الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هو خَيْرًا لَهم بَلْ هو شَرٌّ لَهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ ولِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والأرْضِ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بالَغَ في التَّحْرِيضِ عَلى بَذْلِ النَّفْسِ في الجِهادِ في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ شَرَعَ هَهُنا في التَّحْرِيضِ عَلى بَذْلِ المالِ في الجِهادِ، وبَيَّنَ الوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِمَن يَبْخَلُ بِبَذْلِ المالِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ ”ولا تَحْسَبَنَّ“ بِالتّاءِ، والباقُونَ بِالياءِ، أمّا قِراءَةُ حَمْزَةَ بِالتّاءِ المُنَقَّطَةِ مِن فَوْقُ فَقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ ولا تَحْسَبَنَّ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا لَهم، فَحُذِفَ المُضافُ لِدَلالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، وأمّا مَن قَرَأ بِالياءِ المُنَقَّطَةِ مِن تَحْتُ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ فاعِلُ ”يَحْسَبَنَّ“ ضَمِيرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أوْ ضَمِيرَ أحَدٍ، والتَّقْدِيرُ: ولا يَحْسَبَنَّ رَسُولُ اللَّهِ أوْ لا يَحْسَبَنَّ أحَدٌ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا لَهم، وإنَّما جازَ حَذْفُهُ لِدَلالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: مَن كَذَبَ كانَ شَرًّا لَهُ، أيِ الكَذِبُ، ومِثْلُهُ: ؎إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرى إلَيْهِ أيِ السَّفَهُ. وأنْشَدَ الفَرّاءُ: ؎هُمُ المُلُوكُ وأبْناءُ المُلُوكِ هُمُ ∗∗∗ والآخِذُونَ بِهِ والسّادَةُ الأُوَلُ فَقَوْلُهُ ”بِهِ“ يُرِيدُ بِالمُلْكِ، ولَكِنَّهُ اكْتَفى عَنْهُ بِذِكْرِ المُلُوكِ. (p-٩٢)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هو في قَوْلِهِ: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ تُسَمِّيهِ البَصْرِيُّونَ فَصْلًا، والكُوفِيُّونَ عِمادًا، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ ”يَبْخَلُونَ“ فَهو بِمَنزِلَةِ ما إذا ذَكَرَ البُخْلَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ البُخْلَ خَيْرًا لَهم، وتَحْقِيقُ القَوْلِ فِيهِ أنَّ لِلْمُبْتَدَأِ حَقِيقَةً، ولِلْخَبَرِ حَقِيقَةً، وكَوْنُ حَقِيقَةُ المُبْتَدَأِ مَوْصُوفًا بِحَقِيقَةِ الخَبَرِ أمْرٌ زائِدٌ عَلى حَقِيقَةِ المُبْتَدَأِ وحَقِيقَةِ الخَبَرِ، فَإذا كانَتْ هَذِهِ المَوْصُوفِيَّةُ أمْرًا زائِدًا عَلى الذّاتَيْنِ فَلا بُدَّ مِن صِيغَةٍ ثالِثَةٍ دالَّةٍ عَلى هَذِهِ المَوْصُوفِيَّةِ وهي كَلِمَةُ ”هو“ . * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى ذَمِّ البُخْلِ بِشَيْءٍ مِنَ الخَيْراتِ والمَنافِعِ، وذَلِكَ الخَيْرُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مالًا، وأنْ يَكُونَ عِلْمًا. فالقَوْلُ الأوَّلُ: إنَّ هَذا الوَعِيدَ ورَدَ عَلى البُخْلِ بِالمالِ، والمَعْنى: لا يَتَوَهَّمَنَّ هَؤُلاءِ البُخَلاءُ أنَّ بُخْلَهم هو خَيْرٌ لَهم، بَلْ هو شَرٌّ لَهم، وذَلِكَ لِأنَّهُ يَبْقى عِقابُ بُخْلِهِمْ عَلَيْهِمْ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ مَعَ أنَّهُ لا تَبْقى تِلْكَ الأمْوالُ عَلَيْهِمْ وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ . والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن هَذا البُخْلِ: البُخْلُ بِالعِلْمِ، وذَلِكَ لِأنَّ اليَهُودَ كانُوا يَكْتُمُونَ نَعْتَ مُحَمَّدٍ ﷺ وصِفَتَهُ، فَكانَ ذَلِكَ الكِتْمانُ بُخْلًا، يُقالُ: فُلانٌ يَبْخَلُ بِعِلْمِهِ، ولا شَكَّ أنَّ العِلْمَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣] ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَلَّمَ اليَهُودَ والنَّصارى ما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، فَإذا كَتَمُوا ما في هَذَيْنِ الكِتابَيْنِ مِنَ البِشارَةِ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ ﷺ كانَ ذَلِكَ بُخْلًا. واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أوْلى، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ﴾ ولَوْ فَسَّرْنا الآيَةَ بِالعِلْمِ احْتَجْنا إلى تَحَمُّلِ المَجازِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، ولَوْ فَسَّرْناها بِالمالِ لَمْ نَحْتَجْ إلى المَجازِ فَكانَ هَذا أوْلى. الثّانِي: أنّا لَوْ حَمَلْنا هَذِهِ الآيَةَ عَلى المالِ كانَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا في بَذْلِ المالِ في الجِهادِ، فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِهَذِهِ الآيَةِ مَعَ ما قَبْلَها نَظْمٌ حَسَنٌ، ولَوْ حَمَلْناها عَلى أنَّ اليَهُودَ كَتَمُوا ما عَرَفُوهُ مِنَ التَّوْراةِ انْقَطَعَ النَّظْمُ، إلّا عَلى سَبِيلِ التَّكَلُّفِ، فَكانَ الأوَّلُ أوْلى. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ البُخْلَ عِبارَةٌ عَنْ مَنعِ الواجِبِ، وأنَّ مَنعَ التَّطَوُّعِ لا يَكُونُ بُخْلًا، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى الوَعِيدِ الشَّدِيدِ في البُخْلِ، والوَعِيدُ لا يَلِيقُ إلّا عَلى الواجِبِ. وثانِيها: أنَّهُ تَعالى ذَمَّ البُخْلَ وعابَهُ، ومَنعُ التَّطَوُّعِ لا يَجُوزُ أنْ يُذَمَّ فاعِلُهُ، وأنْ يُعابَ بِهِ. وثالِثُها: وهو أنَّهُ تَعالى لا يَنْفَكُّ عَنْ تَرْكِ التَّفَضُّلِ لِأنَّهُ لا نِهايَةَ لِمَقْدُوراتِهِ في التَّفَضُّلِ، وكُلُّ ما يَدْخُلُ في الوُجُودِ فَهو مُتَناهٍ، فَيَكُونُ لا مَحالَةَ تارِكًا التَّفَضُّلَ، فَلَوْ كانَ تَرْكُ التَّفَضُّلِ بُخْلًا لَزِمَ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى مَوْصُوفًا بِالبُخْلِ لا مَحالَةَ تَعالى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ورابِعُها: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«وأيُّ داءٍ أدْوَأُ مِنَ البُخْلِ» “ ومَعْلُومٌ أنَّ تارِكَ التَّطَوُّعِ لا يَلِيقُ بِهِ هَذا الوَصْفُ. وخامِسُها: أنَّهُ لَوْ كانَ تارِكُ التَّفَضُّلِ بَخِيلًا لَوَجَبَ فِيمَن يَمْلِكُ المالَ كُلَّهُ العَظِيمَ أنْ لا يَتَخَلَّصُ مِنَ البُخْلِ إلّا بِإخْراجِ الكُلِّ. وسادِسُها: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] وكَلِمَةُ ”مِن“ لِلتَّبْعِيضِ، فَكانَ المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ بَعْضَ ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ في صِفَتِهِمْ: ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] (p-٩٣)فَوَصَفَهم بِالهُدى والفَلاحِ، ولَوْ كانَ تارِكُ التَّطَوُّعِ بَخِيلًا مَذْمُومًا لَما صَحَّ ذَلِكَ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ البُخْلَ عِبارَةٌ عَنْ تَرْكِ الواجِبِ، إلّا أنَّ الإنْفاقَ الواجِبَ أقْسامٌ كَثِيرَةٌ، مِنها إنْفاقُهُ عَلى نَفْسِهِ وعَلى أقارِبِهِ الَّذِينَ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهم، ومِنها ما يَتَّصِلُ بِأبْوابِ الزَّكاةِ، ومِنها ما إذا احْتاجَ المُسْلِمُونَ إلى دَفْعِ عَدُوٍّ يَقْصِدُ قَتْلَهم ومالَهم، فَهَهُنا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إنْفاقُ الأمْوالِ عَلى مَن يَدْفَعُهُ عَنْهم، لِأنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، ومِنها إذا صارَ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ مُضْطَرًّا فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِقْدارَ ما يَسْتَبْقِي بِهِ رَمَقَهُ، فَكُلُّ هَذِهِ الإنْفاقاتِ مِنَ الواجِباتِ وتَرْكُهُ مِن بابِ البُخْلِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَفْسِيرِ هَذا الوَعِيدِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنْ يُحْمَلَ هَذا عَلى ظاهِرِهِ وهو أنَّهُ تَعالى يُطَوِّقُهم بِطَوْقٍ يَكُونُ سَبَبًا لِعَذابِهِمْ. قِيلَ إنَّهُ تَعالى يُصَيِّرُ تِلْكَ الأمْوالَ في أعْناقِهِمْ حَيّاةً تَكُونُ لَهم كالأطْواقِ تَلْتَوِي في أعْناقِهِمْ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ تَلْتَوِيَ تِلْكَ الحَيّاتُ في سائِرِ أبْدانِهِمْ، فَأمّا ما يَصِيرُ مِن ذَلِكَ في أعْناقِهِمْ فَعَلى جِهَةِ أنَّهم كانُوا التَزَمُوا أداءَ الزَّكاةِ ثُمَّ امْتَنَعُوا عَنْها، وأمّا ما يَلْتَوِي مِنها في سائِرِ أبْدانِهِمْ فَعَلى جِهَةِ أنَّهم كانُوا يَضُمُّونَ تِلْكَ الأمْوالَ إلى أنْفُسِهِمْ، فَعُوِّضُوا مِنها بِأنْ جُعِلَتْ حَيّاتٌ التَوَتْ عَلَيْهِمْ كَأنَّهم قَدِ التَزَمُوها وضَمُّوها إلى أنْفُسِهِمْ. ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الطَّوْقُ طَوْقًا مِن نارٍ يُجْعَلُ في أعْناقِهِمْ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهم وجُنُوبُهم وظُهُورُهُمْ﴾ [التوبة: ٣٥] وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: تُجْعَلُ تِلْكَ الزَّكاةُ المَمْنُوعَةُ في عُنُقِهِمْ كَهَيْئَةِ الطَّوْقِ شُجاعًا ذا زَبِيبَتَيْنِ يَلْدَغُ بِهِما خَدَّيْهِ ويَقُولُ: أنا الزَّكاةُ الَّتِي بَخِلْتَ في الدُّنْيا بِي. القَوْلُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: (سَيُطَوَّقُونَ) قالَ مُجاهِدٌ: سَيُكَلَّفُونَ أنْ يَأْتُوا بِما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، ونَظِيرُهُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ ”وعَلى الَّذِينَ يَطُوقُونَهُ فِدْيَةٌ“ قالَ المُفَسِّرُونَ: يُكَلَّفُونَهُ ولا يُطِيقُونَهُ، فَكَذا قَوْلُهُ: ﴿سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ أيْ يُؤْمَرُونَ بِأداءِ ما مَنَعُوا حِينَ لا يُمْكِنُهُمُ الإتْيانُ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَوْبِيخًا عَلى مَعْنى: هَلّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حِينَ كانَ مُمْكِنًا. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ﴾ أيْ سَيَلْزَمُونَ إثْمَهُ في الآخِرَةِ، وهَذا عَلى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ لا عَلى أنَّ ثَمَّ أطْواقًا، يُقالُ مِنهُ: فُلانٌ كالطَّوْقِ في رَقَبَةِ فُلانٍ، والعَرَبُ يُعَبِّرُونَ عَنْ تَأْكِيدِ إلْزامِ الشَّيْءِ بِتَصْيِيرِهِ في العُنُقِ، ومِنهُ يُقالُ: قَلَّدْتُكَ هَذا الأمْرَ، وجَعَلْتُ هَذا الأمْرَ في عُنُقِكَ؛ قالَ تَعالى: ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] . القَوْلُ الرّابِعُ: إذا فَسَّرْنا هَذا البُخْلَ بِالبُخْلِ بِالعِلْمِ كانَ مَعْنى ”سَيُطَوَّقُونَ“ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَجْعَلُ في رِقابِهِمْ طَوْقًا مِن نارٍ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ألْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجامٍ مِنَ النّارِ يَوْمَ القِيامَةِ» “ والمَعْنى أنَّهم عُوقِبُوا في أفْواهِهِمْ وألْسِنَتِهِمْ بِهَذا اللِّجامِ لِأنَّهم لَمْ يَنْطِقُوا بِأفْواهِهِمْ وألْسِنَتِهِمْ بِما يَدُلُّ عَلى الحَقِّ. واعْلَمْ أنَّ تَفْسِيرَ هَذا البُخْلِ بِكِتْمانِ دَلائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ غَيْرُ بَعِيدٍ، وذَلِكَ لِأنَّ اليَهُودَ والنَّصارى (p-٩٤)مَوْصُوفُونَ بِالبُخْلِ في القُرْآنِ مَذْمُومُونَ بِهِ؛ قالَ تَعالى في صِفَتِهِمْ: ﴿أمْ لَهم نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فَإذًا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ٥٣] وقالَ أيْضًا فِيهِمْ: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبُخْلِ﴾ [النساء: ٣٧] وأيْضًا ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلَهُ: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ﴾ [آل عمران: ١٨١] وذَلِكَ مِن أقْوالِ اليَهُودِ، ولا يَبْعُدُ أيْضًا أنْ تَكُونَ الآيَةُ عامَّةً في البُخْلِ بِالعِلْمِ، وفي البُخْلِ بِالمالِ، ويَكُونُ الوَعِيدُ حاصِلًا عَلَيْهِما مَعًا. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى القَطْعِ بِوَعِيدِ الفُسّاقِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن يَلْزَمُهُ هَذِهِ الحُقُوقُ ولا تَسْقُطُ عَنْهُ هو المُصَدِّقُ بِالرَّسُولِ وبِالشَّرِيعَةِ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿بَلْ هو شَرٌّ لَهُمْ﴾ فَلِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى حِرْمانِ الثَّوابِ وحُصُولِ النّارِ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ فَهو صَرِيحٌ بِالوَعِيدِ. واعْلَمْ أنَّ الكَلامَ في هَذِهِ المَسْألَةِ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: ولَهُ ما فِيها مِمّا يَتَوارَثُهُ أهْلُهُما مِن مالٍ وغَيْرِهِ، فَما لَهم يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ بِمِلْكِهِ ولا يُنْفِقُونَهُ في سَبِيلِهِ! ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧] . والثّانِي: وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ: المُرادُ أنَّهُ يَفْنى أهْلُ السَّماواتِ والأرْضِ وتَبْقى الأمْلاكُ ولا مالِكَ لَها إلّا اللَّهُ، فَجَرى هَذا مَجْرى الوِراثَةِ إذْ كانَ الخَلْقُ يَدَعُونَ الأمْلاكَ، فَلَمّا ماتُوا عَنْها ولَمْ يُخْلِفُوا أحَدًا كانَ هو الوارِثَ لَها، والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ يَبْطُلُ مِلْكُ جَمْعِ المالِكِينَ إلّا مِلْكَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، فَيَصِيرُ كالمِيراثِ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: يُقالُ ورِثَ فُلانٌ عِلْمَ فُلانٍ إذا انْفَرَدَ بِهِ بَعْدَ أنْ كانَ مُشارِكًا فِيهِ، وقالَ تَعالى: ﴿ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾ [النمل: ١٦] وكانَ المَعْنى انْفِرادَهُ بِذَلِكَ الأمْرِ بَعْدَ أنْ كانَ داوُدُ مُشارِكًا لَهُ فِيهِ وغالِبًا عَلَيْهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ”بِما يَعْمَلُونَ“ بِالياءِ عَلى المُغايَبَةِ كِنايَةً عَنِ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، والمَعْنى واللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مِن مَنعِهِمُ الحُقُوقَ فَيُجازِيهِمْ عَلَيْهِ، والباقُونَ قَرَءُوا بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ، وذَلِكَ لِأنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ خِطابٌ وهو قَوْلُهُ: ﴿وإنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا فَلَكم أجْرٌ عَظِيمٌ﴾ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَيُجازِيكم عَلَيْهِ، والغَيْبَةُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنَ الخِطابِ، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: الياءُ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ وهي أبْلَغُ في الوَعِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب