الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ .
لَمّا بَيَّنَ حُسْنَ التَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ: ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا﴾ بَيَّنَ أنَّ مَن كُلِّفَ بِشَيْءٍ ولَمْ يَأْتِ بِهِ يُعَذَّبُ وإنْ لَمْ يُعَذَّبْ في الحالِ فَسَيُعَذَّبُ في الِاسْتِقْبالِ ولا يَفُوتُ اللَّهَ شَيْءٌ في الحالِ ولا في المَآلِ، وهَذا إبْطالُ مَذْهَبِ مَن يَقُولُ: التَّكالِيفُ إرْشاداتٌ والإيعادُ عَلَيْهِ تَرْغِيبٌ وتَرْهِيبٌ، ولا يُوجَدُ مِنَ اللَّهِ تَعْذِيبٌ، ولَوْ كانَ يُعَذِّبُ ما كانَ عاجِزًا عَنِ العَذابِ عاجِلًا؛ فَلَمّا كانَ يُؤَخِّرُ العِقابَ فَقالَ تَعالى: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أنْ يَسْبِقُونا﴾ يَعْنِي لَيْسَ كَما قالُوا؛ بَلْ يُعَذِّبُ مَن يُعَذِّبُ ويُثِيبُ مَن يُثِيبُ بِحُكْمِ الوَعْدِ والإيعادِ، واللَّهُ لا يُخْلِفُ المِيعادَ، وأمّا الإمْهالُ فَلا يُفْضِي إلى الإهْمالِ، والتَّعْجِيلُ في جَزاءِ الأعْمالِ شُغْلُ مَن يَخافُ الفَوْتَ لَوْلا الِاسْتِعْجالُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ يَعْنِي حُكْمَهم بِأنَّهم يَعْصُونَ ويُخالِفُونَ أمْرَ اللَّهِ ولا يُعاقَبُونَ حُكْمٌ سَيِّئٌ؛ فَإنَّ الحُكْمَ الحَسَنَ لا يَكُونُ إلّا حُكْمَ العَقْلِ أوْ حُكْمَ الشَّرْعِ، والعَقْلُ لا يَحْكُمُ عَلى اللَّهِ بِذَلِكَ فَإنَّ اللَّهَ لَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يُرِيدُ والشَّرْعُ حُكْمُهُ بِخِلافِ ما قالُوهُ، فَحُكْمُهم حُكْمٌ في غايَةِ السُّوءِ والرَّداءَةِ.
* * *
(p-٢٨)ثُمَّ قالَ: ﴿مَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ فَإنَّ أجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ .
لَمّا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: أحَسِبَ النّاسُ أنَّ العَبْدَ لا يُتْرَكُ في الدُّنْيا سُدًى، وبَيَّنَ في قَوْلِهِ: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ أنَّ مَن تَرَكَ ما كُلِّفَ بِهِ يُعَذَّبُ كَذا، بَيَّنَ أنَّ مَن يَعْتَرِفُ بِالآخِرَةِ ويَعْمَلُ لَها لا يَضِيعُ عَمَلُهُ ولا يَخِيبُ أمَلُهُ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنّا ذَكَرْنا في مَواضِعَ أنَّ الأُصُولَ الثَّلاثَةَ وهي: الأوَّلُ وهو اللَّهُ تَعالى ووَحْدانِيَّتُهُ، والأصْلُ الآخَرُ وهو اليَوْمُ الآخِرُ، والأصْلُ المُتَوَسِّطُ وهو النَّبِيُّ المُرْسَلُ مِنَ الأوَّلِ المُوَصِّلُ إلّا الآخِرِ لا يَكادُ يَنْفَصِلُ في الذِّكْرِ الإلَهِيِّ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ، فَقَوْلُهُ: ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى الأصْلِ الأوَّلِ يَعْنِي أظَنُّوا أنَّهُ يَكْفِي الأصْلُ الأوَّلُ، وقَوْلُهُ ﴿وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ يَعْنِي بِإرْسالِ الرُّسُلِ وإيضاحِ السُّبُلِ، فِيهِ إشارَةٌ إلى الأصْلِ الثّانِي وقَوْلُهُ: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى الأصْلِ الثّالِثِ وهو الآخِرُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ لِقاءِ اللَّهِ أنَّهُ الرُّؤْيَةُ وهو ضَعِيفٌ، فَإنَّ اللِّقاءَ والمُلاقاةَ بِمَعْنًى وهو في اللُّغَةِ بِمَعْنى الوُصُولِ حَتّى أنَّ جَمادَيْنِ إذا تَواصَلا فَقَدْ لاقى أحَدُهُما الآخَرَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ المُرادُ مِنَ الرَّجاءِ الخَوْفُ والمَعْنى مِن قَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ﴾ مَن كانَ يَخافُ اللَّهَ وهو أيْضًا ضَعِيفٌ، فَإنَّ المَشْهُورَ في الرَّجاءِ هو تَوَقُّعُ الخَيْرِ لا غَيْرُ، ولِأنّا أجْمَعْنا عَلى أنَّ الرَّجاءَ ورَدَ بِهَذا المَعْنى يُقالُ أرْجُو فَضْلَ اللَّهِ ولا يُفْهَمُ مِنهُ أخافُ فَضْلَ اللَّهِ، وإذا كانَ وارِدًا لِهَذا لا يَكُونُ لِغَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِراكِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِأجَلِ اللَّهِ المَوْتَ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هو الحَياةَ الثّانِيَةَ بِالحَشْرِ، فَإنْ كانَ هو المَوْتَ، فَهَذا يُنْبِئُ عَنْ بَقاءِ النُّفُوسِ بَعْدَ المَوْتِ كَما ورَدَ في الأخْبارِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ القائِلَ إذا قالَ: مَن كانَ يَرْجُو الخَيْرَ فَإنَّ السُّلْطانَ واصِلٌ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ مُتَّصِلًا بِوُصُولِ السُّلْطانِ يَكُونُ هو الخَيْرَ حَتّى أنَّهُ لَوْ وصَلَ هو وتَأخَّرَ الخَيْرُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ لِلْقائِلِ: أما قُلْتَ ما قُلْتَ ووَصَلَ السُّلْطانُ ولَمْ يَظْهَرِ الخَيْرُ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ اللِّقاءُ عِنْدَ المَوْتِ لَما حَسُنَ ذَلِكَ كَما ذَكَرْنا في المِثالِ، وإذا تَبَيَّنَ هَذا فَلَوْلا البَقاءُ لَما حَصَلَ اللِّقاءُ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مَن كانَ يَرْجُو﴾ شَرْطٌ وجَزاؤُهُ ﴿فَإنَّ أجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ والمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَمَن لا يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ لا يَكُونُ أجَلُ اللَّهِ آتِيًا لَهُ، وهَذا باطِلٌ فَما الجَوابُ عَنْهُ ؟ نَقُولُ: المُرادُ مِن ذِكْرِ إتْيانِ الأجَلِ وعْدُ المُطِيعِ بِما بَعْدَهُ مِنَ الثَّوابِ، يَعْنِي مَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ فَإنَّ أجَلَ اللَّهِ لِآتٍ بِثَوابِ اللَّهِ يُثابُ عَلى طاعَتِهِ عِنْدَهُ، ولا شَكَّ أنَّ مَن لا يَرْجُوهُ لا يَكُونُ أجَلُ اللَّهِ آتِيًا عَلى وجْهٍ يُثابُ هو.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ: ﴿وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ ولَمْ يَذْكُرْ صِفَةً غَيْرَهُما كالعَزِيزِ الحَكِيمِ وغَيْرِهِما؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ سَبَقَ القَوْلُ في قَوْلِهِ: ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا﴾ وسَبَقَ الفِعْلُ بِقَوْلِهِ: ﴿وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ وبِقَوْلِهِ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ وبِقَوْلِهِ: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ ولا شَكَّ أنَّ القَوْلَ يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ، والعَمَلُ مِنهُ ما لا يُدْرَكُ بِالبَصَرِ ومِنهُ ما يُدْرَكُ بِهِ كالقُصُودِ، والعِلْمُ يَشْمَلُهُما وهو السَّمِيعُ يَسْمَعُ ما قالُوهُ، وهو العَلِيمُ يَعْلَمُ مَن صَدَقَ فِيما قالَ مِمَّنْ كَذَبَ، وأيْضًا عَلِيمٌ يَعْلَمُ ما يَعْمَلُ فَيُثِيبُ ويُعاقِبُ وهَهُنا لَطِيفَةٌ (p-٢٩)وهِيَ أنَّ العَبْدَ لَهُ ثَلاثَةُ أُمُورٍ هي أصْنافُ حَسَناتِهِ:
أحَدُها: عَمَلُ قَلْبِهِ وهو التَّصْدِيقُ وهو لا يُرى ولا يُسْمَعُ وإنَّما يُعْلَمُ، وعَمَلُ لِسانِهِ وهو يُسْمَعُ، وعَمَلُ أعْضائِهِ وجَوارِحِهِ وهو يُرى، فَإذا أتى بِهَذِهِ الأشْياءِ يَجْعَلُ اللَّهُ لِمَسْمُوعِهِ ما لا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولِمَرْئِيِّهِ ما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولِعَمَلِ قَلْبِهِ ما لا خَطَرَ عَلى قَلْبِ أحَدٍ، كَما وصَفَ في الخَبَرِ في وصْفِ الجَنَّةِ.
{"ayahs_start":4,"ayahs":["أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ أَن یَسۡبِقُونَاۚ سَاۤءَ مَا یَحۡكُمُونَ","مَن كَانَ یَرۡجُوا۟ لِقَاۤءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَـَٔاتࣲۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ"],"ayah":"أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ أَن یَسۡبِقُونَاۚ سَاۤءَ مَا یَحۡكُمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق