الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ ألّا يَجْعَلَ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ ”يُحْزِنْكَ“ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ، وكَذَلِكَ في جَمِيعِ ما في القُرْآنِ إلّا قَوْلَهُ: ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ﴾ [الأنبياء: ١٠٣] في سُورَةِ الأنْبِياءِ، فَإنَّهُ فَتَحَ الياءَ وضَمَّ الزّايَ، والباقُونَ كُلُّهم بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الزّايِ. قالَ الأزْهَرِيُّ: اللُّغَةُ الجَيِّدَةُ حَزَنَهُ يَحْزُنُهُ عَلى ما قَرَأ بِهِ أكْثَرُ القُرّاءِ، وحُجَّةُ نافِعٍ أنَّهُما لُغَتانِ يُقالُ: حَزَنَ يَحْزُنُ كَنَصَرَ يَنْصُرُ، وأحْزَنَ يُحْزِنُ كَأكْرَمَ يُكْرِمُ لُغَتانِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ عَلى وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّها نَزَلَتْ في كُفّارِ قُرَيْشٍ، واللَّهُ تَعالى جَعَلَ رَسُولَهُ آمِنًا مِن شَرِّهِمْ، والمَعْنى: لا يَحْزُنْكَ مَن يُسارِعُ في الكُفْرِ بِأنْ يَقْصِدَ جَمْعَ العَساكِرِ لِمُحارَبَتِكَ، فَإنَّهم بِهَذا الصَّنِيعِ إنَّما يَضُرُّونَ أنْفُسَهم ولا يَضُرُّونَ اللَّهَ، ولا بُدَّ مِن حَمْلِ ذَلِكَ عَلى أنَّهم لَنْ يَضُرُّوا النَّبِيَّ وأصْحابَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ شَيْئًا، وإذا حُمِلَ عَلى ذَلِكَ فَلا بُدَّ مِن حَمْلِهِ عَلى ضَرَرٍ مَخْصُوصٍ، لِأنَّ مِنَ المَشْهُورِ أنَّهم بَعْدَ ذَلِكَ ألْحَقُوا أنْواعًا مِنَ الضَّرَرِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والأوْلى أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلى أنَّ مَقْصُودَهم مِن جَمْعِ العَساكِرِ إبْطالُ هَذا الدِّينِ وإزالَةُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وهَذا المَقْصُودُ لا يَحْصُلُ لَهم، بَلْ يَضْمَحِلُّ أمْرُهم وتَزُولُ شَوْكَتُهم، ويَعْظُمُ أمْرُكَ ويَعْلُو شَأْنُكَ.
الثّانِي: أنَّها نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ، ومُسارَعَتُهم هي أنَّهم كانُوا يُخَوِّفُونَ المُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ وقْعَةِ أُحُدٍ ويُؤَيِّسُونَهم مِنَ النُّصْرَةِ والظَّفَرِ، أوْ بِسَبَبِ أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ إنَّ مُحَمَّدًا طالِبُ مُلْكٍ، فَتارَةً يَكُونُ الأمْرُ لَهُ، وتارَةً عَلَيْهِ، ولَوْ كانَ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ ما غُلِبَ، وهَذا كانَ يُنَفِّرُ المُسْلِمِينَ عَنِ الإسْلامِ، فَكانَ الرَّسُولُ يَحْزَنُ بِسَبَبِهِ. قالَ بَعْضُهم: إنَّ قَوْمًا مِنَ الكُفّارِ أسْلَمُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا خَوْفًا مِن قُرَيْشٍ، فَوَقَعَ الغَمُّ في قَلْبِ الرَّسُولِ ﷺ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ظَنَّ أنَّهم بِسَبَبِ تِلْكَ الرِّدَّةِ يُلْحِقُونَ بِهِ مَضَرَّةً، فَبَيَّنَ اللَّهُ أنَّ رِدَّتَهم لا تُؤَثِّرُ في لُحُوقِ ضَرَرٍ بِكَ. قالَ القاضِي: ويُمْكِنُ أنْ يَقْوى هَذا الوَجْهُ بِأُمُورٍ:
الأوَّلُ: أنَّ المُسْتَمِرَّ عَلى الكُفْرِ لا يُوصَفُ بِأنَّهُ يُسارِعُ في الكُفْرِ، وإنَّما يُوصَفُ بِذَلِكَ مَن يَكْفُرُ بَعْدَ الإيمانِ.
الثّانِي: أنَّ إرادَتَهُ تَعالى أنْ لا يَجْعَلَ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ لا يَلِيقُ إلّا بِمَن قَدْ آمَنَ، فاسْتَوْجَبَ ذَلِكَ، ثُمَّ أُحْبِطَ.
الثّالِثُ: أنَّ الحُزْنَ إنَّما يَكُونُ عَلى فَواتِ أمْرٍ مَقْصُودٍ، فَلَمّا قَدَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الِانْتِفاعَ بِإيمانِهِمْ، ثُمَّ كَفَرُوا حَزِنَ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ لِفَواتِ التَّكْثِيرِ بِهِمْ، فَآمَنُهُ اللَّهُ مِن ذَلِكَ وعَرَّفَهُ أنَّ وُجُودَ إيمانِهِمْ كَعَدَمِهِ في أنَّ أحْوالَهُ لا تَتَغَيَّرُ.
القَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ المُرادَ رُؤَساءُ اليَهُودِ: كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ وأصْحابُهُ الَّذِينَ كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ لِمَتاعِ (p-٨٥)الدُّنْيا. قالَ القَفّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يَبْعُدُ حَمْلُ الآيَةِ عَلى جَمِيعِ أصْنافِ الكُفّارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [المائدة: ٤١] إلى قَوْلِهِ: ﴿ومِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾ [المائدة: ٤١] فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ حُزْنَهُ كانَ حاصِلًا مِن كُلِّ هَؤُلاءِ الكُفّارِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الآيَةِ سُؤالٌ: وهو أنَّ الحُزْنَ عَلى كُفْرِ الكافِرِ ومَعْصِيَةِ العاصِي طاعَةٌ، فَكَيْفَ نَهى اللَّهُ عَنِ الطّاعَةِ ؟
والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ كانَ يُفَرِّطُ ويُسْرِفُ في الحُزْنِ عَلى كُفْرِ قَوْمِهِ حَتّى كادَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلى لُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ، فَنَهاهُ اللَّهُ تَعالى عَنِ الإسْرافِ فِيهِ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] .
الثّانِي: أنَّ المَعْنى لا يُحْزِنُوكَ بِخَوْفِ أنْ يَضُرُّوكَ ويُعِينُوا عَلَيْكَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ يَعْنِي أنَّهم لا يَضُرُّونَ بِمُسارَعَتِهِمْ في الكُفْرِ غَيْرَ أنْفُسِهِمْ، ولا يَعُودُ وبالُ ذَلِكَ عَلى غَيْرِهِمْ ألْبَتَّةَ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ والمَعْنى أنَّهم لَنْ يَضُرُّوا النَّبِيَّ وأصْحابَهُ شَيْئًا، وقالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ: لَنْ يَضُرُّوا أوْلِياءَ اللَّهِ شَيْئًا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ ألّا يَجْعَلَ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ رَدٌّ عَلى المُعْتَزِلَةِ، وتَنْصِيصٌ عَلى أنَّ الخَيْرَ والشَّرَّ بِإرادَةِ اللَّهِ تَعالى، قالَ القاضِي: المُرادُ أنَّهُ يُرِيدُ الإخْبارَ بِذَلِكَ والحُكْمَ بِهِ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا الجَوابَ ضَعِيفٌ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ.
والثّانِي: بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ الأمْرُ كَما قالَ، لَكِنَّ الإتْيانَ بِضِدِّ ما أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ وحَكَمَ بِهِ مُحالٌ فَيَعُودُ الإشْكالُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الإرادَةُ لا تَتَعَلَّقُ بِالعَدَمِ، وقالَ أصْحابُنا ذَلِكَ جائِزٌ، والآيَةُ دالَّةٌ عَلى قَوْلِ أصْحابِنا لِأنَّهُ قالَ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ ألّا يَجْعَلَ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ﴾ فَبَيَّنَ أنَّ إرادَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَذا العَدَمِ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: المَعْنى أنَّهُ تَعالى ما أرادَ ذَلِكَ كَما قالَ: ﴿ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] قُلْنا: هَذا عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ النَّكِرَةَ في مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ، إذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلِ العُمُومُ لَمْ يَحْصُلْ تَهْدِيدُ الكُفّارِ بِهَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ وهَذا كَلامٌ مُبْتَدَأٌ، والمَعْنى أنَّهُ كَما لا حَظَّ لَهُمُ البَتَّةَ مِن مَنافِعِ الآخِرَةِ فَلَهُمُ الحَظُّ العَظِيمُ مِن مَضارِّ الآخِرَةِ.
{"ayah":"وَلَا یَحۡزُنكَ ٱلَّذِینَ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن یَضُرُّوا۟ ٱللَّهَ شَیۡـࣰٔاۗ یُرِیدُ ٱللَّهُ أَلَّا یَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظࣰّا فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق