الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أيْنَ ما ثُقِفُوا إلّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهم إنْ قاتَلُوا رَجَعُوا مَخْذُولِينَ غَيْرَ مَنصُورِينَ ذَكَرَ أنَّهم مَعَ ذَلِكَ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ ذَكَرْنا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، والمَعْنى جُعِلَتِ الذِّلَّةُ مُلْصَقَةً بِهِمْ كالشَّيْءِ يُضْرَبُ عَلى الشَّيْءِ فَيَلْصِقُ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُهم: ما هَذا عَلَيَّ بِضَرْبَةِ لازِبٍ، ومِنهُ تَسْمِيَةُ الخَراجِ ضَرِيبَةً. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الذِّلَّةُ هي الذُّلُّ، وفي المُرادِ بِهَذا الذُّلِّ أقْوالٌ: الأوَّلُ: وهو الأقْوى أنَّ المُرادَ أنْ يُحارَبُوا ويُقْتَلُوا وتُغْنَمَ أمْوالُهم وتُسْبى ذَرارِيهِمْ وتُمْلَكَ أراضِيهِمْ فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واقْتُلُوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ والمُرادُ إلّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وعِصْمَةٍ وذِمامٍ مِنَ اللَّهِ ومِنَ المُؤْمِنِينَ لِأنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَزُولُ الأحْكامُ، فَلا قَتْلَ ولا غَنِيمَةَ ولا سَبْيَ. الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الذِّلَّةَ هي الجِزْيَةُ، وذَلِكَ لِأنَّ ضَرْبَ الجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ الذِّلَّةَ والصَّغارَ. والثّالِثُ: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الذِّلَّةِ أنَّكَ لا تَرى فِيهِمْ مَلِكًا قاهِرًا ولا رَئِيسًا مُعْتَبَرًا، بَلْ هم مُسْتَخَفُّونَ في جَمِيعِ البِلادِ ذَلِيلُونَ مَهِينُونَ. واعْلَمْ أنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ المُرادُ مِنَ الذِّلَّةِ هي الجِزْيَةُ فَقَطْ أوْ هَذِهِ المَهانَةُ فَقَطْ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ يَقْتَضِي زَوالَ تِلْكَ الذِّلَّةِ عِنْدَ حُصُولِ هَذا الحَبْلِ، والجِزْيَةُ والصَّغارُ والدَّناءَةُ لا يَزُولُ شَيْءٌ مِنها عِنْدَ حُصُولِ هَذا الحَبْلِ، فامْتَنَعَ حَمْلُ الذِّلَّةِ عَلى الجِزْيَةِ فَقَطْ، وبَعْضُ مَن نَصَرَ هَذا القَوْلَ أجابَ عَنْ هَذا السُّؤالِ بِأنْ قالَ: إنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ، وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، فَقالَ: اليَهُودُ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، سَواءٌ كانُوا عَلى عَهْدٍ مِنَ اللَّهِ أوْ لَمْ يَكُونُوا فَلا يَخْرُجُونَ بِهَذا الِاسْتِثْناءِ مِنَ الذِّلَّةِ إلى العِزَّةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿إلّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ قَدْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا ضَعِيفٌ لِأنَّ حَمْلَ لَفْظِ (إلّا) عَلى (لَكِنْ) خِلافُ الظّاهِرِ، وأيْضًا إذا حَمَلْنا الكَلامَ عَلى أنَّ المُرادَ: لَكِنْ قَدْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ لَمْ يَتِمَّ هَذا القَدْرُ فَلا بُدَّ مِن إضْمارِ الشَّيْءِ الَّذِي يَعْتَصِمُونَ بِهَذِهِ الأشْياءِ لِأجْلِ الحَذَرِ عَنْهُ، والإضْمارُ خِلافُ الأصْلِ، فَلا يُصارُ إلى هَذِهِ الأشْياءِ إلّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإذا كانَ لا ضَرُورَةَ هاهُنا إلى ذَلِكَ كانَ المَصِيرُ إلَيْهِ غَيْرَ جائِزٍ، بَلْ هَهُنا وجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يُحْمَلَ الذِّلَّةُ عَلى كُلِّ هَذِهِ الأشْياءِ أعْنِي: القَتْلَ، والأسْرَ، وسَبْيَ (p-١٦١)الذَّرارِيِّ، وأخْذَ المالِ، وإلْحاقَ الصَّغارِ، والمَهانَةَ، ويَكُونُ فائِدَةُ الِاسْتِثْناءِ هو أنَّهُ لا يَبْقى مَجْمُوعُ هَذِهِ الأحْكامِ، وذَلِكَ لا يُنافِي بَقاءَ بَعْضِ هَذِهِ الأحْكامِ، وهو أخْذُ القَلِيلِ مِن أمْوالِهِمُ الَّذِي هو مُسَمًّى بِالجِزْيَةِ، وبَقاءُ المَهانَةِ والحَقارَةِ والصَّغارِ فِيهِمْ، فَهَذا هو القَوْلُ في هَذا المَوْضِعِ، وقَوْلُهُ: ﴿أيْنَما ثُقِفُوا﴾ أيْ وُجِدُوا وصُودِفُوا، يُقالُ: ثَقِفْتُ فُلانًا في الحَرْبِ أيْ أدْرَكْتُهُ، وقَدْ مَضى الكَلامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إلّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الفَرّاءُ: التَّقْدِيرُ إلّا أنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، وأنْشَدَ عَلى ذَلِكَ: ؎رَأتْنِي بِحَبْلِها فَصَدَّتْ مَخافَةً وفي الحَبْلِ رَوْعاءُ الفُؤادِ فَرُوقُ واعْتَرَضُوا عَلَيْهِ فَقالُوا: لا يَجُوزُ حَذْفُ المَوْصُولِ وإبْقاءُ صِلَتِهِ، لِأنَّ المَوْصُولَ هو الأصْلُ والصِّلَةُ فَرْعٌ فَيَجُوزُ حَذْفُ الفَرْعِ لِدَلالَةِ الأصْلِ عَلَيْهِ، أمّا حَذْفُ الأصْلِ وإبْقاءُ الفَرْعِ فَهو غَيْرُ جائِزٍ. الثّانِي: أنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ واقِعٌ عَلى طَرِيقِ المَعْنى، لِأنَّ مَعْنى ضَرْبِ الذِّلَّةِ لُزُومُها إيّاهم عَلى أشَدِّ الوُجُوهِ بِحَيْثُ لا تُفارِقُهم ولا تَنْفَكُّ عَنْهم، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تَنْفَكُّ عَنْهُمُ الذِّلَّةُ، ولَنْ يَتَخَلَّصُوا إلّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ. الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ الباءُ بِمَعْنى (مَعَ) كَقَوْلِهِمْ: اخْرُجْ بِنا نَفْعَلْ كَذا، أيْ مَعَنا، والتَّقْدِيرُ: إلّا مَعَ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: المُرادُ مِن حَبْلِ اللَّهِ عَهْدُهُ، وقَدْ ذَكَرْنا فِيما تَقَدَّمَ أنَّ العَهْدَ إنَّما سُمِّيَ بِالحَبْلِ لِأنَّ الإنْسانَ لَمّا كانَ قَبْلَ العَهْدِ خائِفًا، صارَ ذَلِكَ الخَوْفُ مانِعًا لَهُ مِنَ الوُصُولِ إلى مَطْلُوبِهِ، فَإذا حَصَلَ العَهْدُ تَوَصَّلَ بِذَلِكَ العَهْدِ إلى الوُصُولِ إلى مَطْلُوبِهِ، فَصارَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالحَبْلِ الَّذِي مَن تَمَسَّكَ بِهِ تَخَلَّصَ مِن خَوْفِ الضَّرَرِ. فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ عَطَفَ عَلى حَبْلِ اللَّهِ حَبْلًا مِنَ النّاسِ وذَلِكَ يَقْتَضِي المُغايَرَةَ فَكَيْفَ هَذِهِ المُغايَرَةُ ؟ قُلْنا: قالَ بَعْضُهم: حَبْلُ اللَّهِ هو الإسْلامُ، وحَبْلُ النّاسِ هو العَهْدُ والذِّمَّةُ، وهَذا بَعِيدٌ لِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ ذَلِكَ لَقالَ: أوْ حَبْلٍ مِنَ النّاسِ، وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ بِكِلا الحَبْلَيْنِ العَهْدُ والذِّمَّةُ والأمانُ، وإنَّما ذَكَرَ تَعالى الحَبْلَيْنِ لِأنَّ الأمانَ المَأْخُوذَ مِنَ المُؤْمِنِينَ هو الأمانُ المَأْخُوذُ بِإذْنِ اللَّهِ وهَذا عِنْدِي أيْضًا ضَعِيفٌ، والَّذِي عِنْدِي فِيهِ أنَّ الأمانَ الحاصِلَ لِلذِّمِّيِّ قِسْمانِ: أحَدُهُما: الَّذِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وهو أخْذُ الجِزْيَةِ. والثّانِي: الَّذِي فُوِّضَ إلى رَأْيِ الإمامِ فَيُزِيدُ فِيهِ تارَةً ويُنْقِصُ بِحَسَبِ الِاجْتِهادِ. فالأوَّلُ: هو المُسَمّى بِحَبْلِ اللَّهِ. والثّانِي: هو المُسَمّى بِحَبْلِ المُؤْمِنِينَ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ مَعْناهُ: أنَّهم مَكَثُوا، ولَبِثُوا ودامُوا في غَضَبِ اللَّهِ، وأصْلُ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ البَوْءِ وهو المَكانُ، ومِنهُ: تَبَوَّأ فُلانٌ مَنزِلَ كَذا وبَوَّأْتُهُ إيّاهُ، والمَعْنى أنَّهم مَكَثُوا في غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وحَلُّوا فِيهِ، وسَواءٌ قَوْلُكَ: حَلَّ بِهِمُ الغَضَبُ وحَلُّوا بِهِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ﴾ والأكْثَرُونَ حَمَلُوا المَسْكَنَةَ عَلى الجِزْيَةِ وهو قَوْلُ الحَسَنِ، قالَ: وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى أخْرَجَ المَسْكَنَةَ عَنْ الِاسْتِثْناءِ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّها باقِيَةٌ عَلَيْهِمْ غَيْرُ زائِلَةٍ عَنْهم، والباقِي عَلَيْهِمْ لَيْسَ إلّا الجِزْيَةَ، وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ بِالمَسْكَنَةِ أنَّ اليَهُودِيَّ يُظْهِرُ مِن نَفْسِهِ الفَقْرَ وإنْ كانَ غَنِيًّا مُوسِرًا، وقالَ بَعْضُهم: هَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِأنَّهُ جَعَلَ اليَهُودَ أرْزاقًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَصِيرُونَ مَساكِينَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى (p-١٦٢)لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الأنْواعَ مِنَ الوَعِيدِ قالَ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى ألْصَقَ بِاليَهُودِ ثَلاثَةَ أنْواعٍ مِنَ المَكْرُوهاتِ: أوَّلُها: جَعَلَ الذِّلَّةَ لازِمَةً لَهم. وثانِيها: جَعَلَ غَضَبَ اللَّهِ لازِمًا لَهم. وثالِثُها: جَعَلَ المَسْكَنَةَ لازِمَةً لَهم، ثُمَّ بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ العِلَّةَ لِإلْصاقِ هَذِهِ الأشْياءِ المَكْرُوهَةِ بِهِمْ هي: أنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: هَذِهِ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ إنَّما التَصَقَتْ بِاليَهُودِ بَعْدَ ظُهُورِ دَوْلَةِ الإسْلامِ، والَّذِينَ قَتَلُوا الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ هُمُ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِأدْوارٍ وأعْصارٍ، فَعَلى هَذا المَوْضِعِ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ العِلَّةُ وهو قَتْلُ الأنْبِياءِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ المَعْلُولُ الَّذِي هو الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ، والمَوْضِعُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ هَذا المَعْلُولُ لَمْ تَحْصُلْ فِيهِ العِلَّةُ، فَكانَ الإشْكالُ لازِمًا. والجَوابُ عَنْهُ: أنَّ هَؤُلاءِ المُتَأخِّرِينَ وإنْ كانَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهم قَتْلُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لَكِنَّهم كانُوا راضِينَ بِذَلِكَ، فَإنَّ أسْلافَهم هُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا الأنْبِياءَ وهَؤُلاءِ المُتَأخِّرُونَ كانُوا راضِينَ بِفِعْلِ أسْلافِهِمْ، فَنَسَبَ ذَلِكَ الفِعْلَ إلَيْهِمْ مِن حَيْثُ كانَ ذَلِكَ الفِعْلُ القَبِيحُ فِعْلًا لِآبائِهِمْ وأسْلافِهِمْ مَعَ أنَّهم كانُوا مُصَوِّبِينَ لِأسْلافِهِمْ في تِلْكَ الأفْعالِ. السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ كُرِّرَ قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا﴾ وما الحِكْمَةُ فِيهِ ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، لِأنَّ التَّأْكِيدَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ أقْوى مِنَ المُؤَكَّدِ، والعِصْيانُ أقَلُّ حالًا مِنَ الكُفْرِ فَلَمْ يَجُزْ تَأْكِيدُ الكُفْرِ بِالعِصْيانِ ؟ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ عِلَّةَ الذِّلَّةِ والغَضَبِ والمَسْكَنَةِ هي الكُفْرُ وقَتْلُ الأنْبِياءِ، وعِلَّةُ الكُفْرِ وقَتْلُ الأنْبِياءِ هي المَعْصِيَةُ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا تَوَغَّلُوا في المَعاصِي والذُّنُوبِ فَكانَتْ ظُلُماتُ المَعاصِي تَتَزايَدُ حالًا فَحالًا، ونُورُ الإيمانِ يَضْعُفُ حالًا فَحالًا، ولَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إلى أنْ بَطَلَ نُورُ الإيمانِ وحَصَلَتْ ظُلْمَةُ الكُفْرِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤] فَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا﴾ إشارَةٌ إلى عِلَّةِ العِلَّةِ ولِهَذا المَعْنى قالَ أرْبابُ المُعامَلاتِ: مَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ الآدابِ وقَعَ في تَرْكِ السُّنَنِ، ومَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ السُّنَنِ وقَعَ في تَرْكِ الفَرِيضَةِ، ومَنِ ابْتُلِيَ بِتَرْكِ الفَرِيضَةِ وقَعَ في اسْتِحْقارِ الشَّرِيعَةِ، ومَنِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ وقَعَ في الكُفْرِ. الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ مَن تَقَدَّمَ مِنهم، ويُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا﴾ مَن حَضَرَ مِنهم في زَمانِ الرَّسُولِ ﷺ، وعَلى هَذا لا يَلْزَمُ التَّكْرارُ، فَكَأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ عِلَّةَ عُقُوبَةِ مَن تَقَدَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ مَن تَأخَّرَ لَمّا تَبِعَ مَن تَقَدَّمَ كانَ لِأجْلِ مَعْصِيَتِهِ وعَداوَتِهِ مُسْتَوْجِبًا لِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ حَتّى يَظْهَرَ لِلْخَلْقِ أنَّ ما أنْزَلَهُ اللَّهُ بِالفَرِيقَيْنِ مِنَ البَلاءِ والمِحْنَةِ لَيْسَ إلّا مِن بابِ العَدْلِ والحِكْمَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب