الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهم ولا أوْلادُهم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ الآياتِ مَرَّةً أحْوالَ الكافِرِينَ في كَيْفِيَّةِ العِقابِ، وأُخْرى أحْوالَ المُؤْمِنِينَ في الثَّوابِ جامِعًا بَيْنَ الزَّجْرِ والتَّرْغِيبِ والوَعْدِ والوَعِيدِ، فَلَمّا وصَفَ مَن آمَنَ مِنَ الكُفّارِ بِما تَقَدَّمَ مِنَ الصِّفاتِ الحَسَنَةِ أتْبَعَهُ تَعالى بِوَعِيدِ الكُفّارِ، فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهم أمْوالُهم ولا أوْلادُهُمْ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قَوْلانِ. الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ بَعْضُ الكُفّارِ ثُمَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا. أحَدُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرَ، وذَلِكَ لِأنَّ مَقْصُودَ رُؤَساءِ اليَهُودِ في مُعانَدَةِ الرَّسُولِ ما كانَ إلّا المالَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١] . وثانِيها: أنَّها نَزَلَتْ في مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَإنَّ أبا جَهْلٍ كانَ كَثِيرَ الِافْتِخارِ بِمالِهِ ولِهَذا السَّبَبِ نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ: ﴿وكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هم أحْسَنُ أثاثًا ورِئْيًا﴾ [مريم: ٧٤] . وقَوْلُهُ: ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ ﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ [العلق: ١٧، ١٨] . وثالِثُها: أنَّها نَزَلَتْ في أبِي سُفْيانَ، فَإنَّهُ أنْفَقَ مالًا كَثِيرًا عَلى المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وأُحُدٍ في عَداوَةِ النَّبِيِّ ﷺ . والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الآيَةَ عامَّةٌ في حَقِّ جَمِيعِ الكُفّارِ، وذَلِكَ لِأنَّهم كُلَّهم كانُوا يَتَعَزَّزُونَ بِكَثْرَةِ الأمْوالِ، وكانُوا يُعَيِّرُونَ الرَّسُولَ ﷺ وأتْباعَهُ بِالفَقْرِ، وكانَ مِن جُمْلَةِ شُبَهِهِمْ أنْ قالُوا: لَوْ كانَ مُحَمَّدٌ عَلى الحَقِّ لَما تَرَكَهُ رَبُّهُ في هَذا الفَقْرِ والشِّدَّةِ، ولِأنَّ اللَّفْظَ عامٌّ، ولا دَلِيلَ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ فَوَجَبَ إجْراؤُهُ عَلى عُمُومِهِ، ولِلْأوَّلِينَ أنْ يَقُولُوا: إنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ﴾ فالضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (يُنْفِقُونَ) عائِدٌ إلى هَذا المَوْضِعِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ: (يُنْفِقُونَ) مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الكُفّارِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هَذا أيْضًا مَخْصُوصًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما خَصَّ تَعالى الأمْوالَ والأوْلادَ بِالذِّكْرِ لِأنَّ أنْفَعَ الجَماداتِ هو الأمْوالُ وأنْفَعَ الحَيَواناتِ هو الوَلَدُ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ الكافِرَ لا يَنْتَفِعُ بِهِما ألْبَتَّةَ في الآخِرَةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ انْتِفاعِهِ (p-١٦٩)بِسائِرِ الأشْياءِ بِطَرِيقِ الأوْلى، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ ﴿إلّا مَن أتى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: ٨٨، ٨٩] وقَوْلُهُ: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٤٨] الآيَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ﴾ [آل عمران: ٩١] وقَوْلُهُ: ﴿وما أمْوالُكم ولا أوْلادُكم بِالَّتِي تُقَرِّبُكم عِنْدَنا زُلْفى﴾ [سبأ: ٣٧] ولَمّا بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ لا انْتِفاعَ لَهم بِأمْوالِهِمْ ولا بِأوْلادِهِمْ، قالَ: ﴿وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ . واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ فُسّاقَ أهْلِ الصَّلاةِ لا يَبْقَوْنَ في النّارِ أبَدًا فَقالُوا قَوْلُهُ: ﴿وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ﴾ كَلِمَةٌ تُفِيدُ الحَصْرَ فَإنَّهُ يُقالُ: أُولَئِكَ أصْحابُ زَيْدٍ لا غَيْرُهم وهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِهِ لا غَيْرُهم ولَمّا أفادَتْ هَذِهِ الكَلِمَةُ مَعْنى الحَصْرِ ثَبَتَ أنَّ الخُلُودَ في النّارِ لَيْسَ إلّا لِلْكافِرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب