَتَ أنّا إذا فَسَّرْنا قَوْلَهُ: ﴿ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا﴾ بِما ذَكَرْنا حَسُنَ هَذا النَّظْمُ، أمّا إذا فَسَّرْناهُ بِأنَّكَ خَلَقْتَهُ مُحْكَمًا شَدِيدَ التَّرْكِيبِ لَمْ يَحْسُنْ هَذا النَّظْمُ.
الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذا في آيَةٍ أُخْرى فَقالَ: ﴿وما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص: ٢٧] وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿وما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ ﴿ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحَقِّ﴾ [الدخان: ٣٨، ٣٩] وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا﴾ [المؤمنون: ١١٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ﴾ [المؤمنون: ١١٦] أيْ فَتَعالى المَلِكُ الحَقُّ عَنْ أنْ يَكُونَ فِعْلُهُ عَبَثًا، وإذا امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ عَبَثًا فَبِأنْ يَمْتَنِعَ كَوْنُهُ باطِلًا أوْلى.
والجَوابُ: اعْلَمْ أنَّ بَدِيهَةَ العَقْلِ شاهِدَةٌ بِأنَّ المَوْجُودَ إمّا واجِبٌ لِذاتِهِ، وإمّا مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، وشاهِدُهُ أنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ لِذاتِهِ فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَنْتَهِيَ في رُجْحانِهِ إلى الواجِبِ لِذاتِهِ، ولَيْسَ في هَذِهِ القَضِيَّةِ تَخْصِيصٌ (p-١١٤)بِكَوْنِ ذَلِكَ المُمْكِنُ مُغايِرًا لِأفْعالِ العِبادِ، بَلْ هَذِهِ القَضِيَّةُ عَلى عُمُومِها قَضِيَّةٌ يَشْهَدُ العَقْلُ بِصِحَّتِها، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ الخَيْرُ والشَّرُّ بِقَضاءِ اللَّهِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَعْلِيلَ أفْعالِ اللَّهِ تَعالى بِالمَصالِحِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الآيَةِ ما حَكَيْناهُ عَنِ الواحِدِيِّ: قَوْلُهُ: ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ قَوْلُهُ: (سُبْحانَكَ) تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ فِعْلِ ما لا شِدَّةَ فِيهِ ولا صَلابَةَ وذَلِكَ باطِلٌ. قُلْنا: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا رَخْوًا فاسِدَ التَّرْكِيبِ بَلْ خَلَقْتَهُ صُلْبًا مُحْكَمًا، وقَوْلُهُ ﴿سُبْحانَكَ﴾ مَعْناهُ أنَّكَ وإنْ خَلَقْتَ السَّماواتِ والأرْضَ صُلْبَةً شَدِيدَةً باقِيَةً فَأنْتَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاحْتِياجِ إلَيْهِ والِانْتِفاعِ بِهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿سُبْحانَكَ﴾ مَعْناهُ هَذا.
قَوْلُهُ ثانِيًا: إنَّما حَسُنَ وصْلُ قَوْلِهِ ﴿فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ بِهِ إذا فَسَّرْناهُ بِقَوْلِنا، قُلْنا لا نُسَلِّمُ بَلْ وجْهُ النَّظْمِ أنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿سُبْحانَكَ﴾ اعْتَرَفَ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْ كُلِّ ما سِواهُ، فَعِنْدَما وصَفَهُ بِالغِنى أقَرَّ لِنَفْسِهِ بِالعَجْزِ والحاجَةِ إلَيْهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ فَقالَ: ﴿فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ وهَذا الوَجْهُ في حُسْنِ النَّظْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ أحْسَنَ مِمّا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ أقَلَّ مِنهُ، وأمّا سائِرُ الآياتِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها فَهي دالَّةٌ عَلى أنَّ أفْعالَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِكَوْنِها عَبَثًا ولَعِبًا وباطِلًا، ونَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، وإنَّ أفْعالَ اللَّهِ كُلَّها حِكْمَةٌ وصَوابٌ، لِأنَّهُ تَعالى لا يَتَصَرَّفُ إلّا في مُلْكِهِ، فَكانَ حُكْمُهُ صَوابًا عَلى الإطْلاقِ، فَهَذا ما في هَذِهِ المُناظَرَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: احْتَجَّ حُكَماءُ الإسْلامِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ هَذِهِ الأفْلاكَ والكَواكِبَ وأوْدَعَ في كُلِّ واحِدٍ مِنها قُوًى مَخْصُوصَةً، وجَعَلَها بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِن حَرَكاتِها واتِّصالِ بَعْضِها بِبَعْضٍ مَصالِحُ هَذا العالَمِ ومَنافِعُ سُكّانِ هَذِهِ البُقْعَةِ الأرْضِيَّةِ، قالُوا: لِأنَّها لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَكانَتْ باطِلَةً، وذَلِكَ رَدٌّ لِلْآيَةِ. قالُوا: ولَيْسَ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: الفائِدَةُ فِيها الِاسْتِدْلالُ بِها عَلى وُجُودِ الصّانِعِ المُخْتارِ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن كُراتِ الهَواءِ والماءِ يُشارِكُ الأفْلاكَ والكَواكِبَ في هَذا المَعْنى، فَحِينَئِذٍ لا يَبْقى لِخُصُوصِ كَوْنِهِ فَلَكًا وشَمْسًا وقَمَرًا فائِدَةٌ، فَيَكُونُ باطِلًا وهو خِلافُ هَذا النَّصِّ.
أجابَ المُتَكَلِّمُونَ عَنْهُ: بِأنْ قالُوا: لِمَ لا يَكْفِي في هَذا المَعْنى كَوْنُها أسْبابًا عَلى مَجْرى العادَةِ لا عَلى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سُبْحانَكَ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: هَذا إقْرارٌ بِعَجْزِ العُقُولِ عَنِ الإحاطَةِ بِآثارِ حِكْمَةِ اللَّهِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، يَعْنِي: أنَّ الخَلْقَ إذا تَفَكَّرُوا في هَذِهِ الأجْسامِ العَظِيمَةِ لَمْ يَعْرِفُوا مِنها إلّا هَذا القَدْرَ، وهو أنَّ خالِقَها ما خَلَقَها باطِلًا، بَلْ خَلَقَها لِحِكَمٍ عَجِيبَةٍ، وأسْرارٍ عَظِيمَةٍ، وإنْ كانَتِ العُقُولُ قاصِرَةً عَنْ مَعْرِفَتِها.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَقْصُودُ مِنهُ تَعْلِيمُ اللَّهِ عِبادَهُ كَيْفِيَّةَ الدُّعاءِ، وذَلِكَ أنَّ مَن أرادَ الدُّعاءَ فَلا بُدَّ وأنْ يُقَدِّمَ الثَّناءَ، ثُمَّ يَذْكُرُ بَعْدَهُ الدُّعاءَ كَما في هَذِهِ الآيَةِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ هَؤُلاءِ العِبادِ المُخْلِصِينَ أنَّ ألْسِنَتَهم مُسْتَغْرِقَةٌ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، وأبْدانَهم في طاعَةِ اللَّهِ، وقُلُوبَهم في التَّفَكُّرِ في دَلائِلِ عَظَمَةِ اللَّهِ، ذَكَرَ أنَّهم مَعَ هَذِهِ الطّاعاتِ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ أنَّ يَقِيَهم عَذابَ النّارِ، ولَوْلا أنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعْذِيبُهم وإلّا لَكانَ هَذا الدُّعاءُ عَبَثًا، فَإنْ كانَ المُعْتَزِلَةُ ظَنُّوا أنَّ أوَّلَ الآيَةِ حُجَّةٌ لَهم، فَلْيَعْلَمُوا أنَّ آخِرَ هَذِهِ الآيَةِ حُجَّةٌ لَنا في (p-١١٥)أنَّهُ لا يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ أصْلًا، ومِثْلُ هَذا التَّضَرُّعِ ما حَكاهُ اللَّهُ تَعالى عَنْ إبْراهِيمَ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء: ٨٢] .
النَّوْعُ الثّانِي مِن دَعَواتِهِمْ: قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهم: ﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهم لَمّا سَألُوا رَبَّهم أنْ يَقِيَهم عَذابَ النّارِ أتْبَعُوا ذَلِكَ بِما يَدُلُّ عَلى عِظَمِ ذَلِكَ العِقابِ وشِدَّتِهِ وهو الخِزْيُ، لِيَكُونَ مَوْقِعُ السُّؤالِ أعْظَمَ، لِأنَّ مَن سَألَ رَبَّهُ أنْ يَفْعَلَ شَيْئًا أوْ أنْ لا يَفْعَلَهُ، إذا شَرَحَ عِظَمَ ذَلِكَ المَطْلُوبِ وقُوَّتَهُ كانَتْ داعِيَتُهُ في ذَلِكَ الدُّعاءِ أكْمَلَ وإخْلاصُهُ في طَلَبِهِ أشَدَّ، والدُّعاءُ لا يَتَّصِلُ بِالإجابَةِ إلّا إذا كانَ مَقْرُونًا بِالأخَصِّ، فَهَذا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عِبادَهُ في كَيْفِيَّةِ إيرادِ الدُّعاءِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: الإخْزاءُ في اللُّغَةِ يَرِدُ عَلى مَعانٍ يَقْرُبُ بَعْضُها مِن بَعْضٍ. قالَ الزَّجّاجُ: أخْزى اللَّهُ العَدُوَّ، أيْ أبْعَدَهُ، وقالَ غَيْرُهُ: أخْزاهُ اللَّهُ، أيْ أهانَهُ، وقالَ شَمِرُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ: أخْزاهُ اللَّهُ أيْ فَضَحَهُ اللَّهُ، وفي القُرْآنِ ﴿ولا تُخْزُونِي في ضَيْفِي﴾ [هود: ٧٨] وقالَ المُفَضَّلُ: أخْزاهُ اللَّهُ، أيْ أهْلَكَهُ، وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: الخِزْيُ في اللُّغَةِ الهَلاكُ بِتَلَفٍ أوِ انْقِطاعِ حُجَّةٍ أوْ بِوُقُوعٍ في بَلاءٍ، وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ مُتَقارِبَةٌ. ثُمَّ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ”فَقَدْ أخْزَيْتَهُ“ أيْ قَدْ أبْلَغْتَ في إخْزائِهِ، وهو نَظِيرُ ما يُقالُ: مَن سَبَقَ فُلانًا فَقَدْ سَبَقَ، ومَن تَعَلَّمَ مِن فُلانٍ فَقَدْ تَعَلَّمَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ مِن أهْلِ الصَّلاةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وذَلِكَ لِأنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ إذا دَخَلَ النّارَ فَقَدْ أخْزاهُ اللَّهُ لِدَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ، والمُؤْمِنُ لا يَخْزى لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] فَوَجَبَ مِن مَجْمُوعِ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ أنْ لا يَكُونَ صاحِبُ الكَبِيرَةِ مُؤْمِنًا.
والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ لا يَقْتَضِي نَفْيَ الإخْزاءِ مُطْلَقًا، وإنَّما يَقْتَضِي أنْ لا يَحْصُلَ الإخْزاءُ حالَ ما يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ، وهَذا النَّفْيُ لا يُناقِضُهُ إثْباتُ الإخْزاءِ في الجُمْلَةِ لِاحْتِمالِ أنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ الإثْباتُ في وقْتٍ آخَرَ، هَذا هو الَّذِي صَحَّ عِنْدِي في الجَوابِ، وذَكَرَ الواحِدِيُّ في البَسِيطِ أجْوِبَةً ثَلاثَةً سِوى ما ذَكَرْناهُ:
أحَدُها: أنَّهُ نَقَلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ والثَّوْرِيِّ وقَتادَةَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ مَخْصُوصٌ بِمَن يَدْخُلُ النّارَ لِلْخُلُودِ، وهَذا الجَوابُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأنَّ مَذْهَبَ المُعْتَزِلَةِ أنَّ كُلَّ فاسِقٍ دَخَلَ النّارَ فَإنَّما دَخَلَها لِلْخُلُودِ، فَهَذا لا يَكُونُ سُؤالًا عَنْهم.
ثانِيها: قالَ: المُدْخَلُ في النّارِ مَخْزِيٌّ في حالِ دُخُولِهِ وإنْ كانَتْ عاقِبَتُهُ أنْ يَخْرُجَ مِنها، وهَذا ضَعِيفٌ أيْضًا لِأنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِدْلالِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الخِزْيِ عَنِ المُؤْمِنِينَ عَلى الإطْلاقِ، وهَذِهِ الآيَةُ دَلَّتْ عَلى حُصُولِ الخِزْيِ لِكُلِّ مَن دَخَلَ النّارَ، فَحَصَلَ بِحُكْمِ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا وبَيْنَ كَوْنِهِ كافِرًا مِمَّنْ يَدْخُلُ النّارَ مُنافاةٌ.
وثالِثُها: قالَ: الإخْزاءُ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: الإهانَةُ والإهْلاكُ.
والثّانِي: التَّخْجِيلُ، يُقالُ: خَزِيَ خِزايَةً إذا اسْتَحْيا، وأخْزاهُ غَيْرُهُ إذا عَمِلَ بِهِ عَمَلًا يُخْجِلُهُ ويَسْتَحْيِي مِنهُ.
(p-١١٦)واعْلَمْ أنَّ حاصِلَ هَذا الجَوابِ: أنَّ لَفْظَ الإخْزاءِ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّخْجِيلِ وبَيْنَ الإهْلاكِ، واللَّفْظُ المُشْتَرَكُ لا يُمْكِنُ حَمْلُهُ في طَرَفَيِ النَّفْيِ والإثْباتِ عَلى مَعْنَيَيْهِ جَمِيعًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ جازَ أنْ يَكُونَ المَنفِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ غَيْرَ المُثْبَتِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ وعَلى هَذا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلالُ، إلّا أنَّ هَذا الجَوابَ إنَّما يَتَمَشّى إذا كانَ لَفْظُ الإخْزاءِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ هَذَيْنِ المَفْهُومَيْنِ، أمّا إذا كانَ لَفْظًا مُتَواطِئًا مُفِيدًا لِمَعْنًى واحِدٍ، وكانَ المَعْنَيانِ اللَّذانِ ذَكَرَهُما الواحِدِيُّ نَوْعَيْنِ تَحْتَ جِنْسٍ واحِدٍ، سَقَطَ هَذا الجَوابُ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] لِنَفْيِ الجِنْسِ وقَوْلَهُ: ﴿فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ لِإثْباتِ النَّوْعِ، وحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بَيْنَهُما مُنافاةٌ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّتِ المُرْجِئَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ في القَطْعِ عَلى أنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ لا يَخْزى، وكُلُّ مَن دَخَلَ النّارَ فَإنَّهُ يَخْزى، فَيَلْزَمُ القَطْعُ بِأنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ لا يَدْخُلُ النّارَ. إنَّما قُلْنا صاحِبُ الكَبِيرَةِ لا يَخْزى؛ لِأنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، والمُؤْمِنُ لا يَخْزى، إنَّما قُلْنا إنَّهُ مُؤْمِنٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: ٩] سُمِّيَ الباغِي حالَ كَوْنِهِ باغِيًا مُؤْمِنًا، والبَغْيُ مِنَ الكَبائِرِ بِالإجْماعِ، وأيْضًا قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] سُمِّيَ القاتِلُ بِالعَمْدِ العُدْوانِ مُؤْمِنًا، فَثَبَتَ أنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وإنَّما قُلْنا إنَّ المُؤْمِنَ لا يَخْزى لِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] ولِقَوْلِهِ: ﴿ولا تُخْزِنا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [آل عمران: ١٩٤] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فاسْتَجابَ لَهم رَبُّهُمْ﴾ وهَذِهِ الِاسْتِجابَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يُخْزِي المُؤْمِنِينَ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ لا يَخْزى بِالنّارِ، وإنَّما قُلْنا إنَّ كُلَّ مَن دَخَلَ النّارَ فَإنَّهُ يَخْزى لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ وحِينَئِذٍ يَتَوَلَّدُ مِن هاتَيْنِ المُقَدِّمَتَيْنِ القَطْعُ بِأنَّ صاحِبَ الكَبِيرَةِ لا يَدْخُلُ النّارَ.
والجَوابُ عَنْهُ ما تَقَدَّمَ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: ٨] لا يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الإخْزاءِ مُطْلَقًا، بَلْ يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الإخْزاءِ حالَ كَوْنِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ، وذَلِكَ لا يُنافِي حُصُولَ الإخْزاءِ في وقْتٍ آخَرَ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ عامٌّ دَخَلَهُ الخُصُوصُ في مَواضِعَ مِنها: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإنْ مِنكم إلّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا﴾ ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ [مريم: ٧١، ٧٢] يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ المُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النّارَ، وأهْلُ الثَّوابِ يُصانُونَ عَنِ الخِزْيِ.
وثانِيها: أنَّ المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم خَزَنَةُ جَهَنَّمَ يَكُونُونَ في النّارِ، وهم أيْضًا يُصانُونَ عَنِ الخِزْيِ. قالَ تَعالى: ﴿عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ﴾ [التحريم: ٦] .
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: احْتَجَّ حُكَماءُ الإسْلامِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ العَذابَ الرُّوحانِيَّ أشَدُّ وأقْوى مِنَ العَذابِ الجُسْمانِيِّ، قالُوا: لِأنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى التَّهْدِيدِ بَعْدَ عَذابِ النّارِ بِالخِزْيِ، والخِزْيُ عِبارَةٌ عَنِ التَّخْجِيلِ وهو عَذابٌ رُوحانِيٌّ، فَلَوْلا أنَّ العَذابَ الرُّوحانِيَّ أقْوى مِنَ العَذابِ الجُسْمانِيِّ وإلّا لَما حَسُنَ تَهْدِيدُ مَن عُذِّبَ بِالنّارِ بِعَذابِ الخِزْيِ والخَجالَةِ.
(p-١١٧)المَسْألَةُ السّابِعَةُ: احْتَجَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الفُسّاقَ الَّذِينَ دَخَلُوا النّارَ لا يَخْرُجُونَ مِنها بَلْ يَبْقُونَ هُناكَ مُخَلَّدِينَ، وقالُوا: الخِزْيُ هو الهَلاكُ، فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾ مَعْناهُ فَقَدْ أهْلَكْتَهُ، ولَوْ كانُوا يَخْرُجُونَ مِنَ النّارِ إلى الجَنَّةِ لَما صَحَّ أنَّ كُلَّ مَن دَخَلَ النّارَ فَقَدْ هَلَكَ. والجَوابُ: أنّا لا نُفَسِّرُ الخِزْيَ بِالإهْلاكِ، بَلْ نُفَسِّرُهُ بِالإهانَةِ والتَّخْجِيلِ، وعِنْدَ هَذا يَزُولُ كَلامُكم.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: المُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا بِهِ في نَفْيِ الشَّفاعَةِ لِلْفُسّاقِ، وذَلِكَ لِأنَّ الشَّفاعَةَ نَوْعُ نُصْرَةٍ، ونَفْيُ الجِنْسِ يَقْتَضِي نَفْيَ النَّوْعِ.
والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى أنَّ الظّالِمَ بِالإطْلاقِ هو الكافِرُ، قالَ تَعالى: ﴿والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٤] ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا أنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم خَصَّصُوا أنْفُسَهم بِنَفْيِ الشُّفَعاءِ والأنْصارِ حَيْثُ قالُوا: ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ ﴿ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠٠] .
وثانِيها: أنَّ الشَّفِيعَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَشْفَعَ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ، قالَ تَعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الشَّفِيعُ قادِرًا عَلى النُّصْرَةِ إلّا بَعْدَ الإذْنِ، وإذا حَصَلَ الإذْنُ لَمْ يَكُنْ في شَفاعَتِهِ فائِدَةٌ في الحَقِيقَةِ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أنَّ العَفْوَ إنَّما حَصَلَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وتِلْكَ الشَّفاعَةُ ما كانَ لَها تَأْثِيرٌ في نَفْسِ الأمْرِ، ولَيْسَ الحُكْمُ إلّا لِلَّهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ يُفِيدُ أنَّهُ لا حُكْمَ إلّا لِلَّهِ كَما قالَ: ﴿ألا لَهُ الحُكْمُ﴾ [الأنعام: ٦٢] وقالَ: ﴿والأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩] لا يُقالُ: فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَبْقى لِتَخْصِيصِ الظّالِمِينَ بِهَذا الحُكْمِ فائِدَةٌ، لِأنّا نَقُولُ: بَلْ فِيهِ فائِدَةٌ لِأنَّهُ وعَدَ المُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ في الدُّنْيا بِالفَوْزِ بِالثَّوابِ والنَّجاةِ مِنَ العِقابِ، فَلَهم يَوْمَ القِيامَةِ هَذِهِ الحُجَّةُ، أمّا الفُسّاقُ فَلَيْسَ لَهم ذَلِكَ، فَصَحَّ تَخْصِيصُهم بِنَفْيِ الأنْصارِ عَلى الإطْلاقِ. الثّالِثُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ عامَّةٌ ووارِدَةٌ بِثُبُوتِ الشَّفاعَةِ خاصَّةً والخاصُّ مُقَدَّمٌ عَلى العامِّ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُعْتَزِلَةُ تَمَسَّكُوا في أنَّ الفاسِقَ لا يَخْرُجُ مِنَ النّارِ، قالُوا: لَوْ خَرَجَ مِنَ النّارِ لَكانَ مَن أخْرَجَهُ مِنها ناصِرًا لَهُ، والآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ لا ناصِرَ لَهُ البَتَّةَ.
والجَوابُ: المُعارَضَةُ بِالآياتِ الدّالَّةِ عَلى العَفْوِ كَما ذَكَرْناهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
النَّوْعُ الثّالِثُ: مِن دَعَواتِهِمْ:
{"ayahs_start":191,"ayahs":["ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلࣰا سُبۡحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ","رَبَّنَاۤ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَیۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ أَنصَارࣲ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمࣰا وَقُعُودࣰا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلࣰا سُبۡحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق