الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا بَلْ أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ ألّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّ القَوْمَ لَمّا ثَبَّطُوا الرّاغِبِينَ في الجِهادِ بِأنْ قالُوا: الجِهادُ يُفْضِي إلى القَتْلِ، كَما قالُوا في حَقِّ مَن خَرَجَ إلى الجِهادِ يَوْمَ أُحُدٍ، والقَتْلُ شَيْءٌ مَكْرُوهٌ، فَوَجَبَ الحَذَرُ عَنِ الجِهادِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ أنَّ قَوْلَهُمُ الجِهادُ يُفْضِي إلى القَتْلِ باطِلٌ، بِأنَّ القَتْلَ إنَّما يَحْصُلُ بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ كَما أنَّ المَوْتَ يَحْصُلُ بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، فَمَن قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ القَتْلَ لا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرازُ عَنْهُ، ومَن لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ القَتْلَ لا خَوْفَ عَلَيْهِ مِنَ القَتْلِ. ثُمَّ أجابَ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ في هَذِهِ الآيَةِ بِجَوابٍ آخَرَ وهو أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ القَتْلَ في سَبِيلِ اللَّهِ شَيْءٌ مَكْرُوهٌ، وكَيْفَ يُقالُ ذَلِكَ والمَقْتُولُ في سَبِيلِ اللَّهِ أحْياهُ اللَّهُ بَعْدَ القَتْلِ وخَصَّهُ بِدَرَجاتِ القُرْبَةِ والكَرامَةِ، وأعْطاهُ أفْضَلَ أنْواعِ الرِّزْقِ وأوْصَلَهُ إلى أجَلِّ مَراتِبِ الفَرَحِ والسُّرُورِ ؟ فَأيُّ عاقِلٍ يَقُولُ إنَّ مِثْلَ هَذا القَتْلِ يَكُونُ مَكْرُوهًا، فَهَذا وجْهُ النَّظْمِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: هَذِهِ الآيَةُ وارِدَةٌ في شُهَداءِ بَدْرٍ وأُحُدٍ، لِأنَّ في وقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ الشُّهَداءِ إلّا مَن قُتِلَ في هَذَيْنِ اليَوْمَيْنِ المَشْهُورَيْنِ، والمُنافِقُونَ إنَّما يُنَفِّرُونَ المُجاهِدِينَ عَنِ الجِهادِ لِئَلّا يَصِيرُوا مَقْتُولِينَ مِثْلَ مَن قُتِلَ في هَذَيْنِ اليَوْمَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ، واللَّهُ تَعالى بَيَّنَ فَضائِلَ مَن قُتِلَ في هَذَيْنِ اليَوْمَيْنِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ داعِيًا لِلْمُسْلِمِينَ إلى التَّشَبُّهِ بِمَن جاهَدَ في هَذَيْنِ اليَوْمَيْنِ وقُتِلَ، وتَحْقِيقُ الكَلامِ أنَّ مَن تَرَكَ الجِهادَ فَرُبَّما وصَلَ إلى نَعِيمِ الدُّنْيا ورُبَّما لَمْ يَصِلْ، وبِتَقْدِيرِ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ فَهو حَقِيرٌ وقَلِيلٌ، ومَن أقْبَلَ عَلى الجِهادِ فازَ بِنَعِيمِ الآخِرَةِ قَطْعًا وهو نَعِيمٌ عَظِيمٌ، ومَعَ كَوْنِهِ عَظِيمًا فَهو دائِمٌ مُقِيمٌ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ ظَهَرَ أنَّ الإقْبالَ عَلى الجِهادِ أفْضَلُ مِن تَرْكِهِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ هَؤُلاءِ المَقْتُولِينَ أحْياءً، فَإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ حَقِيقَةً أوْ مَجازًا، فَإنْ كانَ المُرادُ مِنهُ هو الحَقِيقَةَ، فَإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهم سَيَصِيرُونَ في الآخِرَةِ أحْياءً، أوِ (p-٧٣)المُرادُ أنَّهم أحْياءٌ في الحالِ، وبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ هَذا هو المُرادَ، فَإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ إثْباتَ الحَياةِ الرُّوحانِيَّةِ أوْ إثْباتَ الحَياةِ الجُسْمانِيَّةِ، فَهَذا ضَبْطُ الوُجُوهِ الَّتِي يُمْكِنُ ذِكْرُها في هَذِهِ الآيَةِ.
الِاحْتِمالُ الأوَّلُ: أنَّ تَفْسِيرَ الآيَةِ بِأنَّهم سَيَصِيرُونَ في الآخِرَةِ أحْياءً، قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ جَماعَةٌ مِن مُتَكَلِّمِي المُعْتَزِلَةِ، مِنهم أبُو القاسِمِ الكَعْبِيُّ قالَ: وذَلِكَ لِأنَّ المُنافِقِينَ الَّذِينَ حَكى اللَّهُ عَنْهم ما حَكى، كانُوا يَقُولُونَ: أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ يُعَرِّضُونَ أنْفُسَهم لِلْقَتْلِ فَيُقْتَلُونَ ويَخْسَرُونَ الحَياةَ، ولا يَصِلُونَ إلى خَيْرٍ، وإنَّما كانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِجَحْدِهِمُ البَعْثَ والمِيعادَ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعالى وبَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّهم يُبْعَثُونَ ويُرْزَقُونَ ويُوصَلُ إلَيْهِمُ الفَرَحُ والسُّرُورُ والبِشارَةُ.
واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ عِنْدَنا باطِلٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الحُجَّةُ الأُولى: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَلْ أحْياءٌ﴾ ظاهِرُهُ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِمْ أحْياءً عِنْدَ نُزُولِ الآيَةِ، فَحَمْلُهُ عَلى أنَّهم سَيَصِيرُونَ أحْياءً بَعْدَ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ لا شَكَّ أنَّ جانِبَ الرَّحْمَةِ والفَضْلِ والإحْسانِ أرْجَحُ مِن جانِبِ العَذابِ والعُقُوبَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في أهْلِ العَذابِ أنَّهُ أحْياهم قَبْلَ القِيامَةِ لِأجْلِ التَّعْذِيبِ، فَإنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ [نوح: ٢٥] والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ، والتَّعْذِيبُ مَشْرُوطٌ بِالحَياةِ، وأيْضًا قالَ تَعالى: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا﴾ [غافر: ٤٦] وإذا جَعَلَ اللَّهُ أهْلَ العَذابِ أحْياءً قَبْلَ قِيامِ القِيامَةِ لِأجْلِ التَّعْذِيبِ، فَلِأنْ يَجْعَلَ أهْلَ الثَّوابِ أحْياءً قَبْلَ القِيامَةِ لِأجْلِ الإحْسانِ والإثابَةِ كانَ ذَلِكَ أوْلى.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ لَوْ أرادَ أنَّهُ سَيَجْعَلُهم أحْياءً عِنْدَ البَعْثِ في الجَنَّةِ لَما قالَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ﴾ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ، أمّا إذا حَمَلْناهُ عَلى ثَوابِ القَبْرِ حَسُنَ قَوْلُهُ: (ولا تَحْسَبَنَّ) لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَعَلَّهُ ما كانَ يَعْلَمُ أنَّهُ تَعالى يُشَرِّفُ المُطِيعِينَ والمُخْلِصِينَ بِهَذا التَّشْرِيفِ، وهو أنَّهُ يُحْيِيهِمْ قَبْلَ قِيامِ القِيامَةِ لِأجْلِ إيصالِ الثَّوابِ إلَيْهِمْ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإنْ كانَ عالِمًا بِأنَّهم سَيَصِيرُونَ أحْياءً عِنْدَ رَبِّهِمْ عِنْدَ البَعْثِ، ولَكِنَّهُ غَيْرُ عالِمٍ بِأنَّهم مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فَجازَ أنْ يُبَشِّرَهُ اللَّهُ بِأنَّهم سَيَصِيرُونَ أحْياءً ويَصِلُونَ إلى الثَّوابِ والسُّرُورِ.
قُلْنا: قَوْلُهُ: (ولا تَحْسَبَنَّ) إنَّما يَتَناوَلُ المَوْتَ لِأنَّهُ قالَ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا﴾ فالَّذِي يُزِيلُ هَذا الحُسْبانَ هو كَوْنُهم أحْياءً في الحالِ؛ لِأنَّهُ لا حُسْبانَ هُناكَ في صَيْرُورَتِهِمْ أحْياءً يَوْمَ القِيامَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ ﴿فَرِحِينَ﴾ فَهو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ ولا تَعَلُّقَ لَهُ بِذَلِكَ الحُسْبانِ، فَزالَ هَذا السُّؤالُ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ﴾ والقَوْمُ الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ لا بُدَّ وأنْ يَكُونُوا في الدُّنْيا، فاسْتِبْشارُهم بِمَن يَكُونُ في الدُّنْيا لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ قَبْلَ قِيامِ القِيامَةِ، والِاسْتِبْشارُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَعَ الحَياةِ، فَدَلَّ هَذا عَلى كَوْنِهِمْ أحْياءً قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ، وفي هَذا الِاسْتِدْلالِ بَحْثٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ.
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ في صِفَةِ الشُّهَداءِ: إنَّ أرْواحَهم في أجْوافِ طَيْرٍ خُضْرٍ وإنَّها تَرِدُ أنْهارَ الجَنَّةِ وتَأْكُلُ مِن ثِمارِها وتَسْرَحُ حَيْثُ شاءَتْ وتَأْوِي إلى قَنادِيلَ (p-٧٤)مِن ذَهَبٍ تَحْتَ العَرْشِ، فَلَمّا رَأوْا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ ومَطْعَمِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ قالُوا: يا لَيْتَ قَوْمَنا يَعْلَمُونَ ما نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وما صَنَعَ اللَّهُ تَعالى بِنا كَيْ يَرْغَبُوا في الجِهادِ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: أنا مُخْبِرٌ عَنْكم ومُبَلِّغٌ إخْوانَكم، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ واسْتَبْشَرُوا فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ»، وسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: سَألْنا عَنْها فَقِيلَ لَنا: إنَّ الشُّهَداءَ عَلى نَهْرٍ بِبابِ الجَنَّةِ في قُبَّةٍ خَضْراءَ، وفي رِوايَةٍ في رَوْضَةٍ خَضْراءَ، «وعَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ألا أُبَشِّرُكَ أنَّ أباكَ حَيْثُ أُصِيبَ بِأُحُدٍ أحْياهُ اللَّهُ ثُمَّ قالَ: ما تُرِيدُ يا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أنْ أفْعَلَ بِكَ ؟ فَقالَ: يا رَبِّ أُحِبُّ أنْ تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيا فَأُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً أُخْرى»، والرِّواياتُ في هَذا البابِ كَأنَّها بَلَغَتْ حَدَّ التَّواتُرِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إنْكارُها ! طَعَنَ الكَعْبِيُّ في هَذِهِ الرِّواياتِ وقالَ: إنَّها غَيْرُ جائِزَةٍ لِأنَّ الأرْواحَ لا تَتَنَعَّمُ، وإنَّما يَتَنَعَّمُ الجِسْمُ إذا كانَ فِيهِ رَوْحٌ لا الرُّوحُ، ومَنزِلَةُ الرُّوحِ مِنَ البَدَنِ مَنزِلَةُ القُوَّةِ، وأيْضًا: الخَبَرُ المَرْوِيُّ ظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنَّ هَذِهِ الأرْواحَ في حَواصِلِ الطَّيْرِ، وأيْضًا ظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنَّها تَرِدُ أنْهارَ الجَنَّةِ وتَأْكُلُ مِن ثِمارِها وتَسْرَحُ، وهَذا يُناقِضُ كَوْنَها في حَواصِلِ الطَّيْرِ.
والجَوابُ: أمّا الطَّعْنُ الأوَّلُ فَهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ قائِمٌ بِالجِسْمِ، وسَنُبَيِّنُ أنَّ الأمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وأمّا الطَّعْنُ الثّانِي فَهو مَدْفُوعٌ لِأنَّ القَصْدَ مِن أمْثالِ هَذِهِ الكَلِماتِ الكِناياتُ عَنْ حُصُولِ الرّاحاتِ والمَسَرّاتِ وزَوالِ المَخافاتِ والآفاتِ، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في هَذا الِاحْتِمالِ.
وأمّا الوَجْهُ الثّانِي: مِنَ الوُجُوهِ المُحْتَمَلَةِ في هَذِهِ الآيَةِ: هو أنَّ الشُّهَداءَ أحْياءٌ في الحالِ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ مِنهم مَن أثْبَتَ هَذِهِ الحَياةَ لِلرُّوحِ، ومِنهم مَن أثْبَتَها لِلْبَدَنِ، وقَبْلَ الخَوْضِ في هَذا البابِ يَجِبُ تَقْدِيمُ مُقَدِّمَةٍ، وهي أنَّ الإنْسانَ لَيْسَ عِبارَةً عَنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ البِنْيَةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أمْرانِ:
أحَدُهُما: أنَّ أجْزاءَ هَذِهِ البِنْيَةِ في الذَّوَبانِ والِانْحِلالِ والتَّبَدُّلِ، والإنْسانُ المَخْصُوصُ شَيْءٌ باقٍ مِن أوَّلِ عُمُرِهِ إلى آخِرِهِ، والباقِي مُغايِرٌ لِلْمُتَبَدِّلِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ ما قُلْناهُ: أنَّهُ تارَةً يَصِيرُ سَمِينًا وأُخْرى هَزِيلًا، وأنَّهُ يَكُونُ في أوَّلِ الأمْرِ صَغِيرَ الجُثَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ يَكْبُرُ ويَنْمُو، ولا شَكَّ أنَّ كُلَّ إنْسانٍ يَجِدُ مِن نَفْسِهِ أنَّهُ شَيْءٌ واحِدٌ مِن أوَّلِ عُمُرِهِ إلى آخِرِهِ فَصَحَّ ما قُلْناهُ.
الثّانِي: أنَّ الإنْسانَ قَدْ يَكُونُ عالِمًا بِنَفْسِهِ حالَ ما يَكُونُ غافِلًا عَنْ جَمِيعِ أعْضائِهِ وأجْزائِهِ، والمَعْلُومُ مُغايِرٌ لِما لَيْسَ بِمَعْلُومٍ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ أنَّهُ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِهَذا البَدَنِ المَحْسُوسِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جِسْمًا مَخْصُوصًا سارِيًا في هَذِهِ الجُثَّةِ سَرَيانَ النّارِ في الفَحْمِ، والدُّهْنِ في السِّمْسِمِ، وماءِ الوَرْدِ في الوَرْدِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَوْهَرًا قائِمًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا حالٍّ في الجِسْمِ، وعَلى كِلا المَذْهَبَيْنِ فَإنَّهُ لا يَبْعُدُ أنَّهُ لَمّا ماتَ البَدَنُ انْفَصَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَيًّا، وإنْ قُلْنا إنَّهُ أماتَهُ اللَّهُ إلّا أنَّهُ تَعالى يُعِيدُ الحَياةَ إلَيْهِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَزُولُ الشُّبُهاتُ بِالكُلِّيَّةِ عَنْ ثَوابِ القَبْرِ، كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وعَنْ عَذابِ القَبْرِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نارًا﴾ [نوح: ٢٥] فَثَبَتَ بِما ذَكَرْناهُ أنَّهُ لا امْتِناعَ في ذَلِكَ، فَظاهِرُ الآيَةِ دالٌّ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ ما ذَكَرْناهُ القُرْآنُ والحَدِيثُ والعَقْلُ.
أمّا القُرْآنُ فَآياتٌ:
إحْداها: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ ﴿وادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: ٢٧ - ٣٠] ولا شَكَّ أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ المَوْتُ. ثُمَّ قالَ: ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ [الفجر: ٢٩] وفاءُ التَّعْقِيبِ تَدُلُّ عَلى أنَّ حُصُولَ هَذِهِ الحالَةِ يَكُونُ عَقِيبَ المَوْتِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْناهُ.
وثانِيها: ﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وهم لا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١] وهَذا عِبارَةٌ عَنْ مَوْتِ البَدَنِ.
(p-٧٥)ثُمَّ قالَ: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ﴾ [الأنعام: ٦٢] فَقَوْلُهُ: (رُدُّوا) ضَمِيرٌ عَنْهُ. وإنَّما هو بِحَياتِهِ وذاتِهِ المَخْصُوصَةِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ باقٍ بَعْدَ مَوْتِ البَدَنِ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿فَأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ ﴿فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ [الواقعة: ٨٨، ٨٩] وفاءُ التَّعْقِيبِ تَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الرَّوْحَ والرَّيْحانَ والجَنَّةَ حاصِلٌ عَقِيبَ المَوْتِ.
وأمّا الخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن ماتَ فَقَدْ قامَتْ قِيامَتُهُ» “ والفاءُ فاءُ التَّعْقِيبِ تَدُلُّ عَلى أنَّ قِيامَةَ كُلِّ أحَدٍ حاصِلَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، وأمّا القِيامَةُ الكُبْرى فَهي حاصِلَةٌ في الوَقْتِ المَعْلُومِ عِنْدَ اللَّهِ، وأيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«القَبْرُ رَوْضَةٌ مِن رِياضِ الجَنَّةِ أوْ حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النّارِ» “ وأيْضًا رُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَوْمَ بَدْرٍ كانَ يُنادِي المَقْتُولِينَ ويَقُولُ: ”هَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكم حَقًّا ؟“ فَقِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهم أمْواتٌ، فَكَيْفَ تُنادِيهِمْ ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”إنَّهم أسْمَعُ مِنكم“» أوْ لَفْظًا هَذا مَعْناهُ، وأيْضًا قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أوْلِياءُ اللَّهِ لا يَمُوتُونَ ولَكِنْ يُنْقَلُونَ مِن دارٍ إلى دارٍ» “ وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ النُّفُوسَ باقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِ الجَسَدِ.
وأمّا المَعْقُولُ فَمِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: وهو أنَّ وقْتَ النَّوْمِ يُضْعِفُ البَدَنَ، وضَعْفُهُ لا يَقْتَضِي ضَعْفَ النَّفْسِ، بَلِ النَّفْسُ تَقْوى وقْتَ النَّوْمِ فَتُشاهِدُ الأحْوالَ وتَطَّلِعُ عَلى المُغَيَّباتِ، فَإذا كانَ ضَعْفُ البَدَنِ لا يُوجِبُ ضَعْفَ النَّفْسِ، فَهَذا يُقَوِّي الظَّنَّ في أنَّ مَوْتَ البَدَنِ لا يَسْتَعْقِبُ مَوْتَ النَّفْسِ.
الثّانِي: وهو أنَّ كَثْرَةَ الأفْكارِ سَبَبٌ لِجَفافِ الدِّماغِ، وجَفافُهُ يُؤَدِّي إلى المَوْتِ، وهَذِهِ الأفْكارُ سَبَبٌ لِاسْتِكْمالِ النَّفْسِ بِالمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، وهو غايَةُ كَمالِ النَّفْسِ، فَما هو سَبَبٌ في كَمالِ النَّفْسِ فَهو سَبَبٌ لِنُقْصانِ البَدَنِ، وهَذا يُقَوِّي الظَّنَّ في أنَّ النَّفْسَ لا تَمُوتُ بِمَوْتِ البَدَنِ.
الثّالِثُ: أنَّ أحْوالَ النَّفْسِ عَلى ضِدِّ أحْوالِ البَدَنِ، وذَلِكَ لِأنَّ النَّفْسَ إنَّما تَفْرَحُ وتَبْتَهِجُ بِالمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨] وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِي» “ ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ الطَّعامَ والشَّرابَ لَيْسَ إلّا عِبارَةً عَنِ المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ والِاسْتِنارَةِ بِأنْوارِ عالَمِ الغَيْبِ. وأيْضًا فَإنّا نَرى أنَّ الإنْسانَ إذا غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْشارُ بِخِدْمَةِ سُلْطانٍ، أوْ بِالفَوْزِ بِمَنصِبٍ، أوْ بِالوُصُولِ إلى مَعْشُوقِهِ، قَدْ يَنْسى الطَّعامَ والشَّرابَ، بَلْ يَصِيرُ بِحَيْثُ لَوْ دُعِيَ إلى الأكْلِ والشُّرْبِ لَوَجَدَ مِن قَلْبِهِ نَفْرَةً شَدِيدَةً مِنهُ، والعارِفُونَ المُتَوَغِّلُونَ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى قَدْ يَجِدُونَ مِن أنْفُسِهِمْ أنَّهم إذا لاحَ لَهم شَيْءٌ مِن تِلْكَ الأنْوارِ، وانْكَشَفَ لَهم شَيْءٌ مِن تِلْكَ الأسْرارِ، لَمْ يَحُسُّوا البَتَّةَ بِالجُوعِ والعَطَشِ. وبِالجُمْلَةِ فالسَّعادَةُ النَّفْسانِيَّةُ كالمُضادَّةِ لِلسَّعادَةِ الجُسْمانِيَّةِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ النَّفْسَ مُسْتَقِلَّةٌ بِذاتِها ولا تَعَلُّقَ لَها بِالبَدَنِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ لا تَمُوتَ النَّفْسُ بِمَوْتِ البَدَنِ، ولْتَكُنْ هَذِهِ الإقْناعِيّاتُ كافِيَةً في هَذا المُقامِ.
واعْلَمْ أنَّهُ مَتى تَقَرَّرَتْ هَذِهِ القاعِدَةُ زالَتِ الإشْكالاتُ والشُّبُهاتُ عَنْ كُلِّ ما ورَدَ في القُرْآنِ مِن ثَوابِ القَبْرِ وعَذابِهِ. وإذا عَرَفْتَ هَذِهِ القاعِدَةَ فَنَقُولُ: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: أرْواحُ الشُّهَداءِ أحْياءٌ وهي تَرْكَعُ وتَسْجُدُ كُلَّ لَيْلَةٍ تَحْتَ العَرْشِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«إذا نامَ العَبْدُ في سُجُودِهِ باهى اللَّهُ تَعالى بِهِ مَلائِكَتَهُ ويَقُولُ انْظُرُوا إلى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وجَسَدُهُ في خِدْمَتِي» “ .
واعْلَمْ أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى ذَلِكَ وهي قَوْلُهُ: ﴿أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ولَفْظُ ”عِنْدَ“ فَكَما أنَّهُ مَذْكُورٌ هَهُنا فَكَذا في صِفَةِ المَلائِكَةِ مَذْكُورٌ وهو قَوْلُهُ: ﴿ومَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ [الأنبياء: ١٩] فَإذا فَهِمْتَ السَّعادَةَ (p-٧٦)الحاصِلَةَ لِلْمَلائِكَةِ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَهِمْتَ السَّعادَةَ الحاصِلَةَ لِلشُّهَداءِ بِكَوْنِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وهَذِهِ كَلِماتٌ تَفْتَحُ عَلى العَقْلِ أبْوابَ مَعارِفِ الآخِرَةِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ مَن يُثْبِتُ هَذِهِ الحَياةَ لِلْأجْسادِ: والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ اخْتَلَفُوا، فَقالَ بَعْضُهم: إنَّهُ تَعالى يُصْعِدُ أجْسادَ هَؤُلاءِ الشُّهَداءِ إلى السَّماواتِ وإلى قَنادِيلَ تَحْتَ العَرْشِ، ويُوصِلُ أنْواعَ السَّعادَةِ والكَراماتِ إلَيْها، ومِنهم مَن قالَ: يَتْرُكُها في الأرْضِ ويُحْيِيها ويُوصِلُ هَذِهِ السَّعاداتِ إلَيْها، ومِنَ النّاسِ مَن طَعَنَ فِيهِ وقالَ: إنّا نَرى أجْسادَ هَؤُلاءِ الشُّهَداءِ قَدْ تَأْكُلُها السِّباعُ، فَإمّا أنْ يُقالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى يُحْيِيها حالَ كَوْنِها في بُطُونِ هَذِهِ السِّباعِ ويُوَصِّلُ الثَّوابَ إلَيْها، أوْ يُقالُ إنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ بَعْدَ انْفِصالِها مِن بُطُونِ السِّباعِ يُرَكِّبُها اللَّهُ تَعالى، ويُؤَلِّفُها ويَرُدُّ الحَياةَ إلَيْها ويُوصِّلُ الثَّوابَ إلَيْها، وكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَبْعَدٌ، ولِأنّا قَدْ نَرى المَيِّتَ المَقْتُولَ باقِيًا أيّامًا إلى أنْ تَنْفَسِخَ أعْضاؤُهُ ويَنْفَصِلَ القَيْحُ والصَّدِيدُ، فَإنْ جَوَّزْنا كَوْنَها حَيَّةً مُتَنَعِّمَةً عاقِلَةً عارِفَةً لَزِمَ القَوْلُ بِالسَّفْسَطَةِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ أنْ نَقُولَ: لَيْسَ المُرادُ مِن كَوْنِها أحْياءً حُصُولَ الحَياةِ فِيهِمْ، بَلِ المُرادُ بَعْضُ المَجازاتِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: قالَ الأصَمُّ البَلْخِيُّ: إنَّ المَيِّتَ إذا كانَ عَظِيمَ المَنزِلَةِ في الدِّينِ، وكانَتْ عاقِبَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ البَهْجَةَ والسَّعادَةَ والكَرامَةَ، صَحَّ أنْ يُقالَ: إنَّهُ حَيٌّ ولَيْسَ بِمَيِّتٍ، كَما يُقالُ في الجاهِلِ الَّذِي لا يَنْفَعُ نَفْسَهُ ولا يَنْتَفِعُ بِهِ أحَدٌ: إنَّهُ مَيِّتٌ ولَيْسَ بِحَيٍّ، وكَما يُقالُ لِلْبَلِيدِ: إنَّهُ حِمارٌ، ولِلْمُؤْذِي إنَّهُ سَبُعٌ، ورُوِيَ أنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ لَمّا رَأى الزُّهْرِيَّ وعَلِمَ فِقْهَهُ وتَحْقِيقَهُ قالَ لَهُ: ما ماتَ مَن خَلَّفَ مِثْلَكَ، وبِالجُمْلَةِ فَلا شَكَّ أنَّ الإنْسانَ إذا ماتَ وخَلَّفَ ثَناءً جَمِيلًا وذِكْرًا حَسَنًا، فَإنَّهُ يُقالُ عَلى سَبِيلِ المَجازِ إنَّهُ ما ماتَ بَلْ هو حَيٌّ.
الثّانِي: قالَ بَعْضُهم: مَجازُ هَذِهِ الحَياةِ أنَّ أجْسادَهم باقِيَةٌ في قُبُورِهِمْ، وأنَّها لا تَبْلى تَحْتَ الأرْضِ البَتَّةَ. واحْتَجَّ هَؤُلاءِ بِما رُوِيَ أنَّهُ لَمّا أرادَ مُعاوِيَةُ أنْ يُجْرِيَ العَيْنَ عَلى قُبُورِ الشُّهَداءِ، أمَرَ بِأنْ يُنادى: مَن كانَ لَهُ قَتِيلٌ فَلْيُخْرِجْهُ مِن هَذا المَوْضِعِ، قالَ جابِرٌ: فَخَرَجْنا إلَيْهِمْ فَأخْرَجْناهم رِطابَ الأبْدانِ، فَأصابَتِ المِسْحاةُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنهم فَقَطَرَتْ دَمًا.
والثّالِثُ: أنَّ المُرادَ بِكَوْنِهِمْ أحْياءً أنَّهم لا يُغَسَّلُونَ كَما تُغَسَّلُ الأمْواتُ. فَهَذا مَجْمُوعُ ما قِيلَ في هَذِهِ الآيَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِأسْرارِ المَخْلُوقاتِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ”ولا تَحْسَبَنَّ“ الخِطابُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أوْ لِكُلِّ أحَدٍ، وقُرِئَ بِالياءِ، وفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: ”ولا يَحْسَبَنَّ رَسُولُ اللَّهِ“ .
والثّانِي: ”ولا يَحْسَبَنَّ حاسِبٌ“ .
والثّالِثُ: ”ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا أنْفُسَهم أمْواتًا“ . قالَ: وقُرِئَ ”تَحْسَبَنَّ“ بِفَتْحِ السِّينِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ ”قُتِّلُوا“ بِالتَّشْدِيدِ، والباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿بَلْ أحْياءٌ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: التَّقْدِيرُ: بَلْ هم أحْياءٌ، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: قُرِئَ ”أحْياءًا“ بِالنَّصْبِ عَلى مَعْنى بَلْ أحْسَبُهم أحْياءًا. وأقُولُ: إنَّ الزَّجّاجَ قالَ: ولَوْ قُرِئَ ”أحْياءً“ بِالنَّصْبِ لَجازَ عَلى مَعْنى بَلْ أحْسَبُهم أحْياءًا، وطَعَنَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ فِيهِ فَقالَ: لا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأنَّهُ أمْرٌ بِالشَّكِّ، والأمْرُ بِالشَّكِّ غَيْرُ جائِزٍ عَلى اللَّهِ، ولا يَجُوزُ تَفْسِيرُ الحُسْبانِ بِالعِلْمِ لِأنَّ ذَلِكَ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أحَدٌ مِن عُلَماءِ أهْلِ اللُّغَةِ، ولِلزَّجّاجِ أنْ يُجِيبَ فَيَقُولَ: الحُسْبانُ ظَنٌّ لا شَكٌّ، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالظَّنِّ، ألَيْسَ أنَّ تَكْلِيفَهُ في جَمِيعِ المُجْتَهَداتِ لَيْسَ إلّا بِالظَّنِّ.
(p-٧٧)وأقُولُ: هَذِهِ المُناظَرَةُ مِنَ الزَّجّاجِ وأبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما قُرِئَ ”أحْياءًا“ بِالنَّصْبِ بَلِ الزَّجّاجُ كانَ يَدَّعِي أنَّ لَها وجْهًا في اللُّغَةِ، والفارِسِيُّ نازَعَهُ فِيهِ، ولَيْسَ كُلُّ ما لَهُ وجْهٌ في الإعْرابِ جازَتِ القِراءَةُ بِهِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: بِحَيْثُ لا يَمْلِكُ لَهم أحَدٌ نَفْعًا ولا ضَرًّا إلّا اللَّهُ تَعالى.
والثّانِي: هم أحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، أيْ هم أحْياءٌ في عِلْمِهِ وحُكْمِهِ، كَما يُقالُ: هَذا عِنْدَ الشّافِعِيِّ كَذا، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ بِخِلافِهِ.
والثّالِثُ: أنَّ ”عِنْدَ“ مَعْناهُ القُرْبُ والإكْرامُ، كَقَوْلِهِ: ﴿ومَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩] وقَوْلِهِ: ﴿فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [فصلت: ٣٨] .
أمّا قَوْلُهُ: ﴿يُرْزَقُونَ﴾ ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ﴾ فاعْلَمْ أنَّ المُتَكَلِّمِينَ قالُوا: الثَّوابُ مَنفَعَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْظِيمِ، فَقَوْلُهُ: (يُرْزَقُونَ) إشارَةٌ إلى المَنفَعَةِ، وقَوْلُهُ: (فَرِحِينَ) إشارَةٌ إلى الفَرَحِ الحاصِلِ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّعْظِيمِ، وأمّا الحُكَماءُ فَإنَّهم قالُوا: إذا أشْرَقَتْ جَواهِرُ الأرْواحِ القُدُسِيَّةِ بِالأنْوارِ الإلَهِيَّةِ كانَتْ مُبْتَهِجَةً مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ ذَواتُها مُنِيرَةً مُشْرِقَةً مُتَلَأْلِئَةً بِتِلْكَ الجَلايا القُدُسِيَّةِ والمَعارِفِ الإلَهِيَّةِ.
والثّانِي: بِكَوْنِها ناظِرَةً إلى يَنْبُوعِ النُّورِ ومَصْدَرِ الرَّحْمَةِ والجَلالَةِ، قالُوا: وابْتِهاجُها بِهَذا القِسْمِ الثّانِي أتَمُّ مِنِ ابْتِهاجِها بِالأوَّلِ، فَقَوْلُهُ: (يُرْزَقُونَ) إشارَةٌ إلى الدَّرَجَةِ الأُولى، وقَوْلُهُ: (فَرِحِينَ) إشارَةٌ إلى الدَّرَجَةِ الثّانِيَةِ، ولِهَذا قالَ: ﴿فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ يَعْنِي أنَّ فَرَحَهم لَيْسَ بِالرِّزْقِ، بَلْ بِإيتاءِ الرِّزْقِ لِأنَّ المَشْغُولَ بِالرِّزْقِ مَشْغُولٌ بِنَفْسِهِ، والنّاظِرُ إلى إيتاءِ الرِّزْقِ مَشْغُولٌ بِالرّازِقِ، ومَن طَلَبَ الحَقَّ لِغَيْرِهِ فَهو مَحْجُوبٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ ألّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ألّا خَوْفٌ﴾ في مَحَلِّ الخَفْضِ بَدَلٌ مِنَ ”الَّذِينَ“ والتَّقْدِيرُ: ويَسْتَبْشِرُونَ بِأنْ لا خَوْفٌ ولا حُزْنٌ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الِاسْتِبْشارُ السُّرُورُ الحاصِلُ بِالبِشارَةِ، وأصْلُ الِاسْتِفْعالِ طَلَبُ الفِعْلِ، فالمُسْتَبْشِرُ بِمَنزِلَةِ مَن طَلَبَ السُّرُورَ فَوَجَدَهُ بِالبِشارَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ سَلَّمُوا كَوْنَ الشُّهَداءِ أحْياءً قَبْلَ قِيامِ القِيامَةِ ذَكَرُوا لِهَذِهِ الآيَةِ تَأْوِيلاتٍ أُخَرَ:
أمّا الأوَّلُ: فَهو أنْ يُقالَ: أنَّ الشُّهَداءَ يَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: تَرَكْنا إخْوانَنا فُلانًا وفُلانًا في صَفِّ المُقاتِلَةِ مَعَ الكُفّارِ فَيُقْتَلُونَ إنْ شاءَ اللَّهُ فَيُصِيبُونَ مِنَ الرِّزْقِ والكَرامَةِ ما أصَبْنا، فَهو قَوْلُهُ: ﴿ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ .
وأمّا الثّانِي: فَهو أنْ يُقالَ: إنَّ الشُّهَداءَ إذا دَخَلُوا الجَنَّةَ بَعْدَ قِيامِ القِيامَةِ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ، والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ﴾ هم إخْوانُهم مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهم مِثْلُ دَرَجَةِ الشُّهَداءِ، لِأنَّ الشُّهَداءَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَهم، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفَضَّلَ اللَّهُ المُجاهِدِينَ عَلى القاعِدِينَ أجْرًا عَظِيمًا﴾ ﴿دَرَجاتٍ مِنهُ ومَغْفِرَةً ورَحْمَةً﴾ [النساء: ٩٥، ٩٦] فَيَفْرَحُونَ بِما يَرَوْنَ مِن مَأْوى المُؤْمِنِينَ والنَّعِيمِ المُعَدِّ لَهم، وبِما يَرْجُونَهُ مِنَ الِاجْتِماعِ بِهِمْ وتَقَرُّ بِذَلِكَ أعْيُنُهم، هَذا اخْتِيارُ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ والزَّجّاجِ.
واعْلَمْ أنَّ التَّأْوِيلَ الأوَّلَ أقْوى مِنَ الثّانِي، وذَلِكَ لِأنَّ حاصِلَ الثّانِي يَرْجِعُ إلى اسْتِبْشارِ بَعْضِ المُؤْمِنِينَ (p-٧٨)بِبَعْضٍ بِسَبَبِ اجْتِماعِهِمْ في الجَنَّةِ، وهَذا أمْرٌ عامٌّ في حَقِّ كُلِّ المُؤْمِنِينَ، فَلا مَعْنى لِتَخْصِيصِ الشُّهَداءِ بِذَلِكَ، وأيْضًا: فَهم كَما يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ، فَكَذَلِكَ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَن تَقَدَّمَهم في الدُّخُولِ، لِأنَّ مَنازِلَ الأنْبِياءِ والصِّدِّيقِينَ فَوْقَ مَنازِلِ الشُّهَداءِ، قالَ تَعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ﴾ [النساء: ٦٩] وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَبْقى فائِدَةٌ في التَّخْصِيصِ. أمّا إذا فَسَّرْنا الآيَةَ بِالوَجْهِ الأوَّلِ فَفي تَخْصِيصِ المُجاهِدِينَ بِهَذِهِ الخاصِّيَّةِ أعْظَمُ الفَوائِدِ فَكانَ ذَلِكَ أوْلى، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الخَوْفُ يَكُونُ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ المَكْرُوهِ النّازِلِ في المُسْتَقْبَلِ، والحُزْنُ يَكُونُ بِسَبَبِ فَواتِ المَنافِعِ الَّتِي كانَتْ مَوْجُودَةً في الماضِي، فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهُ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيما سَيَأْتِيهِمْ مِن أحْوالِ القِيامَةِ، ولا حُزْنٌ لَهم فِيما فاتَهم مِن نَعِيمِ الدُّنْيا.
{"ayahs_start":169,"ayahs":["وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ","فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَیَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِینَ لَمۡ یَلۡحَقُوا۟ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ"],"ayah":"فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَیَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِینَ لَمۡ یَلۡحَقُوا۟ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق