الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ ﴿واتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلى المُؤْمِنِينَ فِيما يَتَعَلَّقُ بِإرْشادِهِمْ إلى الأصْلَحِ لَهم في أمْرِ الدِّينِ وفي أمْرِ الجِهادِ، أتْبَعَ ذَلِكَ بِما يَدْخُلُ في الأمْرِ والنَّهْيِ والتَّرْغِيبِ والتَّحْذِيرِ فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا﴾ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ ابْتِداءَ كَلامٍ، ولا تَعَلُّقَ لَها بِما قَبْلَها، وقالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِما تَقَدَّمَ مِن جِهَةِ أنَّ المُشْرِكِينَ إنَّما أنْفَقُوا عَلى تِلْكَ العَساكِرِ أمْوالًا جَمَعُوها بِسَبَبِ الرِّبا، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَصِيرُ داعِيًا لِلْمُسْلِمِينَ إلى الإقْدامِ عَلى الرِّبا حَتّى يَجْمَعُوا المالَ ويُنْفِقُوهُ عَلى العَسْكَرِ فَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِانْتِقامِ مِنهم، فَلا جَرَمَ نَهاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: كانَ الرَّجُلُ في الجاهِلِيَّةِ إذا كانَ لَهُ عَلى إنْسانٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلى أجَلٍ، فَإذا جاءَ الأجَلُ ولَمْ يَكُنِ المَدْيُونُ واجِدًا لِذَلِكَ المالِ قالَ: زِدْ في المالِ حَتّى أزِيدَ في الأجَلِ فَرُبَّما جَعَلَهُ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ إذا حَلَّ الأجَلُ الثّانِي فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إلى آجالٍ كَثِيرَةٍ، فَيَأْخُذُ بِسَبَبِ تِلْكَ المِائَةِ أضْعافَها فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أضْعافًا مُضاعَفَةً﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: انْتَصَبَ (أضْعافًا) عَلى الحالِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ اتِّقاءَ اللَّهِ في هَذا النَّهْيِ واجِبٌ، وأنَّ الفَلاحَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، فَلَوْ أكَلَ ولَمْ يَتَّقِ زالَ الفَلاحُ وهَذا تَنْصِيصٌ عَلى أنَّ الرِّبا مِنَ الكَبائِرِ لا مِنَ الصَّغائِرِ. وتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: (لَعَلَّكم) تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢١] وتَمامُ الكَلامِ في الرِّبا أيْضًا مَرَّ في سُورَةِ البَقَرَةِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿واتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ وفِيهِ سُؤالاتٌ: الأوَّلُ: أنَّ النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (p-٤)تَكُونُ بِقَدْرِ كُفْرِهِمْ وذَلِكَ أزْيَدُ مِمّا يَسْتَحِقُّهُ المُسْلِمُ بِفِسْقِهِ، فَكَيْفَ قالَ: ﴿واتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ . والجَوابُ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: اتَّقُوا أنْ تَجْحَدُوا تَحْرِيمَ الرِّبا فَتَصِيرُوا كافِرِينَ. السُّؤالُ الثّانِي: ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ يَقْتَضِي أنَّها ما أُعِدَّتْ إلّا لِلْكافِرِينَ، وهَذا يَقْتَضِي القَطْعَ بِأنَّ أحَدًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لا يَدْخُلُ النّارَ وهو عَلى خِلافِ سائِرِ الآياتِ. والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ في النّارِ دَرَكاتٌ أُعِدَّ بَعْضُها لِلْكُفّارِ وبَعْضُها لِلْفُسّاقِ، فَقَوْلُهُ: ﴿النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ إشارَةٌ إلى تِلْكَ الدَّرَكاتِ المَخْصُوصَةِ الَّتِي أعَدَّها اللَّهُ لِلْكافِرِينَ، وهَذا لا يَمْنَعُ ثُبُوتَ دَرَكاتٍ أُخْرى في النّارِ أعَدَّها اللَّهُ لِغَيْرِ الكافِرِينَ. الثّانِي: أنَّ كَوْنَ النّارِ مُعَدَّةً لِلْكافِرِينَ، لا يَمْنَعُ دُخُولَ المُؤْمِنِينَ فِيها؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَ أكْثَرُ أهْلِ النّارِ هُمُ الكُفّارَ فَلِأجْلِ الغَلَبَةِ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّها مُعَدَّةٌ لَهم، كَما أنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: لِدابَّةٍ رَكِبَها لِحاجَةٍ مِنَ الحَوائِجِ، إنَّما أعْدَدْتُ هَذِهِ الدّابَّةَ لِلِقاءِ المُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ صادِقًا في ذَلِكَ وإنْ كانَ هو قَدْ رَكِبَها في تِلْكَ السّاعَةِ لِغَرَضٍ آخَرَ فَكَذا هاهُنا. الوَجْهُ الثّالِثُ في الجَوابِ: أنَّ القُرْآنَ كالسُّورَةِ الواحِدَةِ فَهَذِهِ الآيَةُ دَلَّتْ عَلى أنَّ النّارَ مُعَدَّةٌ لِلْكافِرِينَ، وسائِرُ الآياتِ دالَّةٌ أيْضًا عَلى أنَّها مُعَدَّةٌ لِمَن سَرَقَ وقَتَلَ وزَنى وقَذَفَ، ومِثالُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَألَهم خَزَنَتُها ألَمْ يَأْتِكم نَذِيرٌ﴾ [المُلْكِ: ٨] ولَيْسَ لِجَمِيعِ الكُفّارِ يُقالُ ذَلِكَ، وأيْضًا قالَ تَعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيها هم والغاوُونَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٩٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿إذْ نُسَوِّيكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٩٨] ولَيْسَ هَذا صِفَةَ جَمِيعِهِمْ ولَكِنْ لَمّا كانَتْ هَذِهِ الشَّرائِطُ مَذْكُورَةً في سائِرِ السُّوَرِ، كانَتْ كالمَذْكُورَةِ هاهُنا، فَكَذا فِيما ذَكَرْناهُ واللَّهُ أعْلَمُ. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ إثْباتُ كَوْنِها مُعَدَّةً لَهم ولا يَدُلُّ عَلى الحَصْرِ كَما أنَّ قَوْلَهُ: في الجَنَّةِ ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٣٣] لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَدْخُلُها سِواهم مِنَ الصِّبْيانِ والمَجانِينَ والحُورِ العِينِ. الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ المَقْصُودَ مِن وصْفِ النّارِ بِأنَّها أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ تَعْظِيمُ الزَّجْرِ، وذَلِكَ لِأنَّ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِاتِّقاءِ المَعاصِي إذا عَلِمُوا بِأنَّهم مَتى فارَقُوا التَّقْوى أُدْخِلُوا النّارَ المُعَدَّةَ لِلْكافِرِينَ، وقَدْ تَقَرَّرَ في عُقُولِهِمْ عِظَمُ عُقُوبَةِ الكُفّارِ، كانَ انْزِجارُهم عَنِ المَعاصِي أتَمَّ، وهَذا بِمَنزِلَةِ أنْ يُخَوِّفَ الوالِدُ ولَدَهُ بِأنَّكَ إنْ عَصَيْتَنِي أدْخَلْتُكَ دارَ السِّباعِ، ولا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّ تِلْكَ الدّارَ لا يَدْخُلُها غَيْرُهم فَكَذا هاهُنا. السُّؤالُ الثّالِثُ: هَلْ تَدُلُّ الآيَةُ عَلى أنَّ النّارَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ أمْ لا ؟ الجَوابُ: نَعَمْ لِأنَّ قَوْلَهُ: (أُعِدَّتْ) إخْبارٌ عَنِ الماضِي فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ ذَلِكَ الشَّيْءُ في الوُجُودِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ ولَمّا ذَكَرَ الوَعِيدَ ذَكَرَ الوَعْدَ بَعْدَهُ عَلى ما هو العادَةُ المُسْتَمِرَّةُ في القُرْآنِ، وقالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ يَسارٍ: هَذِهِ الآيَةُ مُعاتَبَةٌ لِلَّذِينِ عَصَوُا الرَّسُولَ ﷺ حِينَ أمَرَهم بِما أمَرَهم يَوْمَ أُحُدٍ، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ حُصُولَ الرَّحْمَةِ مَوْقُوفٌ عَلى طاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وهَذا عامٌّ فَيَدُلُّ الظّاهِرُ عَلى أنَّ مَن عَصى اللَّهَ ورَسُولَهُ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ أنَّهُ لَيْسَ أهْلًا لِلرَّحْمَةِ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى قَوْلِ أصْحابِ الوَعِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب