الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ياعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أرْضِي واسِعَةٌ فَإيّايَ فاعْبُدُونِ﴾ وجْهُ التَّعَلُّقِ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا ذَكَرَ حالَ المُشْرِكِينَ عَلى حِدَةٍ وحالَ أهْلِ الكِتابِ عَلى حِدَةٍ وجَمَعَهُما في الإنْذارِ وجَعَلَهُما مِن أهْلِ النّارِ اشْتَدَّ عِنادُهم وزادَ فَسادُهم وسَعَوْا في إيذاءِ المُؤْمِنِينَ ومَنَعُوهم مِنَ العِبادَةِ فَقالَ مُخاطِبًا لِلْمُؤْمِنِينَ: ﴿ياعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أرْضِي واسِعَةٌ فَإيّايَ فاعْبُدُونِ﴾ إنْ تَعَذَّرَتِ العِبادَةُ عَلَيْكم في بَعْضِها فَهاجِرُوا ولا تَتْرُكُوا عِبادَتِي بِحالٍ، وبِهَذا عُلِمَ أنَّ الجُلُوسَ في دارِ الحَرْبِ حَرامٌ والخُرُوجَ مِنها واجِبٌ، حَتّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلاقِ أنَّهُ لا يَخْرُجُ لَزِمَهُ الخُرُوجُ، و[رُ]دِعَ حَتّى يَقَعَ الطَّلاقُ. ثُمَّ في الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ﴿ياعِبادِيَ﴾ لَمْ يُرِدِ إلّا المُخاطَبَةَ مَعَ المُؤْمِنِينَ مَعَ أنَّ الكافِرَ داخِلٌ في قَوْلِهِ: ﴿ياعِبادِيَ﴾ نَقُولُ لَيْسَ داخِلًا في قَوْلِهِ: ﴿ياعِبادِيَ﴾ نَقُولُ لَيْسَ داخِلًا فِيهِ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ مَن قالَ في حَقِّهِ: ( عِبادِيَ) لَيْسَ لِلشَّيْطانِ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الحجر: ٤٢] والكافِرُ تَحْتَ سَلْطَنَةِ الشَّيْطانِ فَلا يَكُونُ داخِلًا في قَوْلِهِ: ﴿ياعِبادِيَ﴾ . الثّانِي: هو أنَّ الخِطابَ بِعِبادِي أشْرَفُ مَنازِلِ المُكَلَّفِ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا خَلَقَ آدَمَ آتاهُ اسْمًا عَظِيمًا وهو اسْمُ الخِلافَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] والخَلِيفَةُ أعْظَمُ النّاسِ مِقْدارًا وأتَمُّ ذَوِي البَأْسِ اقْتِدارًا، ثُمَّ إنَّ إبْلِيسَ لَمْ يُرْهَبْ مِن هَذا الِاسْمِ ولَمْ يَنْهَزِمْ، بَلْ أقْدَمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وعاداهُ وغَلَبَهُ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ﴾ [البقرة: ٣٦] ثُمَّ إنَّ مِن أوْلادِهِ الصّالِحِينَ مَن سُمِّيَ بِعِبادِي فانْخَنَسَ عَنْهُمُ الشَّيْطانُ وتَضاءَلَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ وقالَ هو بِلِسانِهِ ﴿لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ ﴿إلّا عِبادَكَ﴾ [ص: ٨٢ - ٨٣] فَعُلِمَ أنَّ المُكَلَّفَ إذا كانَ عَبْدًا لِلَّهِ يَكُونُ أعْلى دَرَجَةً مِمّا إذا كانَ خَلِيفَةً لِوَجْهِ الأرْضِ، ولَعَلَّ آدَمَ كَداوُدَ الَّذِي قالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّهِ: ﴿إنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأرْضِ﴾ [ص: ٢٦] لَمْ يَتَخَلَّصْ مِن يَدِ الشَّيْطانِ إلّا وقْتَ ما قالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّهِ عَبْدِي، وعِنْدَما ناداهُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا﴾ [الأعراف: ٢٣] واجْتَباهُ بِهَذا النِّداءِ، كَما قالَ في حَقِّ داوُدَ: ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذا الأيْدِ﴾ [ص: ١٧] إذا عُلِمَ هَذا فالكافِرُ لا يَصْلُحُ لِلْخِلافَةِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِما هو أعْظَمُ مِنَ الخِلافَةِ ؟ فَلا يَدْخُلُ في قَوْلِهِ: ﴿ياعِبادِيَ﴾ إلّا المُؤْمِنُ. الثّالِثُ: هو أنَّ هَذا الخِطابَ حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِ (p-٧٤)بِسَعْيِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠] فالمُؤْمِنُ دَعا رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكم فَآمَنّا﴾ [آل عمران: ١٩٣] فَأجابَهُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزُّمَرِ: ٥٣] فالإضافَةُ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ العَبْدِ بِقَوْلِ العَبْدِ إلَهِي، وقَوْلِ اللَّهِ عَبْدِي تَأكَّدَتْ بِدُعاءِ العَبْدِ، لَكِنَّ الكافِرَ لَمْ يَدْعُ فَلَمْ يُجَبْ، فَلا يَتَناوَلُ ﴿ياعِبادِيَ﴾ غَيْرَ المُؤْمِنِينَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إذا كانَ عِبادِي لا يَتَناوَلُ إلّا المُؤْمِنِينَ فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مَعَ أنَّ الوَصْفَ إنَّما يُذْكَرُ لِتَمْيِيزِ المَوْصُوفِ، كَما يُقالُ يا أيُّها المُكَلَّفُونَ المُؤْمِنُونَ، ويا أيُّها الرِّجالُ العُقَلاءُ تَمْيِيزًا عَنِ الكافِرِينَ والجُهّالِ، فَنَقُولُ: الوَصْفُ يُذْكَرُ لا لِلتَّمْيِيزِ بَلْ لِمُجَرَّدِ بَيانِ أنَّ فِيهِ الوَصْفَ كَما يُقالُ: الأنْبِياءُ المُكَرَّمُونَ والمَلائِكَةُ المُطَهَّرُونَ، مَعَ أنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مُكَرَّمٌ وكُلَّ مَلَكٍ مُطَهِّرٌ، وإنَّما يُقالُ لِبَيانِ أنَّ فِيهِمُ الإكْرامَ والطَّهارَةَ، ومِثْلُ هَذا قَوْلُنا: اللَّهُ العَظِيمُ وزَيْدٌ الطَّوِيلُ، فَهَهُنا ذُكِرَ لِبَيانِ أنَّهم مُؤْمِنُونَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إذْ قالَ ﴿ياعِبادِيَ﴾ فَهم يَكُونُونَ عابِدِينَ فَما الفائِدَةُ في الأمْرِ بِالعِبادَةِ بِقَوْلِهِ فاعْبُدُونِ ؟ فَنَقُولُ فِيهِ فائِدَتانِ إحْداهُما: المُداوَمَةُ أيْ يا مَن عَبَدْتُمُونِي في الماضِي اعْبُدُونِي في المُسْتَقْبَلِ. الثّانِيَةُ: الإخْلاصُ أيْ يا مَن تَعْبُدُنِي أخْلِصِ العَمَلَ لِي ولا تَعْبُدْ غَيْرِي. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَإيّايَ﴾ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ جَوابٌ لِشَرْطٍ فَما ذَلِكَ ؟ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ أرْضِي واسِعَةٌ﴾ [العَنْكَبُوتِ: ٥٦] إشارَةٌ إلى عَدَمِ المانِعِ مِن عِبادَتِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ إذا كانَ لا مانِعَ مِن عِبادَتِي فاعْبُدُونِي، وأمّا الفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاعْبُدُونِ﴾ فَهو لِتَرْتِيبِ المُقْتَضى عَلى المُقْتَضِي كَما يُقالُ هَذا عالِمٌ فَأكْرِمُوهُ فَكَذَلِكَ هَهُنا لَمّا أعْلَمَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإيّايَ﴾ وهو لِنَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ قالَ فاعْبُدُونِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ العَبْدُ مِثْلَ هَذا في قَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتِحَةِ: ٥] وقالَ عَقِيبَهُ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتِحَةِ: ٥] واللَّهُ تَعالى وافَقَهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَإيّايَ فاعْبُدُونِ﴾ ولَمْ يَذْكُرِ الإعانَةَ ؟ نَقُولُ بَلْ هي مَذْكُورَةٌ في قَوْلِهِ: ﴿ياعِبادِيَ﴾ لِأنَّ المَذْكُورَ بِعِبادِي لَمّا كانَ الشَّيْطانُ مَسْدُودَ السَّبِيلِ عَلَيْهِ مَسْدُودَ القَبِيلِ عَنْهُ كانَ في غايَةِ الإعانَةِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَدَّمَ اللَّهُ الإعانَةَ وأخَّرَ العَبْدُ الِاسْتِعانَةَ، قُلْنا لِأنَّ العَبْدَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ، وكُلُّ فِعْلٍ لِغَرَضٍ، فَإنَّ الغَرَضَ سابِقٌ عَلى الفِعْلِ في الإدْراكِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَن يَبْنِي بَيْتًا لِلسُّكْنى يَدْخُلُ في ذِهْنِهِ أوَّلًا فائِدَةُ السُّكْنى فَيَحْمِلُهُ عَلى البِناءِ، لَكِنَّ الغَرَضَ في الوُجُودِ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ فِعْلِ الواسِطَةِ، فَنَقُولُ: الِاسْتِعانَةُ مِنَ العَبْدِ لِغَرَضِ العِبادَةِ فَهي سابِقَةٌ في إدْراكِهِ، وأمّا اللَّهُ تَعالى فَلَيْسَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ، فَراعى تَرْتِيبَ الوُجُودِ، فَإنَّ الإعانَةَ قَبْلَ العِبادَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب