الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنِ اليَهُودِ شُبُهًا طاعِنَةً في نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأجابَ عَنْهُ أتْبَعَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى أوْجَبَ عَلَيْهِمْ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ عَلى أُمَّةِ مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ، أنْ يَشْرَحُوا ما في هَذَيْنِ الكِتابَيْنِ مِنَ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى صِحَّةِ دِينِهِ وصِدْقِ نُبُوَّتِهِ ورِسالَتِهِ، والمُرادُ مِنهُ التَّعَجُّبُ مِن حالِهِمْ كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ بِكم إيرادُ الطَّعْنِ في نُبُوَّتِهِ ودِينِهِ مَعَ أنَّ كُتُبَكم ناطِقَةٌ ودالَّةٌ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكم ذِكْرُ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ ودِينِهِ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا أوْجَبَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ احْتِمالَ الأذى مِن أهْلِ الكِتابِ، وكانَ مِن جُمْلَةِ إيذائِهِمْ لِلرَّسُولِ ﷺ أنَّهم كانُوا يَكْتُمُونَ ما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ مِنَ الدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّتِهِ، فَكانُوا يُحَرِّفُونَها ويَذْكُرُونَ لَها تَأْوِيلاتٍ فاسِدَةً، فَبَيَّنَ أنَّ هَذا مِن تِلْكَ الجُمْلَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيها الصَّبْرُ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو بَكْرٍ وعاصِمٌ وأبُو عَمْرٍو ”لَيُبَيِّنُنَّهُ ولا يَكْتُمُونَهُ“ بِالياءِ فِيهِما كِنايَةً عَنْ أهْلِ الكِتابِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالتّاءِ فِيهِما عَلى الخِطابِ الَّذِي كانَ حاصِلًا في وقْتِ أخْذِ المِيثاقِ، أيْ فَقالَ لَهم: لَتُبَيِّنُنَّهُ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] بِالتّاءِ (p-١٠٦)والياءِ، وأيْضًا قَوْلُهُ: ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرْضِ﴾ [الإسراء: ٤] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الكَلامُ في كَيْفِيَّةِ أخْذِ المِيثاقِ قَدْ تَقَدَّمَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الأنْبِياءَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ أوْرَدُوا الدَّلائِلَ في جَمِيعِ أبْوابِ التَّكالِيفِ وألْزَمُوهم قَبُولَها، فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إنَّما أخَذَ المِيثاقَ مِنهم عَلى لِسانِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَذَلِكَ التَّوْكِيدُ والإلْزامُ هو المُرادُ بِأخْذِ المِيثاقِ. وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ أصْحابَ عَبْدِ اللَّهِ يَقْرَأُونَ ”وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ“ فَقالَ: أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ عَلى قَوْمِهِمْ. واعْلَمْ أنَّ إلْزامَ هَذا الإظْهارِ لا شَكَّ أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِعُلَماءِ القَوْمِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ ما في الكِتابِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ﴾ إلى ماذا يَعُودُ ؟ فِيهِ قَوْلانِ: قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ: هو عائِدٌ إلى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الضَّمِيرُ عائِدًا إلى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: يَعُودُ إلى الكِتابِ في قَوْلِهِ: ﴿أُوتُوا الكِتابَ﴾ أيْ أخَذْنا مِيثاقَهم بِأنْ يُبَيِّنُوا لِلنّاسِ ما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى صِدْقِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اللّامُ لامُ التَّأْكِيدِ يَدْخُلُ عَلى اليَمِينِ، تَقْدِيرُهُ: اسْتَحْلَفَهم لَيُبَيِّنُنَّهُ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: إنَّما قالَ: ولا تَكْتُمُونَهُ ولَمْ يَقُلْ: ولا تَكْتُمْنَهُ، لِأنَّ الواوَ واوُ الحالِ دُونَ واوِ العَطْفِ، والمَعْنى لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ غَيْرَ كاتِمِينَ. فَإنْ قِيلَ: البَيانُ يُضادُّ الكِتْمانَ، فَلَمّا أمَرَ بِالبَيانِ كانَ الأمْرُ بِهِ نَهْيًا عَنِ الكِتْمانِ، فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِ النَّهْيِ عَنِ الكِتْمانِ ؟ قُلْنا: المُرادُ مِنَ البَيانِ ذِكْرُ تِلْكَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، والمُرادُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الكِتْمانِ أنْ لا يُلْقُوا فِيها التَّأْوِيلاتِ الفاسِدَةَ والشُّبُهاتِ المُعَطِّلَةَ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: اعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ وإنْ كانَ مُخْتَصًّا بِاليَهُودِ والنَّصارى فَإنَّهُ لا يَبْعُدُ أيْضًا دُخُولُ المُسْلِمِينَ فِيهِ، لِأنَّهم أهْلُ القُرْآنِ وهو أشْرَفُ الكُتُبِ. حُكِيَ أنَّ الحَجّاجَ أرْسَلَ إلى الحَسَنِ وقالَ: ما الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ ؟ فَقالَ: ما كُلُّ الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي قُلْتُهُ، ولا كُلُّ ما قُلْتُهُ بَلَغَكَ، قالَ: أنْتَ الَّذِي قُلْتَ إنَّ النِّفاقَ كانَ مَقْمُوعًا فَأصْبَحَ قَدْ تَعَمَّمَ وتَقَلَّدَ سَيْفًا ؟ فَقالَ: نَعَمْ، فَقالَ: وما الَّذِي حَمَلَكَ عَلى هَذا ونَحْنُ نَكْرَهُهُ ؟ قالَ: لِأنَّ اللَّهَ أخَذَ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا يَكْتُمُونَهُ. وقالَ قَتادَةُ: مَثَلُ عِلْمٍ لا يُقالُ بِهِ كَمَثَلِ كَنْزٍ لا يُنْفَقُ مِنهُ، ومَثَلُ حِكْمَةٍ لا تَخْرُجُ كَمَثَلِ صَنَمٍ قائِمٍ لا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ، وكانَ يَقُولُ: طُوبى لِعالِمٍ ناطِقٍ، ولِمُسْتَمِعٍ واعٍ، هَذا عَلِمَ عِلْمًا فَبَذَلَهُ، وهَذا سَمِعَ خَيْرًا فَوَعاهُ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن كَتَمَ عِلْمًا عَنْ أهْلِهِ أُلْجِمَ بِلِجامٍ مِن نارٍ» “ وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما أخَذَ اللَّهُ عَلى أهْلِ الجَهْلِ أنْ يَتَعَلَّمُوا حَتّى أخَذَ عَلى أهْلِ العِلْمِ أنْ يُعَلِّمُوا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ﴾ والمُرادُ أنَّهم لَمْ يُراعُوهُ ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ، والنَّبْذُ وراءَ الظَّهْرِ مِثْلُ الطَّرْحِ وتَرْكِ الِاعْتِدادِ، ونَقِيضُهُ: جَعْلُهُ نُصْبَ عَيْنِهِ وإلْقاؤُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ مَعْناهُ أنَّهم أخْفَوُا الحَقَّ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إلى وِجْدانِ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيا، (p-١٠٧)فَكُلُّ مَن لَمْ يُبَيِّنِ الحَقَّ لِلنّاسِ وكَتَمَ شَيْئًا مِنهُ لِغَرَضٍ فاسِدٍ، مِن تَسْهِيلٍ عَلى الظَّلَمَةِ وتَطْيِيبٍ لِقُلُوبِهِمْ، أوْ لِجَرِّ مَنفَعَةٍ، أوْ لِتَقِيَّةٍ وخَوْفٍ، أوْ لِبُخْلٍ بِالعِلْمِ دَخَلَ تَحْتَ هَذا الوَعِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب