الباحث القرآني

[ فَقالَ تَعالى: ( أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وبَيْنَكم شَهِيدًا يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ والَّذِينَ آمَنُوا بِالباطِلِ وكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ ] . فَقالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ﴾ يَعْنِي إنْ كانَ إنْزالُ الآيَةِ شَرْطًا فَلا يُشْتَرَطُ إلّا إنْزالُ آيَةٍ، وقَدْ أُنْزِلَ وهو القُرْآنُ فَإنَّهُ مُعْجِزَةٌ ظاهِرَةٌ باقِيَةٌ وقَوْلُهُ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ﴾ عِبارَةٌ تُنْبِئُ عَنْ كَوْنِ القُرْآنِ آيَةً فَوْقَ الكِفايَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ القائِلَ إذا قالَ أما يَكْفِي لِلْمُسِيءِ أنْ لا يُضْرَبَ حَتّى يَتَوَقَّعَ الإكْرامَ يُنْبِئُ عَنْ أنَّ تَرْكَ الضَّرْبِ في حَقِّهِ كَثِيرٌ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ وهَذا لِأنَّ القُرْآنَ (p-٧٠)مُعْجِزَةٌ أتَمُّ مِن كُلِّ مُعْجِزَةٍ تَقَدَّمَتْها لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ تِلْكَ المُعْجِزاتِ وُجِدَتْ وما دامَتْ فَإنَّ قَلْبَ العَصا ثُعْبانًا وإحْياءَ المَيِّتِ لَمْ يَبْقَ لَنا مِنهُ أثَرٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ واحِدٌ يُؤْمِنُ بِكُتُبِ اللَّهِ ويُكَذِّبُ بِوُجُودِ هَذِهِ الأشْياءِ لا يُمْكِنُ إثْباتُها مَعَهُ بِدُونِ الكِتابِ، وأمّا القُرْآنُ فَهو باقٍ لَوْ أنْكَرَهُ واحِدٌ فَنَقُولُ لَهُ فَأْتِ بِآيَةٍ مِن مِثْلِهِ. الثّانِي: هو أنَّ قَلْبَ العَصا ثُعْبانًا كانَ في مَكانٍ واحِدٍ ولَمْ يَرَهُ مَن لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ المَكانِ، وأمّا القُرْآنُ فَقَدْ وصَلَ إلى المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وسَمِعَهُ كُلُّ أحَدٍ، وهَهُنا لَطِيفَةٌ وهي أنَّ آياتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَتْ أشْياءَ لا تَخْتَصُّ بِمَكانٍ دُونَ مَكانٍ؛ لِأنَّ مِن جُمْلَتِها انْشِقاقَ القَمَرِ وهو يَعُمُّ الأرْضَ؛ لِأنَّ الخُسُوفَ إذا وقَعَ عَمَّ؛ وذَلِكَ لِأنَّ نُبُوَّتَهُ كانَتْ عامَّةً لا تَخْتَصُّ بِقُطْرٍ دُونَ قُطْرٍ وغاضَتْ بُحَيْرَةُ ساوَةَ في قُطْرٍ وسَقَطَ إيوانُ كِسْرى في قُطْرٍ، وانْهَدَّتِ الكَنِيسَةُ بِالرُّومِ في قُطْرٍ آخَرَ إعْلامًا بِأنَّهُ يَكُونُ أمْرٌ عامٌّ. الثّالِثُ: هو أنَّ -غَيْرَ هَذِهِ المُعْجِزَةِ- الكافِرَ المُعانِدَ يَقُولُ إنَّهُ سِحْرٌ عُمِلَ بِدَواءٍ، والقُرْآنُ لا يُمْكِنُ هَذا القَوْلُ فِيهِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً﴾ إشارَةً إلى أنّا جَعَلْناهُ مُعْجِزَةً رَحْمَةً عَلى العِبادِ لِيَعْلَمُوا بِها الصّادِقَ، وهَذا لِأنّا بَيَّنّا أنَّ إظْهارَ المُعْجِزَةِ عَلى يَدِ الصّادِقِ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وكانَ لَهُ أنْ لا يُظْهِرَ فَيَبْقى الخَلْقُ في ورْطَةِ تَكْذِيبِ الصّادِقِ أوْ تَصْدِيقِ الكاذِبِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ لا يَتَمَيَّزُ عَنِ المُتَنَبِّي لَوْلا المُعْجِزَةُ، لَكِنَّ اللَّهَ لَهُ ذَلِكَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ وقَوْلُهُ: ﴿وذِكْرى﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ مُعْجِزَةٌ باقِيَةٌ يَتَذَكَّرُ بِها كُلُّ مَن يَكُونُ ما بَقِيَ الزَّمانُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يَعْنِي هَذِهِ الرَّحْمَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالمُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ المُعْجِزَةَ كانَتْ غَضَبًا عَلى الكافِرِينَ؛ لِأنَّها قَطَعَتْ أعْذارَهم وعَطَّلَتْ إنْكارَهم. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وبَيْنَكم شَهِيدًا﴾ لَمّا ظَهَرَتْ رِسالَتُهُ وبَهَرَتْ دَلالَتُهُ ولَمْ يُؤْمِن بِهِ المُعانِدُونَ مِن أهْلِ الكِتابِ قالَ كَما يَقُولُ الصّادِقُ إذا كُذِّبَ، وأتى بِكُلِّ ما يَدُلُّ عَلى صِدْقِهِ ولَمْ يُصَدَّقْ: اللَّهُ يَعْلَمُ صِدْقِي وتَكْذِيبَكَ أيُّها المُعانِدُ وهو عَلى ما أقُولُ شَهِيدٌ يَحْكُمُ بَيْنِي وبَيْنَكم، كُلُّ ذَلِكَ إنْذارٌ وتَهْدِيدٌ يُفِيدُهُ تَقْرِيرًا وتَأْكِيدًا، ثُمَّ بَيَّنَ كَوْنَهُ كافِيًا بِكَوْنِهِ عالِمًا بِجَمِيعِ الأشْياءِ. فَقالَ: ﴿يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وهَهُنا مَسْألَةٌ: وهي أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ في آخِرِ الرَّعْدِ ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٤٣] فَأخَّرَ شَهادَةَ أهْلِ الكِتابِ، وفي هَذِهِ السُّورَةِ قَدَّمَها حَيْثُ قالَ: ﴿فالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٧] ومِن هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ أيْ مِن أهْلِ الكِتابِ، فَنَقُولُ: الكَلامُ هُناكَ مَعَ المُشْرِكِينَ، فاسْتُدِلَّ عَلَيْهِمْ بِشَهادَةِ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ إنَّ شَهادَةَ اللَّهِ أقْوى في إلْزامِهِمْ مِن شَهادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وهَهُنا الكَلامُ مَعَ أهْلِ الكِتابِ، وشَهادَةُ المَرْءِ عَلى نَفْسِهِ هو إقْرارُهُ وهو أقْوى الحُجَجِ عَلَيْهِ فَقَدَّمَ ما هو ألْزَمُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ الطَّرِيقَيْنِ في إرْشادِ الفَرِيقَيْنِ المُشْرِكِينَ وأهْلِ الكِتابِ عادَ إلى الكَلامِ الشّامِلِ لَهُما والإنْذارِ العامِّ فَقالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِالباطِلِ وكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ أيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِما سِوى اللَّهِ؛ لِأنَّ ما سِوى اللَّهِ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ هالِكٌ بِقَوْلِهِ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] وكُلُّ ما هَلَكَ فَقَدْ بَطَلَ فَكُلُّ هالِكٍ باطِلٌ وكُلُّ ما سِوى اللَّهِ باطِلٌ، فَمَن آمَنَ بِما سِوى اللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِالباطِلِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ يَقْتَضِي الحَصْرَ أيْ مَن أتى بِالإيمانِ بِالباطِلِ والكُفْرِ بِاللَّهِ (p-٧١)فَهُوَ خاسِرٌ، فَمَن يَأْتِي بِأحَدِهِما دُونَ الآخَرِ يَنْبَغِي أنْ لا يَكُونَ خاسِرًا فَنَقُولُ: يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ الآتِي بِأحَدِهِما لا يَكُونُ آتِيًا بِالآخَرِ، أمّا الآتِي بِالإيمانِ بِما سِوى اللَّهِ فَلِأنَّهُ أشْرَكَ بِاللَّهِ، فَجَعَلَ غَيْرَ اللَّهِ مِثْلَ غَيْرِهِ، لَكِنَّ غَيْرَهُ عاجِزٌ جاهِلٌ مُمْكِنٌ باطِلٌ فَيَكُونُ اللَّهُ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ إنْكارًا لِلَّهِ وكُفْرًا بِهِ، وأمّا مَن كَفَرَ بِهِ وأنْكَرَهُ فَيَكُونُ قائِلًا بِأنَّ العالَمَ لَيْسَ لَهُ إلَهٌ مُوجِدٌ، فَوُجُودُ العالَمِ مِن نَفْسِهِ، فَيَكُونُ قائِلًا بِأنَّ العالَمَ واجِبٌ والواجِبُ إلَهٌ، فَيَكُونُ قائِلًا بِأنَّ غَيْرَ اللَّهِ إلَهٌ، فَيَكُونُ إثْباتًا لِغَيْرِ اللَّهِ وإيمانًا بِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إذا كانَ الإيمانُ بِما سِوى اللَّهِ كُفْرًا بِهِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَن آمَنَ بِالباطِلِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ، فَهَلْ لِهَذا العَطْفِ فائِدَةٌ غَيْرُ التَّأْكِيدِ الَّذِي هو في قَوْلِ القائِلِ قُمْ ولا تَقْعُدْ واقْرُبْ مِنِّي ولا تَبْعُدْ ؟ نَقُولُ: نَعَمْ فِيهِ فائِدَةٌ غَيْرُها، وهو أنَّهُ ذَكَرَ الثّانِيَ لِبَيانِ قُبْحِ الأوَّلِ كَقَوْلِ القائِلِ: أتَقُولُ بِالباطِلِ وتَتْرُكُ الحَقَّ لِبَيانِ أنَّ القَوْلَ باطِلٌ قَبِيحٌ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: هَلْ يَتَناوَلُ هَذا أهْلَ الكِتابِ، أيْ هَلْ هم آمَنُوا بِالباطِلِ وكَفَرُوا بِاللَّهِ ؟ نَقُولُ نَعَمْ؛ لِأنَّهم لَمّا صَحَّ عِنْدَهم أنَّ مُعْجِزَةَ النَّبِيِّ مِن عِنْدِ اللَّهِ وقَطَعُوا بِها وعانَدُوا وقالُوا إنَّها مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، يَكُونُ كَمَن رَأى شَخْصًا يَرْمِي حِجارَةً، فَقالَ إنَّ رامِيَ الحِجارَةِ زِيدٌ يَقْطَعُ بِأنَّهُ قائِلٌ بِأنَّ هَذا الشَّخْصَ زِيدٌ حَتّى لَوْ سُئِلَ عَنْ عَيْنِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وقِيلَ لَهُ مَن هَذا الرَّجُلُ، يَقُولُ زَيْدٌ، فَكَذَلِكَ هم لَمّا قَطَعُوا بِأنَّ مُظْهِرَ المُعْجِزَةِ هو اللَّهُ، وقالُوا بِأنَّ مُحَمَّدًا مُظْهِرُ هَذا، يَلْزَمُهم أنْ يَقُولُوا مُحَمَّدٌ هو اللَّهُ تَعالى، فَيَكُونُ إيمانًا بِالباطِلِ، وإذا قالُوا بِأنَّ مَن أظْهَرَ المُعْجِزَةَ لَيْسَ بِإلَهٍ مَعَ أنَّهم قَطَعُوا بِخُصُوصِ مُظْهِرِ المُعْجِزَةِ يَكُونُونَ قائِلِينَ بِأنَّ ذَلِكَ المَخْصُوصَ الَّذِي هو اللَّهُ لَيْسَ بِإلَهٍ، فَيَكُونُ كُفْرًا بِهِ، وهَذا لا يَرِدُ عَلَيْنا فِيمَن يَقُولُ: فَلَعَلَّ العَبْدَ مَخْلُوقُ اللَّهِ تَعالى، أوْ مَخْلُوقُ العَبْدِ، فَإنَّهُ أيْضًا يَنْسُبُ فِعْلَ اللَّهِ إلى الغَيْرِ، كَما أنَّ المُعْجِزَةَ فِعْلُ اللَّهِ، وهم نَسَبُوها إلى غَيْرِهِ؛ لِأنَّ هَذا القائِلَ جَهِلَ النِّسْبَةَ، كَمَن يَرى حِجارَةً رُمِيَتْ ولَمْ يَرَ عَيْنَ رامِيها، فَيَظُنُّ أنَّ رامِيَها زَيْدٌ فَيَقُولُ: زَيْدٌ هو رامِي هَذِهِ الحِجارَةِ، ثُمَّ إذا رَأى رامِيَها بِعَيْنِهِ، ويَكُونُ غَيْرَ زَيْدٍ لا يَقْطَعُ بِأنْ يَقُولَ هو زَيْدٌ، وأمّا إذا رَأى عَيْنَهُ ورَمْيَهُ لِلْحِجارَةِ وقالَ رامِي الحِجارَةِ زَيْدٌ، يَقْطَعُ بِأنَّهُ يَقُولُ هَذا الرَّجُلُ زَيْدٌ، فَظَهَرَ الفَرْقُ مِن حَيْثُ إنَّهم كانُوا مُعانِدِينَ عالِمِينَ بِأنَّ اللَّهَ مُظْهِرُ تِلْكَ المُعْجِزَةِ، ويَقُولُونَ بِأنَّها مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿هُمُ الخاسِرُونَ﴾ كَذَلِكَ بِأتَمِّ وُجُوهِ الخُسْرانِ، وهَذا لِأنَّ مَن يَخْسَرُ رَأْسَ المالِ ولا تَرْكَبُهُ دُيُونٌ يُطالَبُ بِها دُونَ مَن يَخْسَرُ رَأْسَ المالِ وتَرْكَبُهُ تِلْكَ الدُّيُونُ، فَهم لَمّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ أفْنَوُا العُمْرَ ولَمْ يَحْصُلْ لَهم في مُقابَلَتِهِ شَيْءٌ ما أصْلًا مِنَ المَنافِعِ، واجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ دُيُونُ تَرْكِ الواجِباتِ يُطالَبُونَ بِها حَيْثُ لا طاقَةَ لَهم بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب