الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ تَمْسَسْكم حَسَنَةٌ تَسُؤْهم وإنْ تُصِبْكم سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن تَمامِ وصْفِ المُنافِقِينَ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهم مَعَ ما لَهم مِنَ الصِّفاتِ الذَّمِيمَةِ والأفْعالِ القَبِيحَةِ مُتَرَقِّبُونَ نُزُولَ نَوْعٍ مِنَ المِحْنَةِ والبَلاءِ بِالمُؤْمِنِينَ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: المَسُّ أصْلُهُ بِاليَدِ ثُمَّ يُسَمّى كُلُّ ما يَصِلُ إلى الشَّيْءِ (ماسًّا) عَلى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ، فَيُقالُ: فُلانٌ مَسَّهُ التَّعَبُ والنَّصَبُ، قالَ تَعالى: ﴿وما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨] وقالَ: ﴿وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ في البَحْرِ﴾ [الإسراء: ٦٧] قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: المَسُّ هاهُنا بِمَعْنى الإصابَةِ، قالَ تَعالى: ﴿إنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهم وإنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ [التوبة: ٥٠] وقَوْلُهُ: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩] وقالَ: ﴿إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾ ﴿وإذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: ٢٠] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ مِنَ الحَسَنَةِ هاهُنا مَنفَعَةُ الدُّنْيا عَلى اخْتِلافِ أحْوالِها، فَمِنها صِحَّةُ البَدَنِ وحُصُولُ الخِصْبِ والفَوْزُ بِالغَنِيمَةِ والِاسْتِيلاءُ عَلى الأعْداءِ وحُصُولُ المَحَبَّةِ والأُلْفَةِ بَيْنَ الأحْبابِ، والمُرادُ بِالسَّيِّئَةِ أضْدادُها، وهي المَرَضُ والفَقْرُ والهَزِيمَةُ والِانْهِزامُ مِنَ العَدُوِّ وحُصُولُ التَّفَرُّقِ بَيْنَ الأقارِبِ، والقَتْلُ والنَّهْبُ والغارَةُ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهم يَحْزَنُونَ ويَغْتَمُّونَ بِحُصُولِ نَوْعٍ مِن أنْواعِ الحَسَنَةِ لِلْمُسْلِمِينَ ويَفْرَحُونَ بِحُصُولِ نَوْعٍ مِن أنْواعِ السَّيِّئَةِ لَهم.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُقالُ ساءَ الشَّيْءُ يَسُوءُ فَهو سَيِّئٌ، والأُنْثى سَيِّئَةٌ أيْ قَبُحَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ساءَ ما يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٦٦] والسَّوْأى ضِدُّ الحُسْنى.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ تَصْبِرُوا﴾ يَعْنِي عَلى طاعَةِ اللَّهِ وعَلى ما يَنالُكم فِيها مِن شِدَّةٍ وغَمٍّ (وتَتَّقُوا) كُلَّ ما نَهاكم عَنْهُ وتَتَوَكَّلُوا في أُمُورِكم عَلى اللَّهِ ﴿لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ وأبُو عَمْرٍو: (لا يَضِرْكم) بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الضّادِ وسُكُونِ الرّاءِ، وهو مِن ضارَهُ يَضِيرُهُ، ويَضُورُهُ ضَوْرًا إذا ضَرَّهُ، والباقُونَ ﴿لا يَضُرُّكُمْ﴾ بِضَمِّ الضّادِ والرّاءِ المُشَدَّدَةِ وهو مِنَ الضُّرِّ، وأصْلُهُ يَضْرُرْكم جَزْمًا، فَأُدْغِمَتِ الرّاءُ في الرّاءِ ونُقِلَتْ ضَمَّةُ الرّاءِ الأُولى إلى الضّادِ وضُمَّتِ الرّاءُ الأخِيرَةُ اتِّباعًا لِأقْرَبِ الحَرَكاتِ وهي ضَمَّةُ الضّادِ، وقالَ بَعْضُهم: هو عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ تَقْدِيرُهُ: ولا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا إنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ورَوى المُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ (لا يَضُرَّكم) بِفَتْحِ الرّاءِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الكَيْدُ هو أنْ يَحْتالَ الإنْسانُ لِيُوقِعَ غَيْرَهُ في مَكْرُوهٍ، وابْنُ عَبّاسٍ فَسَّرَ الكَيْدَ هاهُنا بِالعَداوَةِ.
(p-١٧٨)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: (شَيْئًا) نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ أيْ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مَعْنى الآيَةِ: أنَّ كُلَّ مَن صَبَرَ عَلى أداءِ أوامِرِ اللَّهِ تَعالى واتَّقى كُلَّ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ كانَ في حِفْظِ اللَّهِ فَلا يَضُرُّهُ كَيْدُ الكافِرِينَ ولا حِيَلُ المُحْتالِينَ.
وتَحْقِيقُ الكَلامِ في ذَلِكَ هو أنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما خَلَقَ الخَلْقَ لِلْعُبُودِيَّةِ كَما قالَ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فَمَن وفى بِعَهْدِ العُبُودِيَّةِ في ذَلِكَ فاللَّهُ سُبْحانَهُ أكْرَمُ مِن أنْ لا يَفِيَ بِعَهْدِ الرُّبُوبِيَّةِ في حِفْظِهِ عَنِ الآفاتِ والمَخافاتِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٣] إشارَةٌ إلى أنَّهُ يُوَصِّلُ إلَيْهِ كُلَّ ما يَسُرُّهُ، وقالَ بَعْضُ الحُكَماءِ: إذا أرَدْتَ أنْ تَكْبِتَ مَن يَحْسُدُ فاجْتَهِدْ في اكْتِسابِ الفَضائِلِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قُرِئَ (بِما يَعْمَلُونَ) بِالياءِ عَلى سَبِيلِ المُغايَبَةِ بِمَعْنى أنَّهُ عالِمٌ بِما يَعْمَلُونَ في مُعاداتِكم فَيُعاقِبُهم عَلَيْهِ، ومَن قَرَأ بِالتّاءِ عَلى سَبِيلِ المُخاطَبَةِ، فالمَعْنى أنَّهُ عالِمٌ مُحِيطٌ بِما تَعْمَلُونَ مِنَ الصَّبْرِ والتَّقْوى فَيَفْعَلُ بِكم ما أنْتُمْ أهْلُهُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إطْلاقُ لَفْظِ المُحِيطِ عَلى اللَّهِ مَجازٌ، لِأنَّ المُحِيطَ بِالشَّيْءِ هو الَّذِي يُحِيطُ بِهِ مِن كُلِّ جَوانِبِهِ، وذَلِكَ مِن صِفاتِ الأجْسامِ، لَكِنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ عالِمًا بِكُلِّ الأشْياءِ قادِرًا عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، جازَ في مَجازِ اللُّغَةِ أنَّهُ مُحِيطٌ بِها، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ مِن ورائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: ٢٠] وقالَ: ﴿واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾ [البقرة: ١٩] وقالَ: ﴿ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١١] وقالَ: ﴿وأحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وأحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ [الجن: ٢٨] .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إنَّما قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ ولَمْ يَقُلْ إنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِما يَعْمَلُونَ لِأنَّهم يُقَدِّمُونَ الأهَمَّ والَّذِي هم بِشَأْنِهِ أعْنى، ولَيْسَ المَقْصُودُ هاهُنا بَيانَ كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ جَمِيعَ أعْمالِهِمْ مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعالى ومُجازِيهِمْ عَلَيْها فَلا جَرَمَ قَدْ ذَكَرَ العَمَلَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةࣱ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَیِّئَةࣱ یَفۡرَحُوا۟ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ لَا یَضُرُّكُمۡ كَیۡدُهُمۡ شَیۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











