الباحث القرآني
قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ونَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكم وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ المُكَلَّفِينَ في هَذِهِ الآياتِ بِبَذْلِ النَّفْسِ (p-٩٥)وبَذْلِ المالِ في سَبِيلِ اللَّهِ وبالَغَ في تَقْرِيرِ ذَلِكَ، شَرَعَ بَعْدَ ذَلِكَ في حِكايَةِ شُبُهاتِ القَوْمِ في الطَّعْنِ في نُبُوَّتِهِ.
فالشُّبْهَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِإنْفاقِ الأمْوالِ في سَبِيلِهِ قالَتِ الكُفّارُ: إنَّهُ تَعالى لَوْ طَلَبَ الإنْفاقَ في تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ لَكانَ فَقِيرًا عاجِزًا، لَأنَّ الَّذِي يَطْلُبُ المالَ مِن غَيْرِهِ يَكُونُ فَقِيرًا، ولَمّا كانَ الفَقْرُ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالًا، كانَ كَوْنُهُ طالِبًا لِلْمالِ مِن عَبِيدِهِ مُحالًا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ مُحَمَّدًا كاذِبٌ في إسْنادِ هَذا الطَّلَبِ إلى اللَّهِ تَعالى.
الوَجْهُ الثّانِي في طَرِيقِ النَّظْمِ: أنَّ أُمَّةَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانُوا إذا أرادُوا التَّقَرُّبَ بِأمْوالِهِمْ إلى اللَّهِ تَعالى، فَكانَتْ تَجِيءُ نارٌ مِنَ السَّماءِ فَتُحْرِقُها، فالنَّبِيُّ ﷺ لَمّا طَلَبَ مِنهم بَذْلَ الأمْوالِ في سَبِيلِ اللَّهِ قالُوا لَهُ لَوْ كُنْتَ نَبِيًّا لَما طَلَبْتَ الأمْوالَ لِهَذا الغَرَضِ، فَإنَّهُ تَعالى لَيْسَ بِفَقِيرٍ حَتّى يَحْتاجَ في إصْلاحِ دِينِهِ إلى أمْوالِنا، بَلْ لَوْ كُنْتَ نَبِيًّا لَكُنْتَ تَطْلُبُ أمْوالَنا لِأجْلِ أنْ تَجِيئَها نارٌ مِنَ السَّماءِ فَتُحْرِقُها، فَلَمّا لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ عَرَفْنا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، فَهَذا هو وجْهُ النَّظْمِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ العاقِلِ أنْ يَقُولَ إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ، بَلِ الإنْسانُ إنَّما يَذْكُرُ ذَلِكَ إمّا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ أوْ عَلى سَبِيلِ الإلْزامِ، وأكْثَرُ الرِّواياتِ أنَّ هَذا القَوْلَ إنَّما صَدَرَ عَنِ اليَهُودِ. رُوِيَ «أنَّهُ ﷺ كَتَبَ مَعَ أبِي بَكْرٍ إلى يَهُودِ بَنِي قَيْنُقاعَ يَدْعُوهم إلى الإسْلامِ وإلى إقامَةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وأنْ يُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا، فَقالَ فِنْحاصُ اليَهُودِيُّ: إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ حَتّى سَألَنا القَرْضَ، فَلَطَمَهُ أبُو بَكْرٍ في وجْهِهِ وقالَ: لَوْلا الَّذِي بَيْنَنا وبَيْنَكم مِنَ العَهْدِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، فَشَكاهُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وجَحَدَ ما قالَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» . وقالَ آخَرُونَ: لَمّا أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] قالَتِ اليَهُودُ: نَرى إلَهَ مُحَمَّدٍ يَسْتَقْرِضُ مِنّا، فَنَحْنُ إذَنْ أغْنِياءُ وهو فَقِيرٌ، وهو يَنْهانا عَنِ الرِّبا ثُمَّ يُعْطِينا الرِّبا، وأرادُوا قَوْلَهُ: ﴿فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ .
واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ تَعْيِينُ هَذا القائِلِ، إلّا أنَّ العُلَماءَ نَسَبُوا هَذا القَوْلَ إلى اليَهُودِ واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: إنَّ يَدَ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ؛ يَعْنُونَ أنَّهُ بَخِيلٌ بِالعَطاءِ، وذَلِكَ الجَهْلُ مُناسِبٌ لِلْجَهْلِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ.
وثانِيها: ما رُوِيَ في الخَبَرِ أنَّهم تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ عَلى ما رَوَيْناهُ في قِصَّةِ أبِي بَكْرٍ.
وثالِثُها: أنَّ القَوْلَ بِالتَّشْبِيهِ غالِبٌ عَلى اليَهُودِ، ومَن قالَ بِالتَّشْبِيهِ لا يُمْكِنُهُ إثْباتَ كَوْنِهِ تَعالى قادِرًا عَلى كُلِّ المَقْدُوراتِ، وإذا عَجَزَ عَنْ إثْباتِ هَذا الأصْلِ عَجَزَ عَنْ بَيانِ أنَّهُ غَنِيٌّ ولَيْسَ بِفَقِيرٍ.
والوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا طَلَبَ مِنهم أنْ يُوافِقُوهُ في مُجاهَدَةِ الأعْداءِ قالُوا: ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ . فَمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا طَلَبَ مِنهُمُ الجِهادَ بِالنَّفْسِ قالُوا: لَمّا كانَ الإلَهُ قادِرًا فَأيُّ حاجَةٍ بِهِ إلى جِهادِنا، وكَذا هَهُنا أنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا طَلَبَ مِنهُمُ الجِهادَ بِبَذْلِ المالِ قالُوا: لَمّا كانَ الإلَهُ غَنِيًّا فَأيُّ حاجَةٍ بِهِ إلى أمْوالِنا. فَكانَ إسْنادُهم هَذِهِ الشُّبْهَةَ إلى اليَهُودِ لائِقًا مِن هَذا الوَجْهِ، وإنْ كانَ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ غَيْرُهم مِنَ الجُهّالِ قَدْ قالَ ذَلِكَ. والأظْهَرُ أنَّهم قالُوهُ عَلى سَبِيلِ الطَّعْنِ في نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، يَعْنِي لَوْ صَدَقَ مُحَمَّدٌ في أنَّ الإلَهَ يَطْلُبُ المالَ مِن عَبِيدِهِ لَكانَ (p-٩٦)فَقِيرًا، ولَمّا كانَ ذَلِكَ مُحالًا ثَبَتَ أنَّهُ كاذِبٌ في هَذا الإخْبارِ، أوْ ذَكَرُوهُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ والسُّخْرِيَةِ، فَأمّا أنْ يَقُولَ العاقِلُ مِثْلَ هَذا الكَلامِ عَنِ اعْتِقادٍ فَهو بَعِيدٌ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى سَمِيعٌ لِلْأقْوالِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ﴾ [المجادلة: ١] .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ كانُوا جَماعَةً، لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ”﴿الَّذِينَ قالُوا﴾“ وظاهِرُ هَذا القَوْلِ يُفِيدُ الجَمْعَ. وأمّا ما رُوِيَ أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلَ هو فِنْحاصُ اليَهُودِيُّ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، فَلَمّا شَهِدَ الكِتابُ أنَّ القائِلِينَ كانُوا جَماعَةً وجَبَ القَطْعُ بِذَلِكَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿سَنَكْتُبُ ما قالُوا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ ”سَيُكْتَبُ“ بِالياءِ وضَمِّها عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ ”وقَتْلُهُمُ الأنْبِياءِ“ بِرَفْعِ اللّامِ عَلى مَعْنى سَيُكْتَبُ قَتْلُهم، والباقُونَ بِالنُّونِ وفَتْحِ اللّامِ إضافَةً إلَيْهِ تَعالى. قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: وقَرَأ الحَسَنُ والأعْرَجُ ”سَيَكْتُبُ“ بِالياءِ وتَسْمِيَةِ الفاعِلِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذا وعِيدٌ عَلى ذَلِكَ القَوْلِ وهو يَحْتَمِلُ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن كَتْبِهِ عَلَيْهِمْ إثْباتَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وأنْ لا يُلْغى ولا يُطْرَحَ، وذَلِكَ لِأنَّ النّاسَ إذا أرادُوا إثْباتَ الشَّيْءِ عَلى وجْهٍ لا يَزُولُ ولا يُنْسى ولا يَتَغَيَّرُ كَتَبُوهُ، واللَّهُ تَعالى جَعَلَ الكَتْبَةَ مَجازًا عَنْ إثْباتِ حُكْمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
الثّانِي: سَنَكْتُبُ ما قالُوا في الكُتُبِ الَّتِي تُكْتَبُ فِيها أعْمالُهم لِيَقْرَأُوا ذَلِكَ في جَرائِدِ أعْمالِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ.
