الباحث القرآني
(p-٢٢)قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وكَأيِّنْ مِن نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وهَنُوا لِما أصابَهم في سَبِيلِ اللَّهِ وما ضَعُفُوا وما اسْتَكانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ﴾
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى مِن تَمامِ تَأْدِيبِهِ قالَ لِلْمُنْهَزِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ: إنَّ لَكم بِالأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ وأتْباعِهِمْ أُسْوَةً حَسَنَةً، فَلَمّا كانَتْ طَرِيقَةُ أتْباعِ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ الصَّبْرَ عَلى الجِهادِ وتَرْكَ الفِرارِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِكم هَذا الفِرارُ والِانْهِزامُ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ”وكائِنْ“ عَلى وزْنِ كاعِنٍ مَمْدُودًا مَهْمُوزًا مُخَفَّفًا، وقَرَأ الباقُونَ ”كَأيِّنْ“ مَشْدُودًا بِوَزْنٍ كَعَيِّنٍ وهي لُغَةُ قُرَيْشٍ، ومِنَ اللُّغَةِ الأُولى قَوْلُ جَرِيرٍ:
؎وكائِنْ بِالأباطِحِ مِن صَدِيقٍ يَرانِي لَوْ أُصِيبُ هو المُصابُ
وأنْشَدَ المُفَضَّلُ:
؎وكائِنْ تَرى في الحَيِّ مِن ذِي قَرابَةٍ
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو (قُتِلَ مَعَهُ) والباقُونَ ﴿قاتَلَ مَعَهُ﴾ فَعَلى القِراءَةِ الأُولى يَكُونُ المَعْنى أنَّ كَثِيرًا مِنَ الأنْبِياءِ قُتِلُوا والَّذِينَ بَقَوْا بَعْدَهم ما وهَنُوا في دِينِهِمْ، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلى جِهادِ عَدُوِّهِمْ ونُصْرَةِ دِينِهِمْ، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حالُكم يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ هَكَذا. قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: والوَقْفُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ عَلى قَوْلِهِ: (قُتِلَ) وقَوْلُهُ: ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ حالٌ بِمَعْنى قُتِلَ حالَ ما كانَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ، أوْ يَكُونُ عَلى مَعْنى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، أيْ وكَأيِّنْ مِن نَبِيٍّ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قُتِلَ فَما وهَنَ الرِّبِّيُّونَ عَلى كَثْرَتِهِمْ، وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنْ يَكُونَ المَعْنى وكَأيِّنْ مِن نَبِيٍّ قُتِلَ مِن إخْوانِهِمْ، بَلْ مَضَوْا عَلى جِهادِ عَدُوِّهِمْ، فَقَدْ كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حالُكم كَذَلِكَ، وحُجَّةُ هَذِهِ القِراءَةِ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ حِكايَةُ ما جَرى لِسائِرِ الأنْبِياءِ لِتَقْتَدِيَ هَذِهِ الأُمَّةُ بِهِمْ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿أفَإنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ﴾ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ المَذْكُورُ قَتْلَ سائِرِ الأنْبِياءِ لا قِتالَهم، ومَن قَرَأ ﴿قاتَلَ مَعَهُ﴾ فالمَعْنى: وكَمْ مِن نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ العَدَدُ الكَثِيرُ مِن أصْحابِهِ فَأصابَهم مِن عَدُوِّهِمْ قَرْحٌ فَما وهَنُوا؛ لِأنَّ الَّذِي أصابَهم إنَّما هو في سَبِيلِ اللَّهِ وطاعَتِهِ وإقامَةِ دِينِهِ ونُصْرَةِ رَسُولِهِ، فَكَذَلِكَ كانَ يَنْبَغِي أنْ تَفْعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ.
وحُجَّةُ هَذِهِ القِراءَةِ أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَرْغِيبُ الَّذِينَ كانُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في القِتالِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المَذْكُورُ هو القِتالَ. وأيْضًا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ قالَ: ما سَمِعْنا بِنَبِيٍّ قُتِلَ في القِتالِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أجْمَعُوا عَلى أنَّ مَعْنى ”كَأيِّنْ“ كَمْ، وتَأْوِيلُها التَّكْثِيرُ لِعَدَدِ الأنْبِياءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهم، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها﴾ [الحَجِّ: ٤٥] ﴿وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ أمْلَيْتُ لَها﴾ [الحَجِّ: ٤٨] والكافُ في ”كَأيِّنْ“ كافُ التَّشْبِيهِ دَخَلَتْ عَلى ”أيِّ“ الَّتِي هي لِلِاسْتِفْهامِ كَما دَخَلَتْ عَلى ”ذا“ مِن ”كَذا“ و”أنَّ“ مِن ”كَأنَّ“، ولا مَعْنى لِلتَّشْبِيهِ فِيهِ كَما لا مَعْنى لِلتَّشْبِيهِ في كَذا، تَقُولُ: لِي عَلَيْهِ كَذا وكَذا: مَعْناهُ لِي عَلَيْهِ عَدَدٌ ما، فَلا مَعْنى لِلتَّشْبِيهِ، إلّا أنَّها زِيادَةٌ لازِمَةٌ لا يَجُوزُ حَذْفُها، واعْلَمْ أنَّهُ لَمْ يَقَعْ لِلتَّنْوِينِ صُورَةٌ في الخَطِّ إلّا في هَذا الحَرْفِ خاصَّةً، وكَذا اسْتِعْمالُ هَذِهِ الكَلِمَةِ فَصارَتْ كَلِمَةً واحِدَةً مَوْضُوعَةً لِلتَّكْثِيرِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الرِّبِّيُّونَ الرَّبّانِيُّونَ، وقُرِئَ بِالحَرَكاتِ الثَّلاثِ والفَتْحِ عَلى (p-٢٣)القِياسِ، والضَّمُّ والكَسْرُ مِن تَغْيِيراتِ النِّسَبِ. وحَكى الواحِدِيُّ عَنِ الفَرّاءِ أنَّهُ قالَ: الرِّبِّيُّونَ: الأوَّلُونَ، وقالَ الزَّجّاجُ: هُمُ الجَماعاتُ الكَثِيرَةُ، الواحِدُ رِبِّيٌّ، قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أصْلُهُ مِنَ الرِّبَّةِ وهي الجَماعَةُ، يُقالُ: رِبِّيٌّ كَأنَّهُ نُسِبَ إلى الرِّبَّةِ. وقالَ الأخْفَشُ: الرِّبِّيُّونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الرَّبَّ، وطَعَنَ فِيهِ ثَعْلَبٌ، وقالَ: كانَ يَجِبُ أنْ يُقالَ: رَبِّيٌّ لِيَكُونَ مَنسُوبًا إلى الرَّبِّ، وأجابَ مَن نَصَرَ الأخْفَشَ وقالَ: العَرَبُ إذا نَسَبَتْ شَيْئًا إلى شَيْءٍ غَيَّرَتْ حَرَكَتَهُ، كَما يُقالُ: بِصْرِيٌّ في النَّسَبِ إلى البَصْرَةِ، ودُهْرِيٌّ في النِّسْبَةِ إلى الدَّهْرِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّبّانِيُّونَ الأئِمَّةُ والوُلاةُ، والرِّبِّيُّونَ الرَّعِيَّةُ، وهُمُ المُنْتَسِبُونَ إلى الرَّبِّ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى مَدَحَ هَؤُلاءِ الرِّبِّيِّينَ بِنَوْعَيْنِ: أوَّلًا بِصِفاتِ النَّفْيِ، وثانِيًا بِصِفاتِ الإثْباتِ، أمّا المَدْحُ بِصِفاتِ النَّفْيِ فَهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما وهَنُوا لِما أصابَهم في سَبِيلِ اللَّهِ وما ضَعُفُوا وما اسْتَكانُوا﴾ ولا بُدَّ مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ما وهَنُوا عِنْدَ قَتْلِ النَّبِيِّ وما ضَعُفُوا عَنِ الجِهادِ بَعْدَهُ وما اسْتَكانُوا لِلْعَدُوِّ، وهَذا تَعْرِيضٌ بِما أصابَهم مِنَ الوَهْنِ والِانْكِسارِ، عِنْدَ الإرْجافِ بِقَتْلِ رَسُولِهِمْ، وبِضَعْفِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ مُجاهَدَةِ المُشْرِكِينَ، واسْتِكانَتِهِمْ لِلْكَفّارِ حَتّى أرادُوا أنْ يَعْتَضِدُوا بِالمُنافِقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وطَلَبِ الأمانِ مِن أبِي سُفْيانَ، ويُحْتَمَلُ أيْضًا أنْ يُفَسَّرَ الوَهْنُ بِاسْتِيلاءِ الخَوْفِ عَلَيْهِمْ، ويُفَسَّرَ الضَّعْفُ بِأنْ يَضْعُفَ إيمانُهم، وتَقَعَ الشُّكُوكُ والشُّبُهاتُ في قُلُوبِهِمْ، والِاسْتِكانَةُ هي الِانْتِقالُ مِن دِينِهِمْ إلى دِينِ عَدُوِّهِمْ، وفِيهِ وجْهٌ ثالِثٌ وهو أنَّ الوَهْنَ ضَعْفٌ يَلْحَقُ القَلْبَ. والضَّعْفُ المُطْلَقُ هو اخْتِلالُ القُوَّةِ والقُدْرَةِ بِالجِسْمِ، والِاسْتِكانَةُ هي إظْهارُ ذَلِكَ العَجْزِ وذَلِكَ الضَّعْفِ، وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ حَسَنَةٌ مُحْتَمَلَةٌ، قالَ الواحِدِيُّ: الِاسْتِكانَةُ الخُضُوعُ، وهو أنْ يَسْكُنَ لِصاحِبِهِ لِيَفْعَلَ بِهِ ما يُرِيدُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ﴾ والمَعْنى أنَّ مَن صَبَرَ عَلى تَحَمُّلِ الشَّدائِدِ في طَرِيقِ اللَّهِ ولَمْ يُظْهِرِ الجَزَعَ والعَجْزَ والهَلَعَ فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ، ومَحَبَّةُ اللَّهِ تَعالى لِلْعَبْدِ عِبارَةٌ عَنْ إرادَةِ إكْرامِهِ وإعْزازِهِ وتَعْظِيمِهِ، والحُكْمِ لَهُ بِالثَّوابِ والجَنَّةِ، وذَلِكَ نِهايَةُ المَطْلُوبِ.
{"ayah":"وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُوا۟ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا۟ وَمَا ٱسۡتَكَانُوا۟ۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق