الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهي الحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾
لَمّا بَيَّنَ أنَّهم يَعْتَرِفُونَ بِكَوْنِ اللَّهِ هو الخالِقَ وكَوْنِهِ هو الرَّزّاقَ وهم يَتْرُكُونَ عِبادَتَهُ ولا يَتْرُكُونَها إلّا لِزِينَةِ الحَياةِ الدُّنْيا بَيَّنَ أنَّ ما يَمِيلُونَ إلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِقَوْلِهِ: ﴿وما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَهْوٌ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ما الفَرْقُ بَيْنَ اللَّهْوِ واللَّعِبِ، حَتّى يَصِحَّ عَطْفُ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ ؟ فَنَقُولُ: الفَرْقُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ كُلَّ شُغُلٍ يُفْرَضُ، فَإنَّ المُكَلَّفَ إذا أقْبَلَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ الإعْراضُ عَنْ غَيْرِهِ، ومَن لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ هو اللَّهُ تَعالى، فالَّذِي يُقْبِلُ عَلى الباطِلِ لِلَذَّةٍ يَسِيرَةٍ زائِدَةٍ فِيهِ يَلْزَمُهُ الإعْراضُ عَنِ الحَقِّ، فالإقْبالُ عَلى الباطِلِ لَعِبٌ والإعْراضُ عَنِ الحَقِّ لَهْوٌ، فالدُّنْيا لَعِبٌ أيْ إقْبالٌ عَلى الباطِلِ، ولَهْوٌ أيْ إعْراضٌ عَنِ الحَقِّ.
الثّانِي: هو أنَّ المُشْتَغِلَ بِشَيْءٍ يُرَجِّحُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلى غَيْرِهِ لا مَحالَةَ حَتّى يَشْتَغِلَ بِهِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْجِيحُ عَلى وجْهِ التَّقْدِيمِ بِأنْ يَقُولَ أُقَدِّمُ هَذا وذَلِكَ الآخَرُ آتِي بِهِ بَعْدَهُ، أوْ يَكُونَ عَلى وجْهِ الِاسْتِغْراقِ فِيهِ والإعْراضِ عَنْ غَيْرِهِ بِالكُلِّيَّةِ، فالأوَّلُ لَعِبٌ والثّانِي لَهْوٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ هو أنَّ الشِّطْرَنْجَ والحَمامَ وغَيْرَهُما مِمّا يَقْرُبُ مِنهُما لا تُسَمّى آلاتِ المَلاهِي في العُرْفِ، والعُودُ وغَيْرُهُ مِنَ الأوْتارِ تُسَمّى آلاتِ المَلاهِي؛ لِأنَّها تُلْهِي الإنْسانَ عَنْ غَيْرِها لِما فِيها مِنَ اللَّذَّةِ الحالِيَّةِ، فالدُّنْيا لِلْبَعْضِ لَعِبٌ يَشْتَغِلُ بِهِ، ويَقُولُ بَعْدَ هَذا الشُّغْلِ أشْتَغِلُ بِالعِبادَةِ والآخِرَةِ، ولِلْبَعْضِ لَهْوٌ يَشْتَغِلُ بِهِ ويَنْسى الآخِرَةَ بِالكُلِّيَّةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ الأنْعامِ: ﴿وما الحَياةُ الدُّنْيا﴾ ولَمْ يَقُلْ وما هَذِهِ الحَياةُ وقالَ هَهُنا: (وما هَذِهِ) فَنَقُولُ؛ لِأنَّ المَذْكُورَ مِن قَبْلُ هَهُنا أمْرُ الدُّنْيا، حَيْثُ قالَ تَعالى: ﴿فَأحْيا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِها﴾ فَقالَ هَذِهِ والمَذْكُورُ قَبْلَها هُناكَ الآخِرَةُ حَيْثُ قالَ: ﴿ياحَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وهم يَحْمِلُونَ أوْزارَهم عَلى ظُهُورِهِمْ﴾ [الأنعام: ٣١] فَلَمْ تَكُنِ الدُّنْيا في ذَلِكَ الوَقْتِ في خاطِرِهِمْ فَقالَ: ﴿وما الحَياةُ الدُّنْيا﴾ .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ هُناكَ: ﴿إلّا لَعِبٌ ولَهْوٌ﴾ وقالَ هَهُنا: ﴿إلّا لَهْوٌ ولَعِبٌ﴾ فَنَقُولُ لَمّا كانَ المَذْكُورُ هُناكَ مِن قَبْلُ الآخِرَةَ وإظْهارَهم لِلْحَسْرَةِ، فَفي ذَلِكَ الوَقْتِ يَبْعُدُ الِاسْتِغْراقُ في الدُّنْيا بَلْ نَفْسُ الِاشْتِغالِ بِها، فَأخَّرَ الأبْعَدَ، وأمّا هَهُنا لَمّا كانَ المَذْكُورُ مِن قَبْلُ الدُّنْيا وهي خَدّاعَةٌ تَدْعُو النُّفُوسَ إلى الإقْبالِ عَلَيْها والِاسْتِغْراقِ (p-٨١)فِيها، اللَّهُمَّ إلّا لِمانِعٍ يَمْنَعُهُ مِنَ الِاسْتِغْراقِ فَيَشْتَغِلُ بِها مِن غَيْرِ اسْتِغْراقٍ فِيها، ولِعاصِمٍ يَعْصِمُهُ فَلا يَشْتَغِلُ بِها أصْلًا، فَكانَ هَهُنا الِاسْتِغْراقُ أقْرَبَ مِن عَدَمِهِ فَقَدَّمَ اللَّهْوَ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ هُناكَ: ﴿ولَلدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ﴾ [الأنعام: ٣٢] وقالَ هَهُنا: ﴿وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهي الحَيَوانُ﴾ فَنَقُولُ لَمّا كانَ الحالُ هُناكَ حالَ إظْهارِ الحَسْرَةِ ما كانَ المُكَلَّفُ يَحْتاجُ إلى رادِعٍ قَوِيٍّ فَقالَ الآخِرَةُ خَيْرٌ، ولَمّا كانَ هَهُنا الحالُ حالَ الِاشْتِغالِ بِالدُّنْيا احْتاجَ إلى رادِعٍ قَوِيٍّ فَقالَ لا حَياةَ إلّا حَياةُ الآخِرَةِ، وهَذا كَما أنَّ العاقِلَ إذا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْئانِ فَقالَ في أحَدِهِما هَذا خَيْرٌ مِن ذَلِكَ يَكُونُ هَذا تَرْجِيحًا فَحَسْبُ، ولَوْ قالَ هَذا جَيِّدٌ وهَذا الآخَرُ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَكُونُ تَرْجِيحًا مَعَ المُبالَغَةِ، فَكَذَلِكَ هَهُنا بالَغَ لِكَوْنِ المُكَلَّفِ مُتَوَغِّلًا فِيها.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ هُناكَ: ﴿خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٣٢] ولَمْ يَقُلْ هَهُنا إلّا لَهي الحَيَوانُ؛ لِأنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ لِلْمُتَّقِي فَحَسْبُ أيِ المُتَّقِي عَنِ الشِّرْكِ، وأمّا الكافِرُ فالدُّنْيا جَنَّتُهُ فَهي خَيْرٌ لَهُ مِنَ الآخِرَةِ، وأمّا كَوْنُ الآخِرَةِ باقِيَةً فِيها الحَياةُ الدّائِمَةُ فَلا يُخْتَصُّ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: كَيْفَ أُطْلِقَ الحَيَوانُ عَلى الدّارِ الآخِرَةِ مَعَ أنَّ الحَيَوانَ نامٍ مُدْرِكٌ ؟ فَنَقُولُ: الحَيَوانُ مَصْدَرُ حَيَّ كالحَياةِ، لَكِنَّ فِيها مُبالَغَةً لَيْسَتْ في الحَياةِ، والمُرادُ بِالدّارِ الآخِرَةِ هي الحَياةُ الثّانِيَةُ، فَكَأنَّهُ قالَ: الحَياةُ الثّانِيَةُ هي الحَياةُ المُعْتَبَرَةُ أوْ نَقُولُ: لَمّا كانَتِ الآخِرَةُ فِيها الزِّيادَةُ والنُّمُوُّ كَما قالَ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنى وزِيادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] وكانَتْ هي مَحَلَّ الإدْراكِ التّامِّ الحَقِّ كَما قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ﴾ [الطارق: ٩] أطْلَقَ عَلَيْها الِاسْمَ المُسْتَعْمَلَ في النّامِي المُدْرِكِ.
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ في سُورَةِ الأنْعامِ: ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ وقالَ هَهُنا: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وذَلِكَ لَأنَّ المُثْبَتَ هُناكَ كَوْنُ الآخِرَةِ خَيْرًا وأنَّهُ ظاهِرٌ لا يَتَوَقَّفُ إلّا عَلى العَقْلِ والمُثْبَتَ هَهُنا أنْ لا حَياةَ إلّا حَياةُ الآخِرَةِ، وهَذا دَقِيقٌ لا يُعْرَفُ إلّا بِعِلْمٍ نافِعٍ.
{"ayah":"وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