والثّالِثُ: عِنْدِي فِيهِ احْتِمالٌ آخَرُ، وهو أنَّ المُرادَ: سَنَكْتُبُ عَنْهم هَذا الجَهْلَ في القُرْآنِ حَتّى يَعْلَمَ الخَلْقُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ شِدَّةَ تَعَنُّتِ هَؤُلاءِ وجَهْلَهم وجُهْدَهم في الطَّعْنِ في نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِكُلِّ ما قَدَرُوا عَلَيْهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وقَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أيْ ونَكْتُبُ قَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: الفائِدَةُ في ضَمِّ أنَّهم قَتَلُوا الأنْبِياءَ إلى أنَّهم وصَفُوا اللَّهَ تَعالى بِالفَقْرِ، هي بَيانُ أنَّ جَهْلَ هَؤُلاءِ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِهَذا الوَقْتِ، بَلْ هم مُنْذُ كانُوا، مُصِرُّونَ عَلى الجَهالاتِ والحَماقاتِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في إضافَةِ قَتْلِ الأنْبِياءِ إلى هَؤُلاءِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: سَنَكْتُبُ ما قالَ هَؤُلاءِ ونَكْتُبُ ما فَعَلَهُ أسْلافُهم فَنُجازِي الفَرِيقَيْنِ بِما هو أهْلُهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ [البقرة: ٧٢] أيْ قَتَلَها أسْلافُكم ﴿وإذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩] . ﴿وإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ﴾ [البقرة: ٥٠] والفاعِلُ لِهَذِهِ الأشْياءِ هو أسْلافُهم، والمَعْنى أنَّهُ سَيَحْفَظُ عَلى الفَرِيقَيْنِ مَعًا أقْوالَهم وأفْعالَهم.
والوَجْهُ الثّانِي: سَنَكْتُبُ عَلى هَؤُلاءِ ما قالُوا بِأنْفُسِهِمْ، ونَكْتُبُ عَلَيْهِمْ رِضاهم بِقَتْلِ آبائِهِمُ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ. وعَنِ الشَّعْبِيِّ أنْ رَجُلًا ذَكَرَ عِنْدَهُ عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وحَسَّنَ قَتْلَهُ، فَقالَ الشَّعْبِيُّ: صِرْتَ شَرِيكًا في دَمِهِ، ثُمَّ قَرَأ الشَّعْبِيُّ ﴿قُلْ قَدْ جاءَكم رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ [آل عمران: ١٨٣] فَنَسَبَ لِهَؤُلاءِ قَتْلَهم وكانَ بَيْنَهُما قَرِيبٌ مِن سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ونَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
(p-٩٧)المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ ”سَيُكْتَبُ“ عَلى لَفْظِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ ”وقَتْلُهُمُ الأنْبِياءَ“ بِرَفْعِ اللّامِ ”ويَقُولُ ذُوقُوا“ بِالياءِ المُنَقَّطَةِ مِن تَحْتُ، والباقُونَ ”سَنَكْتُبُ ونَقُولُ“ بِالنُّونِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ أنَّهُ تَعالى يَنْتَقِمُ مِن هَذا القائِلِ بِأنْ يَقُولَ لَهُ ذُقْ عَذابَ الحَرِيقِ، كَما أذَقْتَ المُسْلِمِينَ الغُصَصَ، والحَرِيقُ هو المُحْرِقُ، كالألِيمِ بِمَعْنى المُؤْلِمِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ لَهُ هَذا القَوْلُ عِنْدَ المَوْتِ أوْ عِنْدَ الحَشْرِ أوْ عِنْدَ قِراءَةِ الكِتابِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا كِنايَةً عَنْ حُصُولِ الوَعِيدِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ قَوْلٌ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّهم أوْرَدُوا سُؤالًا وهو أنَّ مَن يَطْلُبُ المالَ مِن غَيْرِهِ كانَ فَقِيرًا مُحْتاجًا، فَلَوْ طَلَبَ اللَّهُ المالَ مِن عَبِيدِهِ لَكانَ فَقِيرًا وذَلِكَ مُحالٌ، فَوَجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَمْ يَطْلُبِ المالَ مِن عَبِيدِهِ، وذَلِكَ يَقْدَحُ في كَوْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ صادِقًا في ادِّعاءِ النُّبُوَّةِ، فَهَذا هو شُبْهَةُ القَوْمِ فَأيْنَ الجَوابُ عَنْها ؟ وكَيْفَ يَحْسُنُ ذِكْرُ الوَعِيدِ عَلى ذِكْرِها قَبْلَ ذِكْرِ الجَوابِ عَنْها ؟
فَنَقُولُ: إذا فَرَّعْنا عَلى قَوْلِ أصْحابِنا مِن أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ قُلْنا: يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعالى عَبِيدَهُ بِبَذْلِ الأمْوالِ مَعَ كَوْنِهِ تَعالى أغْنى الأغْنِياءِ.
وإنْ فَرَّعْنا عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ في أنَّهُ تَعالى يُراعِي المَصالِحَ لَمْ يَبْعُدْ أنْ يَكُونَ في هَذا التَّكْلِيفِ أنْواعٌ مِنَ المَصالِحِ العائِدَةِ إلى العِبادِ:
مِنها: أنَّ إنْفاقَ المالِ يُوجِبُ زَوالَ حُبِّ المالِ عَنِ القَلْبِ، وذَلِكَ مِن أعْظَمِ المَنافِعِ، فَإنَّهُ إذا ماتَ فَلَوْ بَقِيَ في قَلْبِهِ حُبُّ المالِ مَعَ أنَّهُ تَرَكَ المالَ لَكانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَألُّمِ رُوحِهِ بِتِلْكَ المُفارَقَةِ.
ومِنها: أنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ الإنْفاقِ إلى الثَّوابِ المُخَلَّدِ المُؤَبَّدِ.
ومِنها: أنَّ بِسَبَبِ الإنْفاقِ يَصِيرُ القَلْبُ فارِغًا عَنْ حُبِّ ما سِوى اللَّهِ، وبِقَدْرِ ما يَزُولُ عَنِ القَلْبِ حُبُّ غَيْرِ اللَّهِ فَإنَّهُ يَقْوى في حُبِّ اللَّهِ، وذَلِكَ رَأْسُ السَّعاداتِ، وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ قَدْ ذَكَرَها اللَّهُ في القُرْآنِ وبَيَّنَها مِرارًا وأطْوارًا، كَما قالَ: ﴿والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا﴾ [الكهف: ٤٦] وقالَ: ﴿والآخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقى﴾ [الأعلى: ١٧] وقالَ: ﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢] وقالَ: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨] فَلَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الوُجُوهِ عَلى الِاسْتِقْصاءِ كانَ إيرادُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بَعْدَ تَقَدُّمِ هَذِهِ البَيِّناتِ مَحْضَ التَّعَنُّتِ، فَلِهَذا اقْتَصَرَ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ ذِكْرِها عَلى مُجَرَّدِ الوَعِيدِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكم وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الوَعِيدَ الشَّدِيدَ ذَكَرَ سَبَبَهُ فَقالَ: ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ أيْ هَذا العَذابُ المُحْرِقُ جَزاءُ فِعْلِكم حَيْثُ وصَفْتُمُ اللَّهَ وأقْدَمْتُمْ عَلى قَتْلِ الأنْبِياءِ، فَيَكُونُ هَذا العِقابُ عَدْلًا لا جَوْرًا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الجُبّائِيُّ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَ العِقابِ بِهِمْ كانَ يَكُونُ ظُلْمًا بِتَقْدِيرِ أنْ لا يَقَعَ مِنهم تِلْكَ الذُّنُوبُ، وفِيهِ بُطْلانُ قَوْلِ المُجَبِّرَةِ، إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الأطْفالَ بِغَيْرِ جُرْمٍ، ويَجُوزُ أنْ يُعَذِّبَ البالِغِينَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ، ويَدُلُّ عَلى كَوْنِ العَبْدِ فاعِلًا، وإلّا لَكانَ الظُّلْمُ حاصِلًا.
والجَوابُ: أنَّ ما ذَكَرْتُمْ مُعارَضٌ بِمَسْألَةِ الدّاعِي ومَسْألَةِ العِلْمِ عَلى ما شَرَحْناهُ مِرارًا وأطْوارًا.
(p-٩٨)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] يُفِيدُ نَفْيَ كَوْنِهِ ظَلّامًا، ونَفْيُ الصِّفَةِ يُوهِمُ بَقاءَ الأصْلِ، فَهَذا يَقْتَضِي ثُبُوتَ أصْلِ الظُّلْمِ.
أجابَ القاضِي عَنْهُ بِأنَّ العَذابَ الَّذِي تَوَعَّدَ بِأنْ يَفْعَلَهُ بِهِمْ لَوْ كانَ ظُلْمًا لَكانَ عَظِيمًا، فَنَفاهُ عَلى حَدِّ عِظَمِهِ لَوْ كانَ ثابِتًا، وهَذا يُؤَكِّدُ ما ذَكَرْنا أنَّ إيصالَ العِقابِ إلَيْهِمْ يَكُونُ ظُلْمًا لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُذْنِبِينَ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ ذِكْرَ الأيْدِي عَلى سَبِيلِ المَجازِ، لِأنَّ الفاعِلَ هو الإنْسانُ لا اليَدُ، إلّا أنَّ اليَدَ لَمّا كانَتْ آلَةَ الفِعْلِ حَسُنَ إسْنادُ الفِعْلِ إلَيْها عَلى سَبِيلِ المَجازِ، ثُمَّ في هَذِهِ الآيَةِ ذَكَرَ اليَدَ بِلَفْظِ الجَمْعِ فَقالَ: ﴿بِما قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ﴾ وفي آيَةٍ أُخْرى ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَقالَ: ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ﴾ [الحج: ١٠] والكُلُّ حَسَنٌ مُتَعارَفٌ في اللُّغَةِ.
{"ayahs_start":181,"ayahs":["لَّقَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِیرࣱ وَنَحۡنُ أَغۡنِیَاۤءُۘ سَنَكۡتُبُ مَا قَالُوا۟ وَقَتۡلَهُمُ ٱلۡأَنۢبِیَاۤءَ بِغَیۡرِ حَقࣲّ وَنَقُولُ ذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلۡحَرِیقِ","ذَ ٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَیۡسَ بِظَلَّامࣲ لِّلۡعَبِیدِ"],"ayah":"ذَ ٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَیۡسَ بِظَلَّامࣲ لِّلۡعَبِیدِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق