الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا ومَأْواهُمُ النّارُ وبِئْسَ مَثْوى الظّالِمِينَ﴾ (p-٢٧)اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن تَمامِ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَإنَّهُ تَعالى ذَكَرَ وُجُوهًا كَثِيرَةً في التَّرْغِيبِ في الجِهادِ وعَدَمِ المُبالاةِ بِالكُفّارِ، ومِن جُمْلَتِها ما ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى يُلْقِي الخَوْفَ في قُلُوبِ الكُفّارِ، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ مِمّا يُوجِبُ اسْتِيلاءَ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفُوا في أنَّ هَذا الوَعْدَ هَلْ هو مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ أُحُدٍ، أوْ هو عامٌّ في جَمِيعِ الأوْقاتِ ؟ قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: إنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذا اليَوْمِ، وذَلِكَ لِأنَّ جَمِيعَ الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ إنَّما ورَدَتْ في هَذِهِ الواقِعَةِ، ثُمَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ ذَكَرُوا في كَيْفِيَّةِ إلْقاءِ الرُّعْبِ في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ في هَذا اليَوْمِ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الكُفّارَ لَمّا اسْتَوْلَوْا عَلى المُسْلِمِينَ وهَزَمُوهم أوْقَعَ اللَّهُ الرُّعْبَ في قُلُوبِهِمْ، فَتَرَكُوهم وفَرُّوا مِنهم مِن غَيْرِ سَبَبٍ، حَتّى رُوِيَ أنَّ أبا سُفْيانَ صَعِدَ الجَبَلَ، وقالَ: أيْنَ ابْنُ أبِي كَبْشَةَ ؟، وأيْنَ ابْنُ أبِي قُحافَةَ ؟، وأيْنَ ابْنُ الخَطّابِ ؟، فَأجابَهُ عُمَرُ، ودارَتْ بَيْنَهُما كَلِماتٌ، وما تَجاسَرَ أبُو سُفْيانَ عَلى النُّزُولِ مِنَ الجَبَلِ والذَّهابِ إلَيْهِمْ. والثّانِي: أنَّ الكُفّارَ لَمّا ذَهَبُوا إلى مَكَّةَ، فَلَمّا كانُوا في بَعْضِ الطَّرِيقِ قالُوا: ما صَنَعْنا شَيْئًا، قَتَلْنا الأكْثَرِينَ مِنهم، ثُمَّ تَرَكْناهم ونَحْنُ قاهِرُونَ، ارْجِعُوا حَتّى نَسْتَأْصِلَهم بِالكُلِّيَّةِ، فَلَمّا عَزَمُوا عَلى ذَلِكَ ألْقى اللَّهُ الرُّعْبَ في قُلُوبِهِمْ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذا الوَعْدَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِيَوْمِ أُحُدٍ، بَلْ هو عامٌّ. قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَأنَّهُ قِيلَ إنَّهُ وإنْ وقَعَتْ لَكم هَذِهِ الواقِعَةُ في يَوْمِ أُحُدٍ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى سَيُلْقِي الرُّعْبَ مِنكم بَعْدَ ذَلِكَ في قُلُوبِ الكافِرِينَ حَتّى يَقْهَرَ الكُفّارَ، ويُظْهِرَ دِينَكم عَلى سائِرِ الأدْيانِ. وقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَتّى صارَ دِينُ الإسْلامِ قاهِرًا لِجَمِيعِ الأدْيانِ والمِلَلِ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ”«نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» “ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ (الرُّعُبَ) بِضَمِّ العَيْنِ، والباقُونَ بِتَخْفِيفِها في كُلِّ القُرْآنِ، قالَ الواحِدِيُّ: هُما لُغَتانِ، يُقالُ: رَعَبْتُهُ رُعْبًا ورُعُبًا وهو مَرْعُوبٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الرُّعْبُ مَصْدَرًا، والرُّعُبُ اسْمٌ مِنهُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الرُّعْبُ: الخَوْفُ الَّذِي يَحْصُلُ في القَلْبِ، وأصْلُ الرُّعْبِ المَلْءُ، يُقالُ سَيْلٌ راعِبٌ إذا مَلَأ الأوْدِيَةَ والأنْهارَ، وإنَّما سُمِّيَ الفَزَعُ رُعْبًا لِأنَّهُ يَمْلَأُ القَلْبَ خَوْفًا. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ يَقْتَضِي وُقُوعَ الرُّعْبِ في جَمِيعِ الكُفّارِ، فَذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى إجْراءِ هَذا العُمُومِ عَلى ظاهِرِهِ؛ لِأنَّهُ لا أحَدَ يُخالِفُ دِينَ الإسْلامِ إلّا وفي قَلْبِهِ ضَرْبٌ مِنَ الرُّعْبِ مِنَ المُسْلِمِينَ، إمّا في الحَرْبِ، وإمّا عِنْدَ المُحاجَّةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ لا يَقْتَضِي وُقُوعَ جَمِيعِ أنْواعِ الرُّعْبِ في قُلُوبِ الكُفّارِ، إنَّما يَقْتَضِي وُقُوعَ هَذِهِ الحَقِيقَةِ في قُلُوبِهِمْ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، وذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِأُولَئِكَ الكُفّارِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿بِما أشْرَكُوا بِاللَّهِ﴾ فاعْلَمْ أنَّ ”ما“ مَصْدَرِيَّةٌ، والمَعْنى: بِسَبَبِ إشْراكِهِمْ بِاللَّهِ. واعْلَمْ أنَّ تَقْدِيرَ هَذا بِالوَجْهِ المَعْقُولِ هو أنَّ الدُّعاءَ إنَّما يَصِيرُ في مَحَلِّ الإجابَةِ عِنْدَ الِاضْطِرارِ كَما قالَ: ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ﴾ [النَّمْلِ: ٦٢] ومَنِ اعْتَقَدَ أنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الِاضْطِرارُ؛ لِأنَّهُ يَقُولُ: إنْ كانَ هَذا المَعْبُودُ لا يَنْصُرُنِي، فَذاكَ الآخَرُ يَنْصُرُنِي، وإنْ لَمْ يَحْصُلْ في قَلْبِهِ الِاضْطِرارُ لَمْ تَحْصُلِ الإجابَةُ ولا النُّصْرَةُ، (p-٢٨)وإذا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ وجَبَ أنْ يَحْصُلَ الرُّعْبُ والخَوْفُ في قَلْبِهِ، فَثَبَتَ أنَّ الإشْراكَ بِاللَّهِ يُوجِبُ الرُّعْبَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: السُّلْطانُ هاهُنا هو الحُجَّةُ والبُرْهانُ، وفي اشْتِقاقِهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: إنَّهُ مِنَ السَّلِيطِ وهو الَّذِي يُضاءُ بِهِ السِّراجُ، وقِيلَ لِلْأُمَراءِ سَلاطِينُ؛ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ بِهِمْ يَتَوَصَّلُ النّاسُ إلى تَحْصِيلِ الحُقُوقِ. الثّانِي: أنَّ السُّلْطانَ في اللُّغَةِ هو الحُجَّةُ، وإنَّما قِيلَ لِلْأمِيرِ سُلْطانٌ؛ لِأنَّ مَعْناهُ أنَّهُ ذُو الحُجَّةِ. الثّالِثُ: قالَ اللَّيْثُ: السُّلْطانُ القُدْرَةُ؛ لِأنَّ أصْلَ بِنائِهِ مِنَ التَّسْلِيطِ وعَلى هَذا سُلْطانُ المَلِكِ: قُوَّتُهُ وقُدْرَتُهُ، ويُسَمّى البُرْهانُ سُلْطانًا لِقُوَّتِهِ عَلى دَفْعِ الباطِلِ. الرّابِعُ: قالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سُلْطانُ كُلِّ شَيْءٍ حِدَّتُهُ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ اللِّسانِ السَّلِيطِ، والسَّلاطَةُ بِمَعْنى الحِدَّةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾ يُوهِمُ أنَّ فِيهِ سُلْطانًا إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى ما أنْزَلَهُ وما أظْهَرَهُ، إلّا أنَّ الجَوابَ عَنْهُ أنَّهُ لَوْ كانَ لَأنْزَلَ اللَّهُ بِهِ سُلْطانًا، فَلَمّا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وجَبَ عَدَمُهُ، وحاصِلُ الكَلامِ فِيهِ ما يَقُولُهُ المُتَكَلِّمُونَ: أنَّ هَذا مِمّا لا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ إثْباتُهُ، ومِنهم مَن يُبالِغُ فَيَقُولُ: لا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ نَفْيُهُ، ومِنهم مَنِ احْتَجَّ بِهَذا الحَرْفِ عَلى وحْدانِيَّةِ الصّانِعِ، فَقالَ: لا سَبِيلَ إلى إثْباتِ الصّانِعِ إلّا بِاحْتِياجِ المُحْدَثاتِ إلَيْهِ، ويَكْفِي في دَفْعِ هَذِهِ الحاجَةِ إثْباتُ الصّانِعِ الواحِدِ، فَما زادَ عَلَيْهِ لا سَبِيلَ إلى إثْباتِهِ فَلَمْ يَجُزْ إثْباتُهُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى فَسادِ التَّقْلِيدِ، وذَلِكَ لِأنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ الشِّرْكَ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ القَوْلُ بِهِ باطِلًا، وهَذا إنَّما يَصِحُّ إذا كانَ القَوْلُ بِإثْباتِ ما لا دَلِيلَ عَلى ثُبُوتِهِ يَكُونُ باطِلًا، فَيَلْزَمُ فَسادُ القَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَأْواهُمُ النّارُ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ أحْوالَ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ في الدُّنْيا هو وُقُوعُ الخَوْفِ في قُلُوبِهِمْ، وبَيَّنَ أحْوالَهم في الآخِرَةِ، وهي أنَّ مَأْواهم ومَسْكَنَهُمُ النّارُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وبِئْسَ مَثْوى الظّالِمِينَ﴾ المَثْوى: المَكانُ الَّذِي يَكُونُ مَقَرَّ الإنْسانِ ومَأْواهُ، مِن قَوْلِهِمْ: ثَوى يَثْوِي ثَوِيًّا، وجَمْعُ المَثْوى مَثاوِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب