الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ لا إلَهَ إلّا هو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا مَدَحَ المُؤْمِنِينَ وأثْنى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا﴾ أرْدَفَهُ بِأنْ بَيَّنَ أنَّ دَلائِلَ الإيمانِ ظاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، فَقالَ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ كُلَّ ما يَتَوَقَّفُ العِلْمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلى العِلْمِ بِهِ، فَإنَّهُ لا يُمْكِنُ إثْباتُهُ بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ، أمّا ما يَكُونُ كَذَلِكَ فَإنَّهُ يَجُوزُ إثْباتُهُ بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وفي حَقِّ المَلائِكَةِ، وفي حَقِّ أُولِي العِلْمِ، لَكِنَّ العِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ لا يَتَوَقَّفُ عَلى العِلْمِ بِكَوْنِ اللَّهِ تَعالى واحِدًا فَلا جَرَمَ يَجُوزُ إثْباتُ كَوْنِ اللَّهِ تَعالى واحِدًا بِمُجَرَّدِ الدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ القُرْآنِيَّةِ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: ذَكَرُوا في قَوْلِهِ ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ﴾ قَوْلَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الشَّهادَةَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ومِنَ المَلائِكَةِ، ومِن أُولِي العِلْمِ بِمَعْنًى واحِدٍ.
الثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
أمّا القَوْلُ الأوَّلُ فَيُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنْ تَجْعَلَ الشَّهادَةَ عِبارَةً عَنِ الإخْبارِ المَقْرُونِ بِالعِلْمِ، فَهَذا المَعْنى مَفْهُومٌ واحِدٌ وهو حاصِلٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، وفي حَقِّ المَلائِكَةِ، وفي حَقِّ أُولِي العِلْمِ، أمّا مِنَ اللَّهِ تَعالى فَقَدْ أخْبَرَ في القُرْآنِ عَنْ كَوْنِهِ واحِدًا لا إلَهَ مَعَهُ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلالَةِ السَّمْعِيَّةِ في هَذِهِ المَسْألَةِ جائِزٌ، وأمّا مِنَ المَلائِكَةِ وأُولِي العِلْمِ فَكُلُّهم أخْبَرُوا أيْضًا أنَّ اللَّهَ تَعالى واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ، فَثَبَتَ عَلى هَذا التَّقْرِيرِ أنَّ المَفْهُومَ مِنَ الشَّهادَةِ مَعْنًى واحِدٌ في حَقِّ اللَّهِ، وفي حَقِّ المَلائِكَةِ، وفي حَقِّ أُولِي العِلْمِ.
(p-١٧٨)الوَجْهُ الثّانِي: أنْ نَجْعَلَ الشَّهادَةَ عِبارَةً عَنِ الإظْهارِ والبَيانِ، ثُمَّ نَقُولُ: إنَّهُ تَعالى أظْهَرَ ذَلِكَ وبَيَّنَهُ بِأنْ خَلَقَ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، أمّا المَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ فَقَدْ أظْهَرُوا ذَلِكَ، وبَيَّنُوهُ بِتَقْرِيرِ الدَّلائِلِ والبَراهِينِ، أمّا المَلائِكَةُ فَقَدْ بَيَّنُوا ذَلِكَ لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والرُّسُلُ لِلْعُلَماءِ، والعُلَماءُ لِعامَّةِ الخَلْقِ، فالتَّفاوُتُ إنَّما وقَعَ في الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ حَصَلَ الإظْهارُ والبَيانُ، فالمَفْهُومُ الإظْهارُ والبَيانُ فَهو مَفْهُومٌ واحِدٌ في حَقِّ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وفي حَقِّ أُولِي العِلْمِ، فَظَهَرَ أنَّ المَفْهُومَ مِنَ الشَّهادَةِ واحِدٌ عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ كَأنَّهُ يَقُولُ لِلرَّسُولِ ﷺ: إنَّ وحْدانِيَّةَ اللَّهِ تَعالى أمْرٌ قَدْ ثَبَتَ بِشَهادَةِ اللَّهِ تَعالى، وشَهادَةِ جَمِيعِ المُعْتَبَرِينَ مِن خَلْقِهِ، ومِثْلُ هَذا الدِّينِ المَتِينِ والمَنهَجِ القَوِيمِ، لا يَضْعُفُ بِخِلافِ بَعْضِ الجُهّالِ مِنَ النَّصارى وعَبَدَةِ الأوْثانِ، فاثْبُتْ أنْتَ وقَوْمُكَ يا مُحَمَّدُ عَلى ذَلِكَ فَإنَّهُ هو الإسْلامُ والدِّينُ عِنْدَ اللَّهِ هو الإسْلامُ.
القَوْلُ الثّانِي: قَوْلُ مَن يَقُولُ: شَهادَةُ اللَّهِ تَعالى عَلى تَوْحِيدِهِ، عِبارَةٌ عَنْ أنَّهُ خَلَقَ الدَّلائِلَ الدّالَّةَ عَلى تَوْحِيدِهِ، وشَهادَةُ المَلائِكَةِ وأُولِي العِلْمِ عِبارَةٌ عَنْ إقْرارِهِمْ بِذَلِكَ، ولَمّا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ يُسَمّى شَهادَةً، لَمْ يَبْعُدْ أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الكُلِّ في اللَّفْظِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦] ومَعْلُومٌ أنَّ الصَّلاةَ مِنَ اللَّهِ غَيْرُ الصَّلاةِ مِنَ المَلائِكَةِ، ومِنَ المَلائِكَةِ غَيْرُ الصَّلاةِ مِنَ النّاسِ، مَعَ أنَّهُ قَدْ جَمَعَهم في اللَّفْظِ.
فَإنْ قِيلَ: المُدَّعِي لِلْوَحْدانِيَّةِ هو اللَّهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ المُدَّعِي شاهِدًا ؟
الجَوابُ: مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: وهو أنَّ الشّاهِدَ الحَقِيقِيَّ لَيْسَ إلّا اللَّهَ وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي خَلَقَ الأشْياءَ وجَعَلَها دَلائِلَ عَلى تَوْحِيدِهِ، ولَوْلا تِلْكَ الدَّلائِلُ لَما صَحَّتِ الشَّهادَةُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَصْبُ تِلْكَ الدَّلائِلِ هو الَّذِي وفَّقَ العُلَماءَ لِمَعْرِفَةِ تِلْكَ الدَّلائِلِ، ولَوْلا تِلْكَ الدَّلائِلُ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ تَعالى وهَدى إلَيْها لَعَجَزُوا عَنِ التَّوَصُّلِ بِها إلى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ الشّاهِدُ عَلى الوَحْدانِيَّةِ لَيْسَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ، ولِهَذا قالَ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ١٩] .
الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنَّهُ هو المَوْجُودُ أزَلًا وأبَدًا، وكُلُّ ما سِواهُ فَقَدْ كانَ في الأزَلِ عَدَمًا صِرْفًا، ونَفْيًا مَحْضًا، والعَدَمُ يُشْبِهُ الغائِبَ، والمَوْجُودُ يُشْبِهُ الحاضِرَ، فَكُلُّ ما سِواهُ فَقَدْ كانَ غائِبًا، وبِشَهادَةِ الحَقِّ صارَ شاهِدًا، فَكانَ الحَقُّ شاهِدًا عَلى الكُلِّ، فَلِهَذا قالَ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ .
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ هَذا وإنْ كانَ في صُورَةِ الشَّهادَةِ، إلّا أنَّهُ في مَعْنى الإقْرارِ، لِأنَّهُ لَمّا أخْبَرَ أنَّهُ لا إلَهَ سِواهُ، كانَ الكُلُّ عَبِيدًا لَهُ، والمَوْلى الكَرِيمُ لا يَلِيقُ بِهِ أنْ لا يُخِلَّ بِمَصالِحِ العَبِيدِ، فَكانَ هَذا الكَلامُ جارِيًا مَجْرى الإقْرارِ بِأنَّهُ يَجِبُ وُجُوبَ الكَرِيمِ عَلَيْهِ أنْ يُصْلِحَ جِهاتِ جَمِيعِ الخَلْقِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ في الجَوابِ: قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ”شَهِدَ اللَّهُ إنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو“ بِكَسْرِ ”إنَّهُ“ ثُمَّ قَرَأ ”أنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ“ بِفَتْحِ ”أنَّ“ فَعَلى هَذا يَكُونُ المَعْنى: شَهِدَ اللَّهُ أنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ ويَكُونُ قَوْلُهُ ”إنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو“ اعْتِراضًا في الكَلامِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا الجَوابَ لا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، لِأنَّ هَذِهِ القِراءَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ العُلَماءِ، وبِتَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ مَقْبُولَةً لَكِنَّ القِراءَةَ الأُولى مُتَّفَقٌ عَلَيْها، فالإشْكالُ الوارِدُ عَلَيْها لا يَنْدَفِعُ بِسَبَبِ القِراءَةِ الأُخْرى.
(p-١٧٩)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ مِن ﴿وأُولُو العِلْمِ﴾ في هَذِهِ الآيَةِ الَّذِينَ عَرَفُوا وحْدانِيَّتَهُ بِالدَّلائِلِ القاطِعَةِ لِأنَّ الشَّهادَةَ إنَّما تَكُونُ مَقْبُولَةً، إذا كانَ الإخْبارُ مَقْرُونًا بِالعِلْمِ، ولِذَلِكَ قالَ ﷺ: ”«إذا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ» “ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ العالِيَةَ والمَرْتَبَةَ الشَّرِيفَةَ لَيْسَتْ إلّا لِعُلَماءِ الأُصُولِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ مُنْتَصِبٌ، وفِيهِ وُجُوهٌ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: نَصْبٌ عَلى الحالِ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: التَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ قائِمًا بِالقِسْطِ. وثانِيها: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن هو تَقْدِيرُهُ: لا إلَهَ إلّا هو قائِمًا بِالقِسْطِ، ويُسَمّى هَذا حالًا مُؤَكِّدَةً كَقَوْلِكَ: أتانا عَبْدُ اللَّهِ شُجاعًا، وكَقَوْلِكَ: لا رَجُلَ إلّا عَبْدَ اللَّهِ شُجاعًا.
الوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ صِفَةَ المَنفِيِّ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا إلَهَ قائِمًا بِالقِسْطِ إلّا هو، وهَذا غَيْرُ بَعِيدٍ لِأنَّهم يَفْصِلُونَ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ.
والوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى المَدْحِ.
فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ مِن حَقِّ المَدْحِ أنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، كَقَوْلِكَ، الحَمْدُ لِلَّهِ الحَمِيدِ.
قُلْنا: وقَدْ جاءَ نَكِرَةً أيْضًا، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
؎ويَأْوِي إلى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ وشُعْثًا مَراضِعَ مِثْلَ السَّعالِي
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ حالٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ والتَّقْدِيرُ: وأُولُو العِلْمِ حالٌ كَوْنَ كُلِّ واحِدٍ مِنهم قائِمًا بِالقِسْطِ في أداءِ هَذِهِ الشَّهادَةِ.
والثّانِي: وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ حالٌ مِن ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: مَعْنى كَوْنِهِ ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ قائِمًا بِالعَدْلِ، كَما يُقالُ: فُلانٌ قائِمٌ بِالتَّدْبِيرِ، أيْ يُجْرِيهِ عَلى الِاسْتِقامَةِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا العَدْلَ مِنهُ ما هو مُتَّصِلٌ بِبابِ الدُّنْيا، ومِنهُ ما هو مُتَّصِلٌ بِبابِ الدِّينِ، أمّا المُتَّصِلُ بِالدِّينِ فانْظُرْ أوَّلًا في كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ أعْضاءِ الإنْسانِ، حَتّى تَعْرِفَ عَدْلَ اللَّهِ تَعالى فِيها، ثُمَّ انْظُرْ إلى اخْتِلافِ أحْوالِ الخَلْقِ في الحُسْنِ والقُبْحِ، والغِنى والفَقْرِ والصِّحَّةِ والسَّقَمِ، وطُولِ العُمُرِ وقِصَرِهِ واللَّذَّةِ والآلامِ، واقْطَعْ بِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ وحِكْمَةٌ وصَوابٌ، ثُمَّ انْظُرْ في كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ العَناصِرَ وأجْرامَ الأفْلاكِ، وتَقْدِيرِ كُلِّ واحِدٍ مِنها بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ وخاصِّيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، واقْطَعْ بِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ حِكْمَةٌ وصَوابٌ، أمّا ما يَتَّصِلُ بِأمْرِ الدِّينِ، فانْظُرْ إلى اخْتِلافِ الخَلْقِ في العِلْمِ والجَهْلِ، والفَطانَةِ والبَلادَةِ، والهِدايَةِ والغَوايَةِ، واقْطَعْ بِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَدْلٌ وقِسْطٌ. ولَقَدْ خاضَ صاحِبُ الكَشّافِ هاهُنا في التَّعَصُّبِ لِلِاعْتِزالِ وزَعَمَ أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ الإسْلامَ هو العَدْلُ والتَّوْحِيدُ، وكانَ ذَلِكَ المِسْكِينُ بَعِيدًا عَنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الأشْياءِ إلّا أنَّهُ فُضُولِيٌّ كَثِيرُ الخَوْضِ فِيما لا يَعْرِفُ، وزَعَمَ أنَّ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّ مَن أجازَ الرُّؤْيَةَ، أوْ ذَهَبَ إلى الجَبْرِ لَمْ يَكُنْ عَلى دِينِ اللَّهِ الَّذِي هو الإسْلامُ، والعَجَبُ أنَّ أكابِرَ المُعْتَزِلَةِ وعُظَماءَهم أفْنَوْا أعْمارَهم في طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلى أنَّهُ لَوْ كانَ مَرْئِيًّا لَكانَ جِسْمًا، وما وجَدُوا فِيهِ سِوى الرُّجُوعِ إلى الشّاهِدِ مِن غَيْرِ جامِعٍ عَقْلِيٍّ قاطِعٍ، فَهَذا المِسْكِينُ الَّذِي ما شَمَّ رائِحَةَ العِلْمِ مِن أيْنَ وجَدَ ذَلِكَ !
(p-١٨٠)وأمّا حَدِيثُ الجَبْرِ فالخَوْضُ فِيهِ مِن ذَلِكَ المِسْكِينِ خَوْضٌ فِيما لا يَعْنِيهِ، لِأنَّهُ لَمّا اعْتَرَفَ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى عالِمٌ بِجَمِيعِ الجُزْئِيّاتِ، واعْتَرَفَ بِأنَّ العَبْدَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَقْلِبَ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا، فَقَدِ اعْتَرَفَ بِهَذا الجَبْرِ، فَمِن أيْنَ هو والخَوْضُ في أمْثالِ هَذِهِ المَباحِثِ ! .
ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ والفائِدَةُ في إعادَتِهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ تَقْدِيرَ الآيَةِ: شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو، وإذا شَهِدَ بِذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو، ونَظِيرُهُ قَوْلُ مَن يَقُولُ: الدَّلِيلُ دَلَّ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى، ومَتى كانَ كَذَلِكَ صَحَّ القَوْلُ بِوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ أنَّ اللَّهَ شَهِدَ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو وشَهِدَتِ المَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ بِذَلِكَ صارَ التَّقْدِيرُ، كَأنَّهُ قالَ: يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فَقُولُوا أنْتُمْ عَلى وفْقِ شَهادَةِ اللَّهِ وشَهادَةِ المَلائِكَةِ وأُولِي العِلْمِ ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ فَكانَ الغَرَضُ مِنَ الإعادَةِ الأمْرَ بِذِكْرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ عَلى وفْقِ تِلْكَ الشَّهاداتِ. الثّالِثُ: فائِدَةُ هَذا التَّكْرِيرِ الإعْلامُ بِأنَّ المُسْلِمَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ أبَدًا في تَكْرِيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ فَإنَّ أشْرَفَ كَلِمَةٍ يَذْكُرُها الإنْسانُ هي هَذِهِ الكَلِمَةُ، فَإذا كانَ في أكْثَرِ الأوْقاتِ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِها وبِتَكْرِيرِها كانَ مُشْتَغِلًا بِأعْظَمِ أنْواعِ العِباداتِ، فَكانَ الغَرَضُ مِنَ التَّكْرِيرِ في هَذِهِ الآيَةِ حَثُّ العِبادِ عَلى تَكْرِيرِها. الرّابِعُ: ذَكَرَ قَوْلَهُ ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ أوَّلًا: لِيُعْلِمَ أنَّهُ لا تَحِقُّ العِبادَةُ إلّا لِلَّهِ تَعالى، وذَكَرَها ثانِيًا: لِيُعْلِمَ أنَّهُ القائِمُ بِالقِسْطِ لا يَجُورُ ولا يَظْلِمُ.
أمّا قَوْلُهُ ﴿العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ فالعَزِيزُ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُدْرَةِ، والحَكِيمُ إشارَةٌ إلى كَمالِ العِلْمِ، وهُما الصِّفَتانِ اللَّتانِ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الإلَهِيَّةِ إلّا مَعَهُما؛ لِأنَّ كَوْنَهُ قائِمًا بِالقِسْطِ لا يَتِمُّ إلّا إذا كانَ عالِمًا بِمَقادِيرِ الحاجاتِ، وكانَ قادِرًا عَلى تَحْصِيلِ المُهِمّاتِ، وقَدَّمَ العَزِيزَ عَلى الحَكِيمِ في الذِّكْرِ، لِأنَّ العِلْمَ بِكَوْنِهِ تَعالى قادِرًا مُتَقَدِّمٌ عَلى العِلْمِ بِكَوْنِهِ عالِمًا في طَرِيقِ المَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلالِيَّةِ، فَلَمّا كانَ مُقَدَّمًا في المَعْرِفَةِ الِاسْتِدْلالِيَّةِ، وكانَ هَذا الخِطابُ مَعَ المُسْتَدِلِّينَ، لا جَرَمَ قَدَّمَ تَعالى ذِكْرَ العَزِيزِ عَلى الحَكِيمِ.
{"ayah":"شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡعِلۡمِ قَاۤىِٕمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق