الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقِيلَ لَهم تَعالَوْا قاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أوِ ادْفَعُوا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في أنَّ هَذا القائِلَ مَن هو ؟ وجْهانِ:
الأوَّلُ: قالَ الأصَمُّ: إنَّهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَدْعُوهم إلى القِتالِ.
الثّانِي: رُوِيَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولٍ لَمّا خَرَجَ بِعَسْكَرِهِ إلى أُحُدٍ قالُوا: لِمَ نُلْقِي أنْفُسَنا في القَتْلِ، فَرَجَعُوا وكانُوا ثَلاثُمِائَةً مِن جُمْلَةِ الألْفِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ لَهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرامٍ أبُو جابِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأنْصارِيُّ: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أنْ تَخْذُلُوا نَبِيَّكم وقَوْمَكم عِنْدَ حُضُورِ العَدُوِّ، فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقِيلَ لَهُمْ﴾ يَعْنِي قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ هَذا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿قاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أوِ ادْفَعُوا﴾ يَعْنِي إنْ كانَ في قَلْبِكم حُبُّ الدِّينِ والإسْلامِ فَقاتِلُوا لِلدِّينِ والإسْلامِ، وإنْ لَمْ تَكُونُوا كَذَلِكَ، فَقاتِلُوا دَفْعًا عَنْ أنْفُسِكم وأهْلِيكم وأمْوالِكم، يَعْنِي كُونُوا إمّا مِن رِجالِ الدِّينِ، أوْ مِن رِجالِ الدُّنْيا. قالَ السُّدِّيُّ وابْنُ جُرَيْجٍ: ادْفَعُوا عَنّا العَدُوَّ بِتَكْثِيرِ سَوادِنا إنْ لَمْ تُقاتِلُوا مَعَنا، قالُوا: لِأنَّ الكَثْرَةَ أحَدُ أسْبابِ الهَيْبَةِ والعَظَمَةِ، والأوَّلُ هو الوَجْهُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أوِ ادْفَعُوا﴾ تَصْرِيحٌ بِأنَّهم قَدَّمُوا طَلَبَ الدِّينِ عَلى طَلَبِ الدُّنْيا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُسْلِمَ لا بُدَّ وأنْ يُقَدِّمَ الدِّينَ عَلى الدُّنْيا في كُلِّ المُهِمّاتِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكم هم لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنهم لِلْإيمانِ﴾ وهَذا هو الجَوابُ الَّذِي ذَكَرَهُ المُنافِقُونَ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ الفَرِيقَيْنِ لا يَقْتَتِلانِ البَتَّةَ، فَلِهَذا رَجَعْنا.
الثّانِي: أنْ يَكُونَ المَعْنى لَوْ نَعْلَمُ ما يَصْلُحُ أنْ يُسَمّى قِتالًا لاتَّبَعْناكم، يَعْنِي أنَّ الَّذِي يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ لا يُقالُ لَهُ (p-٧٠)قِتالٌ، وإنَّما هو إلْقاءُ النَّفْسِ في التَّهْلُكَةِ؛ لِأنَّ رَأْيَ عَبْدِ اللَّهِ كانَ في الإقامَةِ بِالمَدِينَةِ، وما كانَ يَسْتَصْوِبُ الخُرُوجَ.
واعْلَمْ أنَّهُ إنْ كانَ المُرادُ مِن هَذا الكَلامِ هو الوَجْهَ الأوَّلَ فَهو فاسِدٌ، وذَلِكَ لِأنَّ الظَّنَّ في أحْوالِ الدُّنْيا قائِمٌ مَقامَ العِلْمِ، وأماراتُ حُصُولِ القِتالِ كانَتْ ظاهِرَةً في ذَلِكَ اليَوْمِ، ولَوْ قِيلَ لِهَذا المُنافِقِ الَّذِي ذَكَرَ هَذا الجَوابَ: فَيَنْبَغِي لَكَ لَوْ شاهَدْتَ مَن شَهَرَ سَيْفَهُ في الحَرْبِ أنْ لا تَقْدَمَ عَلى مُقاتَلَتِهِ لِأنَّكَ لا تَعْلَمُ مِنهُ قِتالًا، وكَذا القَوْلُ في سائِرِ التَّصَرُّفاتِ في أُمُورِ الدُّنْيا، بَلِ الحَقُّ أنَّ الجِهادَ واجِبٌ عِنْدَ ظُهُورِ أماراتِ المُحارَبَةِ، ولا أماراتِ أقْوى مِن قُرْبِهِمْ مِنَ المَدِينَةِ عِنْدَ جَبَلِ أُحُدٍ، فَدَلَّ ذِكْرُ هَذا الجَوابِ عَلى غايَةِ الخِزْيِ والنِّفاقِ، وأنَّهُ كانَ غَرَضُهم مِن ذِكْرِ هَذا الجَوابِ إمّا التَّلْبِيسَ، وإمّا الِاسْتِهْزاءَ. وأمّا إنْ كانَ مُرادُ المُنافِقِ هو الوَجْهَ الثّانِيَ فَهو أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا وعَدَهم بِالنُّصْرَةِ والإعانَةِ لَمْ يَكُنِ الخُرُوجُ إلى ذَلِكَ القِتالِ إلْقاءًا لِلنَّفْسِ في التَّهْلُكَةِ.
* * *
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ حالَهم عِنْدَما ذَكَرُوا هَذا الجَوابَ فَقالَ: ﴿هم لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنهم لِلْإيمانِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في التَّأْوِيلِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهم كانُوا قَبْلَ هَذِهِ الواقِعَةِ يُظْهِرُونَ الإيمانَ مِن أنْفُسِهِمْ، وما ظَهَرَتْ مِنهم أمارَةٌ تَدُلُّ عَلى كُفْرِهِمْ، فَلَمّا رَجَعُوا عَنْ عَسْكَرِ المُؤْمِنِينَ تَباعَدُوا بِذَلِكَ عَنْ أنْ يُظَنَّ بِهِمْ كَوْنُهم مُؤْمِنِينَ.
واعْلَمْ أنَّ رُجُوعَهم عَنْ مُعاوَنَةِ المُسْلِمِينَ دَلَّ عَلى أنَّهم لَيْسُوا مِنَ المُسْلِمِينَ، وأيْضًا قَوْلُهم: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم لَيْسُوا مِنَ المُسْلِمِينَ، وذَلِكَ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ هَذا الكَلامَ يَدُلُّ إمّا عَلى السُّخْرِيَةِ بِالمُسْلِمِينَ، وإمّا عَلى عَدَمِ الوُثُوقِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما كُفْرٌ.
الوَجْهُ الثّانِي في التَّأْوِيلِ: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهم لِأهْلِ الكُفْرِ أقْرَبُ نُصْرَةً مِنهم لِأهْلِ الإيمانِ، لِأنَّ تَقْلِيلَهم سَوادَ المُسْلِمِينَ بِالِانْعِزالِ يَجُرُّ إلى تَقْوِيَةِ المُشْرِكِينَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أكْثَرُ العُلَماءِ: أنَّ هَذا تَنْصِيصٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى أنَّهم كُفّارٌ، قالَ الحَسَنُ: إذا قالَ اللَّهُ تَعالى: (أقْرَبُ) فَهو اليَقِينُ بِأنَّهم مُشْرِكُونَ، وهو مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] فَهَذِهِ الزِّيادَةُ لا شَكَّ فِيها، وأيْضًا المُكَلَّفُ لا يُمْكِنُ أنْ يَنْفَكَّ عَنِ الإيمانِ والكُفْرِ، فَلَمّا دَلَّتِ الآيَةُ عَلى القُرْبِ لَزِمَ حُصُولُ الكُفْرِ. وقالَ الواحِدِيُّ في البَسِيطِ: هَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن أتى بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ لَمْ يَكْفُرْ ولَمْ يُطْلَقِ القَوْلُ بِتَكْفِيرِهِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمْ يُطْلِقِ القَوْلَ بِكُفْرِهِمْ مَعَ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ، لِإظْهارِهِمُ القَوْلَ بِلا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ﴾ والمُرادُ أنَّ لِسانَهم مُخالِفٌ لِقَلْبِهِمْ، فَهم وإنْ كانُوا يُظْهِرُونَ الإيمانَ بِاللِّسانِ لَكِنَّهم يُضْمِرُونَ في قُلُوبِهِمُ الكُفْرَ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ﴾ .
(p-٧١)فَإنْ قِيلَ: إنَّ المَعْلُومَ إذا عَلِمَهُ عالِمانِ لا يَكُونُ أحَدُهُما أعْلَمَ بِهِ مِنَ الآخَرِ، فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ﴾ ؟ .
قُلْنا: المُرادُ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَعْلَمُ مِن تَفاصِيلِ تِلْكَ الأحْوالِ ما لا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ.
{"ayah":"وَلِیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ نَافَقُوا۟ۚ وَقِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡا۟ قَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُوا۟ۖ قَالُوا۟ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالࣰا لَّٱتَّبَعۡنَـٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ یَوۡمَىِٕذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِیمَـٰنِۚ یَقُولُونَ بِأَفۡوَ ٰهِهِم مَّا لَیۡسَ فِی قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا یَكۡتُمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











