الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ أفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ وبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ التَّفْسِيرُ ظاهِرٌ، وإنَّما الدَّقِيقُ وجْهُ تَعَلُّقِ الآيَةِ بِما قَبْلَها، فَنَقُولُ: الإنْسانُ في البَحْرِ يَكُونُ عَلى أخْوَفِ ما يَكُونُ، وفي بَيْتِهِ يَكُونُ عَلى آمَنِ ما يَكُونُ، لا سِيَّما إذا كانَ بَيْتُهُ في بَلَدٍ حَصِينٍ فَلَمّا ذَكَرَ اللَّهُ المُشْرِكِينَ حالَهم عِنْدَ الخَوْفِ الشَّدِيدِ ورَأوْا أنْفُسَهم في تِلْكَ الحالَةِ راجِعَةً إلى اللَّهِ تَعالى ذَكَّرَهم حالَهم عِنْدَ الأمْنِ العَظِيمِ وهي كَوْنُهم في مَكَّةَ فَإنَّها مَدِينَتُهم وبَلَدُهم وفِيها سُكْناهم ومَوْلِدُهم، وهي حَصِينٌ بِحِصْنِ اللَّهِ حَيْثُ كُلُّ مَن حَوْلَها يَمْتَنِعُ مِن قِتالِ مَن حَصَلَ فِيها، والحُصُولُ فِيها يَدْفَعُ الشُّرُورَ عَنِ النُّفُوسِ ويَكُفُّها، يَعْنِي أنَّكم في أخْوَفِ ما كُنْتُمْ دَعَوْتُمُ اللَّهَ وفي آمَنِ ما حَصَلْتُمْ عَلَيْهِ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ، وهَذا مُتَناقِضٌ؛ لِأنَّ دُعاءَكم في ذَلِكَ الوَقْتِ عَلى سَبِيلِ الإخْلاصِ ما كانَ إلّا لِقَطْعِكم بِأنَّ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ لا غَيْرُ فَهَذِهِ النِّعْمَةُ العَظِيمَةُ الَّتِي حَصَلَتْ وقَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِأنَّها لا تَكُونُ إلّا مِنَ اللَّهِ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِها ؟ والأصْنامُ الَّتِي قَطَعْتُمْ في حالِ الخَوْفِ أنْ لا أمْنَ مِنها كَيْفَ آمَنتُمْ بِها في حالِ الأمْنِ ؟ * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُ ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكافِرِينَ﴾ لَمّا بَيَّنَ اللَّهُ الأُمُورَ عَلى الوَجْهِ المَذْكُورِ ولَمْ يُؤْمِن بِهِ أحَدٌ بَيَّنَ أنَّهم أظْلَمُ مَن يَكُونُ؛ لِأنَّ الظُّلْمَ عَلى ما بَيَّنَ وضْعُ الشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ، فَإذا وضَعَ واحِدٌ شَيْئًا في مَوْضِعٍ لَيْسَ هو مَوْضِعَهُ يَكُونُ ظالِمًا، فَإذا وضَعَهُ في مَوْضِعٍ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ يَكُونُ أظْلَمُ؛ لِأنَّ عَدَمَ الإمْكانِ أقْوى مِن عَدَمِ الحُصُولِ؛ لِأنَّ كُلَّ ما لا يُمْكِنُ لا يَحْصُلُ، ولَيْسَ كُلُّ ما لا يَحْصُلُ لا يُمْكِنُ، فاللَّهُ تَعالى لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ وجَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فَلَوْ كانَ ذَلِكَ في حَقِّ مَلِكٍ مُسْتَقِلٍّ في المُلْكِ لَكانَ ظُلْمًا يَسْتَحِقُّ مِنَ المَلِكِ العِقابَ الألِيمَ، فَكَيْفَ إذا جُعِلَ الشَّرِيكُ لِمَن لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، وأيْضًا مَن كَذَّبَ صادِقًا يَجُوزُ عَلَيْهِ الكَذِبُ يَكُونُ ظُلْمًا فَمَن يُكَذِّبُ صادِقًا لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الكَذِبُ كَيْفَ يَكُونُ حالُهُ ؟ فَإذًا لَيْسَ أظْلَمُ مِمَّنْ يَكْذِبُ عَلى اللَّهِ بِالشِّرْكِ ويُكَذِّبُ اللَّهَ في تَصْدِيقِ نَبِيِّهِ والنَّبِيَّ في رِسالَةِ رَبِّهِ والقُرْآنَ المُنَزَّلَ مِنَ اللَّهِ إلى الرَّسُولِ، والعَجَبُ مِنَ المُشْرِكِينَ أنَّهم قَبِلُوا المُتَّخَذَ مِن خَشَبٍ مَنحُوتٍ بِالإلَهِيَّةِ، ولَمْ يَقْبَلُوا ذا حَسَبٍ مَنعُوتًا بِالرِّسالَةِ، والآيَةُ تَحْتَمِلُ وجْهًا آخَرَ وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ التَّوْحِيدَ والرِّسالَةَ والحَشْرَ وقَرَّرَهُ ووَعَظَ وزَجَرَ قالَ لِنَبِيِّهِ لِيَقُولَ لِلنّاسِ: (p-٨٣)﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أيْ إنِّي جِئْتُ بِالرِّسالَةِ وقُلْتُ إنَّها مِنَ اللَّهِ وهَذا كَلامُ اللَّهِ، وأنْتُمْ كَذَّبْتُمُونِي فالحالُ دائِرٌ بَيْنَ أمْرَيْنِ، إمّا أنا مُفْتَرٍ مُتَنَبِّئٌ إنْ كانَ هَذا مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، أوْ أنْتُمْ مُكَذِّبُونَ بِالحَقِّ إنْ كانَ مِن عِنْدِهِ لَكِنِّي مُعْتَرِفٌ بِالعَذابِ الدّائِمِ عارِفٌ بِهِ فَلا أُقْدِمُ عَلى الِافْتِراءِ لِأنَّ: ﴿جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكافِرِينَ﴾ والمُتَنَبِّئُ كافِرٌ، وأنْتُمْ كَذَّبْتُمُونِي فَجَهَنَّمُ مَثْواكم إذْ هي مَثْوًى لِلْكافِرِينَ، وهَذا حِينَئِذٍ يَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب