الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أصابَكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وقِيلَ لَهم تَعالَوْا قاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكم هم لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنهم لِلْإيمانِ يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ واللَّهُ أعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ هَذا مُتَعَلِّقٌ بِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿أوَلَمّا أصابَتْكم مُصِيبَةٌ﴾ فَذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ الأُولى أنَّها أصابَتْهم بِذَنْبِهِمْ ومِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ، وذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّها أصابَتْهم لِوَجْهٍ آخَرَ، وهو أنْ يَتَمَيَّزَ المُؤْمِنُ عَنِ المُنافِقِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ﴾ المُرادُ يَوْمَ أُحُدٍ، والجَمْعانِ:
أحَدُهُما: جَمْعُ المُسْلِمِينَ أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ .
والثّانِي: جَمْعُ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ كانُوا مَعَ أبِي سُفْيانَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: (فَبِإذْنِ اللَّهِ) وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ إذْنَ اللَّهِ عِبارَةٌ عَنِ التَّخْلِيَةِ وتَرْكِ المُدافَعَةِ، اسْتَعارَ الإذْنَ لِتَخْلِيَةِ الكُفّارِ فَإنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهم مِنهم لِيَبْتَلِيَهم، لِأنَّ الإذْنَ في الشَّيْءِ لا يَدْفَعُ المَأْذُونَ عَنْ مُرادِهِ، فَلَمّا كانَ تَرْكُ المُدافَعَةِ مِن لَوازِمِ الإذْنِ أُطْلِقَ عَلى تَرْكِ المُدافِعَةِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ.
الوَجْهُ الثّانِي: فَبِإذْنِ اللَّهِ: أيْ بِعِلْمِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿وأذانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣] أيْ إعْلامٌ، وكَقَوْلِهِ: ﴿آذَنّاكَ ما مِنّا مِن شَهِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٧] وقَوْلِهِ: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩] وكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنى العِلْمِ. طَعَنَ الواحِدِيُّ فِيهِ فَقالَ: الآيَةُ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِمّا أصابَهم، ولا تَقَعُ التَّسْلِيَةُ إلّا إذا كانَ واقِعًا بِعِلْمِهِ؛ لِأنَّ عِلْمَهُ عامٌّ في جَمِيعِ المَعْلُوماتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما تَحْمِلُ مِن أُنْثى ولا تَضَعُ إلّا بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: ١١] .
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ مِنَ الإذْنِ الأمْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ صَرَفَكم عَنْهم لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٢] والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالمُحارَبَةِ، ثُمَّ صارَتْ تِلْكَ المُحارَبَةُ مُؤَدِّيَةً إلى ذَلِكَ الِانْهِزامِ، صَحَّ عَلى سَبِيلِ المَجازِ أنْ يُقالَ حَصَلَ ذَلِكَ بِأمْرِهِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: وهو المَنقُولُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ المُرادَ مِنَ الإذْنِ قَضاءُ اللَّهِ بِذَلِكَ وحُكْمُهُ بِهِ، وهَذا أوْلى لِأنَّ الآيَةَ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِمّا أصابَهم، والتَّسْلِيَةُ إنَّما تَحْصُلُ إذا قِيلَ أنَّ ذَلِكَ وقَعَ بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، فَحِينَئِذٍ يَرْضَوْنَ بِما قَضى اللَّهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ولِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا﴾ والمَعْنى لِيُمَيِّزَ المُؤْمِنِينَ عَنِ المُنافِقِينَ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ: يُقالُ: نافَقَ الرَّجُلُ فَهو مُنافِقٌ إذا أظْهَرَ كَلِمَةَ الإيمانِ وأضْمَرَ خِلافَها، والنِّفاقُ اسْمٌ إسْلامِيٌّ اخْتُلِفَ في اشْتِقاقِهِ عَلى وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: هو مِن نافِقاءِ اليَرْبُوعِ، وذَلِكَ لِأنَّ جُحْرَ اليَرْبُوعِ لَهُ بابانِ: القاصِعاءُ والنّافِقاءُ، فَإذا طُلِبَ مِن أيِّهِما كانَ خَرَجَ مِنَ الآخَرِ، فَقِيلَ لِلْمُنافِقِ إنَّهُ (p-٦٩)مُنافِقٌ، لِأنَّهُ وضَعَ لِنَفْسِهِ طَرِيقَيْنِ، إظْهارَ الإسْلامِ وإضْمارَ الكُفْرِ، فَمِن أيِّهِما طَلَبْتَهُ خَرَجَ مِنَ الآخَرِ.
الثّانِي: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: المُنافِقُ مِنَ النَّفَقِ وهو السِّرْبُ، ومَعْناهُ أنَّهُ يَتَسَتَّرُ بِالإسْلامِ كَما يَتَسَتَّرُ الرَّجُلُ في السِّرْبِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النّافِقاءِ، لَكِنْ عَلى غَيْرِ هَذا الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، وهو أنَّ النّافِقاءَ جُحْرٌ يَحْفِرُهُ اليَرْبُوعُ في داخِلِ الأرْضِ، ثُمَّ إنَّهُ يُرَقِّقُ مِمّا فَوْقَ الجُحْرِ، حَتّى إذا رابَهُ رَيْبٌ دَفَعَ التُّرابَ بِرَأْسِهِ وخَرَجَ، فَقِيلَ لِلْمُنافِقِ مُنافِقٌ لِأنَّهُ يُضْمِرُ الكُفْرَ في باطِنِهِ، فَإذا فَتَّشَتْهُ رَمى عَنْهُ ذَلِكَ الكُفْرَ وتَمَسَّكَ بِالإسْلامِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ﴾ ظاهِرُهُ يُشْعِرُ بِأنَّهُ لِأجْلِ أنْ يَحْصُلَ لَهُ هَذا العِلْمُ أذِنَ في تِلْكَ المُصِيبَةِ، وهَذا يُشْعِرُ بِتَجَدُّدِ عِلْمِ اللَّهِ، وهَذا مُحالٌ في حَقِّ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى، فالمُرادُ هَهُنا مِنَ العِلْمِ المَعْلُومُ، والتَّقْدِيرُ: لِيَتَبَيَّنَ المُؤْمِنُ مِنَ المُنافِقِ، ولِيَتَمَيَّزَ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ حَصَلَ الإذْنُ في تِلْكَ المُصِيبَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذا المَعْنى في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في الآيَةِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ ولِيَعْلَمَ إيمانَ المُؤْمِنِينَ ونِفاقَ المُنافِقِينَ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ قالَ: ﴿ولِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا﴾ ولَمْ يَقُلْ: ولِيَعْلَمَ المُنافِقِينَ ؟
قُلْنا: الِاسْمُ يَدُلُّ عَلى تَأْكِيدِ ذَلِكَ المَعْنى، والفِعْلُ يَدُلُّ عَلى تَجَدُّدِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿ولِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِمْ مُسْتَقِرِّينَ عَلى إيمانِهِمْ مُتَثَبِّتِينَ فِيهِ، وأمّا (نافَقُوا) فَيَدُلُّ عَلى كَوْنِهِمْ إنَّما شَرَعُوا في الأعْمالِ اللّائِقَةِ بِالنِّفاقِ في ذَلِكَ الوَقْتِ.
{"ayah":"وَمَاۤ أَصَـٰبَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِیَعۡلَمَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق