الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ ذَكَرَ اللَّهُ ما يُوجِبُ تَسْلِيَتَهم فَقالَ: كَذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِمَن قَبْلَكم ولَمْ يَتْرُكْهم بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ (آمَنّا) بَلْ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الطّاعاتِ وأوْجَبَ عَلَيْهِمْ، وفي قَوْلِهِ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قَوْلُ مُقاتِلٍ فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ. الثّانِي: فَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ. الثّالِثُ: فَلَيُمَيِّزَنَّ اللَّهُ، فالحاصِلُ عَلى هَذا هو أنَّ المُفَسِّرِينَ ظَنُّوا أنَّ حَمْلَ الآيَةِ عَلى ظاهِرِها يُوجِبُ تَجَدُّدَ عِلْمِ اللَّهِ، واللَّهُ عالِمٌ بِالصّادِقِ والكاذِبِ قَبْلَ الِامْتِحانِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ بِعِلْمِهِ عِنْدَ الِامْتِحانِ فَنَقُولُ: الآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلى ظاهِرِها، وذَلِكَ أنَّ عِلْمَ اللَّهِ صِفَةٌ يَظْهَرُ فِيها كُلُّ ما هو واقِعٌ كَما هو واقِعٌ، فَقَبْلَ التَّكْلِيفِ كانَ اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ زَيْدًا مَثَلًا سَيُطِيعُ وعَمْرًا سَيَعْصِي، ثُمَّ وقْتَ التَّكْلِيفِ والإتْيانِ يَعْلَمُ أنَّهُ مُطِيعٌ، والآخَرَ عاصٍ وبَعْدَ الإتْيانِ يَعْلَمُ أنَّهُ أطاعَ، والآخَرَ عَصى ولا يَتَغَيَّرُ عِلْمُهُ في شَيْءٍ مِنَ الأحْوالِ، وإنَّما (p-٢٧)المُتَغَيِّرُ المَعْلُومُ، ونُبَيِّنُ هَذا بِمِثالٍ مِنَ الحِسِّيّاتِ ولِلَّهِ المَثَلُ الأعْلى، وهو أنَّ المِرْآةَ الصّافِيَةَ الصَّقِيلَةَ إذا عُلِّقَتْ مِن مَوْضِعٍ، وقُوبِلَ بِوَجْهِها جِهَةٌ ولَمْ تُحَرَّكْ ثُمَّ عَبَرَ عَلَيْها زَيْدٌ لابِسًا ثَوْبًا أبْيَضَ ظَهَرَ فِيها زَيْدٌ في ثَوْبٍ أبْيَضَ، وإذا عَبَرَ عَلَيْها عَمْرٌو في لِباسٍ أصْفَرَ يَظْهَرُ فِيها كَذَلِكَ فَهَلْ يَقَعُ في ذِهْنِ أحَدٍ أنَّ المِرْآةَ في كَوْنِها حَدِيدًا تَغَيَّرَتْ، أوْ يَقَعُ لَهُ أنَّها في تَدْوِيرِها تَبَدَّلَتْ، أوْ يَذْهَبُ فَهْمُهُ إلى أنَّها في صِقالَتِها اخْتَلَفَتْ أوْ يَخْطُرُ بِبالِهِ أنَّها عَنْ سُكّانِها انْتَقَلَتْ، لا يَقَعُ لِأحَدٍ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الأشْياءِ ويَقْطَعُ بِأنَّ المُتَغَيِّرَ الخارِجاتُ فافْهَمْ. عِلْمُ اللَّهِ مِن هَذا المِثالِ بَلْ أعْلى مِن هَذا المِثالِ، فَإنَّ المِرْآةَ مُمْكِنَةُ التَّغَيُّرِ وعِلْمُ اللَّهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ يَعْنِي يَقَعُ مِمَّنْ يَعْلَمُ اللَّهُ أنْ يُطِيعَ الطّاعَةَ فَيَعْلَمُ أنَّهُ مُطِيعٌ بِذَلِكَ العِلْمِ ﴿ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ يَعْنِي مَن قالَ أنا مُؤْمِنٌ وكانَ صادِقًا عِنْدَ فَرْضِ العِباداتِ يَظْهَرُ مِنهُ ذَلِكَ ويُعْلَمُ، ومَن قالَ ذَلِكَ وكانَ مُنافِقًا كَذَلِكَ يَبِينُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ بِصِيغَةِ الفِعْلِ وقَوْلِهِ ﴿الكاذِبِينَ﴾ بِاسْمِ الفاعِلِ فائِدَةٌ مَعَ أنَّ الِاخْتِلافَ في اللَّفْظِ أدَلُّ عَلى الفَصاحَةِ، وهي أنَّ اسْمَ الفاعِلِ يَدُلُّ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ عَلى ثُبُوتِ المَصْدَرِ في الفاعِلِ ورُسُوخِهِ فِيهِ، والفِعْلُ الماضِي لا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَما يُقالُ فُلانٌ شَرِبَ الخَمْرَ وفُلانٌ شارِبُ الخَمْرِ، وفُلانٌ نَفَذَ أمْرُهُ، وفُلانٌ نافِذُ الأمْرِ، فَإنَّهُ لا يُفْهَمُ مِن صِيغَةِ الفِعْلِ التَّكْرارُ والرُّسُوخُ، ومِنَ اسْمِ الفاعِلِ يُفْهَمُ ذَلِكَ إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: وقْتَ نُزُولِ الآيَةِ كانَتِ الحِكايَةُ عَنْ قَوْمٍ قَرِيبِي العَهْدِ بِالإسْلامِ في أوائِلِ إيجابِ التَّكالِيفِ وعَنْ قَوْمٍ مُسْتَدِيمِينَ لِلْكُفْرِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ فَقالَ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ: ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ بِصِيغَةِ الفِعْلِ أيْ وُجِدَ مِنهُمُ الصِّدْقُ وقالَ في حَقِّ الكافِرِ ﴿الكاذِبِينَ﴾ بِالصِّيغَةِ المُنْبِئَةِ عَنِ الثَّباتِ والدَّوامِ ولِهَذا قالَ: ﴿يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ (المائِدَةِ: ١١٩ ) بِلَفْظِ اسْمِ الفاعِلِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ في اليَوْمِ المَذْكُورِ الصِّدْقُ قَدْ يَرْسَخُ في قَلْبِ المُؤْمِنِ وهو اليَوْمُ الآخِرُ ولا كَذَلِكَ في أوائِلِ الإسْلامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب