الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: المَقْصُودُ مِنهُ التَّرْغِيبُ والتَّرْهِيبُ فِيما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن طَرِيقَةِ المُؤْمِنِينَ وطَرِيقَةِ المُنافِقِينَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ (يَعْمَلُونَ) كِنايَةً عَنِ الغائِبِينَ، والتَّقْدِيرُ ﴿لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً في قُلُوبِهِمْ واللَّهُ يُحْيِي ويُمِيتُ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ والباقُونَ بِالتّاءِ عَلى الخِطابِ لِيَكُونَ وفْقًا لِما قَبْلَهُ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَكُونُوا كالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ولِما بَعْدَهُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ مُتُّمْ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذا هو الجَوابُ الثّانِي عَنْ شُبْهَةِ المُنافِقِينَ، وتَقْرِيرُهُ أنَّ هَذا المَوْتَ لا بُدَّ واقِعٌ ولا مَحِيصَ لِلْإنْسانِ مِن أنْ يُقْتَلَ أوْ يَمُوتَ، فَإذا وقَعَ هَذا المَوْتُ أوِ القَتْلُ في سَبِيلِ اللَّهِ وفي طَلَبِ رِضْوانِهِ، فَهو خَيْرٌ مِن أنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ في طَلَبِ الدُّنْيا ولَذّاتِها الَّتِي لا يَنْتَفِعُ الإنْسانُ بِها بَعْدَ المَوْتِ ألْبَتَّةَ، وهَذا جَوابٌ في غايَةِ الحُسْنِ والقُوَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ إذا تَوَجَّهَ إلى الجِهادِ أعْرَضَ قَلَبُهُ عَنِ الدُّنْيا وأقْبَلَ عَلى الآخِرَةِ، فَإذا ماتَ فَكَأنَّهُ تَخَلَّصَ عَنِ العَدُوِّ ووَصَلَ إلى المَحْبُوبِ، وإذا جَلَسَ في بَيْتِهِ خائِفًا مِنَ المَوْتِ حَرِيصًا عَلى جَمْعِ الدُّنْيا، فَإذا ماتَ فَكَأنَّهُ حُجِبَ عَنِ المَعْشُوقِ وأُلْقِي في دارِ الغُرْبَةِ، ولا شَكَّ في كَمالِ سَعادَةِ الأوَّلِ، وكَمالِ شَقاوَةِ الثّانِي. وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ (مِتُّمْ) بِكَسْرِ المِيمِ، والباقُونَ بِضَمِّ المِيمِ، والأوَّلُونَ أخَذُوهُ مِن: ماتَ يَماتُ مِتُّ، مِثْلَ هابَ يَهابُ هِبْتُ، وخافَ يَخافُ خِفْتُ، ورَوى المُبَرِّدُ هَذِهِ اللُّغَةَ فَإنْ صَحَّ فَقَدْ صَحَّتْ هَذِهِ القِراءَةُ، وأمّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ فَهو مَأْخُوذٌ مِن، ماتَ يَمُوتُ مُتُّ: مِثْلَ قالَ يَقُولُ قُلْتُ. (p-٤٨)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَئِنْ قُتِلْتُمْ﴾ لامُ القَسَمِ، بِتَقْدِيرِ واللَّهِ لَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ، واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ﴾ جَوابُ القَسَمِ، ودالٌّ عَلى أنَّ ما هو داخِلٌ عَلَيْهِ جَزاءٌ، والأصْوَبُ عِنْدِي أنْ يُقالَ: هَذِهِ اللّامُ لِلتَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ المَعْنى إنْ وجَبَ أنْ تَمُوتُوا وتُقْتَلُوا في سَفَرِكم وغَزْوِكم، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أنْ تَفُوزُوا بِالمَغْفِرَةِ أيْضًا، فَلِماذا تَحْتَرِزُونَ عَنْهُ كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ المَوْتَ والقَتْلَ غَيْرُ لازِمِ الحُصُولِ، ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ لازِمًا فَإنَّهُ يَسْتَعْقِبُ لُزُومَ المَغْفِرَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالعاقِلِ أنْ يَحْتَرِزَ عَنْهُ ؟ المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ﴿يَجْمَعُونَ﴾ بِالياءِ عَلى سَبِيلِ الغَيْبَةِ، والباقُونَ بِالتّاءِ عَلى وجْهِ الخِطابِ، أمّا وجْهُ الغَيْبَةِ فالمَعْنى أنَّ مَغْفِرَةَ اللَّهِ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُهُ هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ مِنَ الحُطامِ الفانِي، وأمّا وجْهُ الخِطابِ فالمَعْنى أنَّهُ تَعالى كَأنَّهُ يُخاطِبُ المُؤْمِنِينَ فَيَقُولُ لَهم: مَغْفِرَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكم مِنَ الأمْوالِ الَّتِي تَجْمَعُونَها في الدُّنْيا. المَسْألَةَ الرّابِعَةَ: إنَّما قُلْنا: إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ ومَغْفِرَتَهُ خَيْرٌ مِن نُعَيْمِ الدُّنْيا لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ مَن يَطْلُبُ المالَ فَهو في تَعَبٍ مِن ذَلِكَ الطَّلَبِ في الحالِ، ولَعَلَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِهِ غَدًا لِأنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ الغَدِ وأمّا طَلَبُ الرَّحْمَةِ والمَغْفِرَةِ فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَنْتَفِعَ بِهِ لِأنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ وعْدَهُ، وقَدْ قالَ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ: ٧] . وثانِيها: هَبْ أنَّهُ بَقِيَ إلى الغَدِ لَكِنْ لَعَلَّ ذَلِكَ المالَ لا يَبْقى إلى الغَدِ، فَكَمْ مِنَ إنْسانٍ أصْبَحَ أمِيرًا وأمْسى أسِيرًا، وخَيْراتُ الآخِرَةِ لا تَزُولُ لِقَوْلِهِ: ﴿والباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [الكَهْفِ: ٤٦] ولِقَوْلِهِ: ﴿ما عِنْدَكم يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ﴾ [النَّحْلِ: ٩٦] . وثالِثُها: بِتَقْدِيرِ أنْ يَبْقى إلى الغَدِ ويَبْقى المالُ إلى الغَدِ، لَكِنْ لَعَلَّهُ يَحْدُثُ حادِثٌ يَمْنَعُكَ عَنِ الِانْتِفاعِ بِهِ مِثْلَ مَرَضٍ وألَمٍ وغَيْرِهِما، ومَنافِعُ الآخِرَةِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. ورابِعُها: بِتَقْدِيرِ أنَّهُ في الغَدِ يُمْكِنُكَ الِانْتِفاعُ بِذَلِكَ المالِ، ولَكِنْ لَذّاتُ الدُّنْيا مَشُوبَةٌ بِالآلامِ ومَنافِعُها مَخْلُوطَةٌ بِالمَضارِّ، وذَلِكَ مِمّا لا يَخْفى، وأمّا مَنافِعُ الآخِرَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. وخامِسُها: هَبْ أنَّ تِلْكَ المَنافِعَ تَحْصُلُ في الغَدِ خالِصَةً عَنِ الشَّوائِبِ ولَكِنَّها لا تَدُومُ ولا تَسْتَمِرُّ، بَلْ تَنْقَطِعُ وتَفْنى، وكُلَّما كانَتِ اللَّذَّةُ أقْوى وأكْمَلَ، كانَ التَّأسُّفُ والتَّحَسُّرُ عِنْدَ فَواتِها أشَدَّ وأعْظَمَ، ومَنافِعُ الآخِرَةِ مَصُونَةٌ عَنِ الِانْقِطاعِ والزَّوالِ. وسادِسُها: أنَّ مَنافِعَ الدُّنْيا حِسِّيَّةٌ ومَنافِعَ الآخِرَةِ عَقْلِيَّةٌ، والحِسِّيَّةُ خَسِيسَةٌ، والعَقْلِيَّةُ شَرِيفَةٌ، أتَرى أنَّ انْتِفاعَ الحِمارِ بِلَذَّةِ بَطْنِهِ وفَرْجِهِ يُساوِي ابْتِهاجَ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ عِنْدَ إشْراقِها بِالأنْوارِ الإلَهِيَّةِ، فَهَذِهِ المَعاقِدُ السِّتَّةُ تُنَبِّهُكَ عَلى ما لا نِهايَةَ لَها مِنَ الوُجُوهِ الدّالَّةِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ . فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ المَغْفِرَةُ مَوْصُوفَةً بِأنَّها خَيْرٌ مِمّا تَجْمَعُونَ، ولا خَيْرَ فِيما تَجْمَعُونَ أصْلًا. قُلْنا: إنَّ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ في الدُّنْيا قَدْ يَكُونُ مِن بابِ الحَلالِ الَّذِي يُعَدُّ خَيْرًا، وأيْضًا هَذا وارِدٌ عَلى حَسَبِ قَوْلِهِمْ ومُعْتَقَدِهِمْ أنَّ تِلْكَ الأمْوالَ خَيْراتٌ، فَقِيلَ: المَغْفِرَةُ خَيْرٌ مِن هَذِهِ الأشْياءِ الَّتِي تَظُنُّونَها خَيْراتٍ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ولَئِنْ مُتُّمْ أوْ قُتِلْتُمْ لَإلى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى رَغَّبَ المُجاهِدِينَ في الآيَةِ الأُولى بِالحَشْرِ إلى مَغْفِرَةِ اللَّهِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ زادَ في إعْلاءِ الدَّرَجاتِ فَرَغَّبَهم هاهُنا بِالحَشْرِ إلى اللَّهِ، يُرْوى أنَّ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ مَرَّ بِأقْوامٍ نَحِفَتْ أبْدانُهم واصْفَرَّتْ وُجُوهُهم، ورَأى عَلَيْهِمْ آثارَ العِبادَةِ، فَقالَ ماذا تَطْلُبُونَ ؟ فَقالُوا: نَخْشى عَذابَ اللَّهِ، فَقالَ: هو أكْرَمُ مِن أنْ لا يُخَلِّصَكم مِن عَذابِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأقْوامٍ آخَرِينَ فَرَأى عَلَيْهِمْ تِلْكَ الآثارَ فَسَألَهم، فَقالُوا: نَطْلُبُ الجَنَّةَ والرَّحْمَةَ، فَقالَ: هو أكْرَمُ مِن أنْ يَمْنَحَكم رَحْمَتَهُ، ثُمَّ مَرَّ بِقَوْمٍ ثالِثٍ ورَأى آثارَ العُبُودِيَّةِ عَلَيْهِمْ أكْثَرَ، (p-٤٩)فَسَألَهم فَقالُوا: نَعْبُدُهُ لِأنَّهُ إلَهُنا، ونَحْنُ عَبِيدُهُ لا لِرَغْبَةٍ ولا لِرَهْبَةٍ، فَقالَ: أنْتُمُ العَبِيدُ المُخْلِصُونَ والمُتَعَبِّدُونَ المُحِقُّونَ، فانْظُرْ في تَرْتِيبِ هَذِهِ الآياتِ فَإنَّهُ قالَ في الآيَةِ الأُولى: ﴿لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ﴾ وهو إشارَةٌ إلى مَن يَعْبُدُهُ خَوْفًا مِن عِقابِهِ، ثُمَّ قالَ ﴿ورَحْمَةٌ﴾ وهو إشارَةٌ إلى مَن يَعْبُدُهُ لِطَلَبِ ثَوابِهِ، ثُمَّ قالَ في خاتِمَةِ الآيَةِ: ﴿لَإلى اللَّهِ تُحْشَرُونَ﴾ وهو إشارَةٌ إلى مَن يَعْبُدُ اللَّهَ لِمُجَرَّدِ الرُّبُوبِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ، وهَذا أعْلى المَقاماتِ وأبْعَدُ النِّهاياتِ في العُبُودِيَّةِ في عُلُوِّ الدَّرَجَةِ، ألا تَرى أنَّهُ لَمّا شَرَّفَ المَلائِكَةَ قالَ: ﴿ومَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٩] وقالَ لِلْمُقَرَّبِينَ مِن أهْلِ الثَّوابِ: ﴿عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القَمَرِ: ٥٥] فَبَيَّنَ أنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ بَذَلُوا أنْفُسَهم وأبْدانَهم في طاعَتِهِ ومُجاهَدَةِ عَدُوِّهِ يَكُونُ حَشْرُهم إلَيْهِ، واسْتِئْناسُهم بِكَرَمِهِ، وتَمَتُّعُهم بِشُرُوقِ نُورِ رُبُوبِيَّتِهِ، وهَذا مَقامٌ فِيهِ إطْنابٌ، والمُسْتَبْصِرُ يُرْشِدُهُ القَدْرُ الَّذِي أوْرَدْناهُ. ولْنَرْجِعْ إلى التَّفْسِيرِ: كَأنَّهُ قِيلَ إنْ تَرَكْتُمُ الجِهادَ واحْتَرَزْتُمْ عَنِ القَتْلِ والمَوْتِ بَقِيتُمْ أيّامًا قَلِيلَةً في الدُّنْيا مَعَ تِلْكَ اللَّذّاتِ الخَسِيسَةِ، ثُمَّ تَتْرُكُونَها لا مَحالَةَ، فَتَكُونُ لَذّاتُها لِغَيْرِكم وتَبِعاتُها عَلَيْكم، أمّا لَوْ أعْرَضْتُمْ عَنْ لَذّاتِ الدُّنْيا وطَيِّباتِها، وبَذَلْتُمُ النَّفْسَ والمالَ لِلْمَوْلى يَكُونُ حَشْرُكم إلى اللَّهِ، ووُقُوفُكم عَلى عَتَبَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ، وتَلَذُّذُكم بِذِكْرِ اللَّهِ، فَشَتّانَ ما بَيْنَ هاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ والمَنزِلَتَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب