الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولُوطًا إذْ قالَ لِقَوْمِهِ إنَّكم لَتَأْتُونَ الفاحِشَةَ ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ﴾ ﴿أئِنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وتَأْتُونَ في نادِيكُمُ المُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلى القَوْمِ المُفْسِدِينَ﴾ الإعْرابُ في لُوطٍ، والتَّفْسِيرُ كَما ذَكَرْنا في قَوْلِهِ: ﴿وإبْراهِيمَ إذْ قالَ لِقَوْمِهِ﴾ وهَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ إبْراهِيمُ لِقَوْمِهِ ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وقالَ عَنْ لُوطٍ هَهُنا أنَّهُ قالَ لِقَوْمِهِ ﴿لَتَأْتُونَ الفاحِشَةَ﴾ فَنَقُولُ لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ لُوطًا عِنْدَ ذِكْرِ إبْراهِيمَ وكانَ لُوطٌ في زَمانِ إبْراهِيمَ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ لُوطٍ أنَّهُ أمَرَ قَوْمَهُ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ أنَّ الرَّسُولَ لا بُدَّ مِن أنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: حِكايَةُ لُوطٍ وغَيْرُها هَهُنا ذَكَرَها اللَّهُ عَلى سَبِيلِ الِاخْتِصارِ، فاقْتَصَرَ عَلى ما اخْتَصَّ بِهِ لُوطٌ وهو المَنعُ مِنَ الفاحِشَةِ، ولَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ الأمْرَ بِالتَّوْحِيدِ وإنْ كانَ قالَهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ حَيْثُ قالَ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ قَدْ أتى بِهِ إبْراهِيمُ وسَبَقَهُ فَصارَ كالمُخْتَصِّ بِهِ، ولُوطٌ يُبَلِّغُ ذَلِكَ عَنْ إبْراهِيمَ. وأمّا المَنعُ مِن عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ كانَ مُخْتَصًّا بِلُوطٍ، فَإنَّ إبْراهِيمَ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ [ في زَمَنِهِ ] ولَمْ يَمْنَعْهم مِنهُ فَذَكَرَ كُلَّ واحِدٍ بِما اخْتَصَّ بِهِ وسَبَقَ بِهِ غَيْرَهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِمَ سَمّى ذَلِكَ الفِعْلَ فاحِشَةً ؟ فَنَقُولُ: الفاحِشَةُ هو القَبِيحُ الظّاهِرُ قُبْحُهُ، ثُمَّ إنَّ الشَّهْوَةَ والغَضَبَ صِفَتا قُبْحٍ لَوْلا مَصْلَحَةٌ ما كانَ يَخْلُقُهُما اللَّهُ في الإنْسانِ، فَمَصْلَحَةُ الشَّهْوَةِ الفَرْجِيَّةِ هي بَقاءُ النَّوْعِ بِتَوْلِيدِ الشَّخْصِ، وهَذِهِ المَصْلَحَةُ لا تَحْصُلُ إلّا بِوُجُودِ الوَلَدِ وبَقائِهِ بَعْدَ الأبِ، فَإنَّهُ لَوْ وُجِدَ وماتَ قَبْلَ الأبِ كانَ يَفْنى النَّوْعُ بِفَناءِ القَرْنِ الأوَّلِ، لَكِنَّ الزِّنا قَضاءُ شَهْوَةٍ ولا يُفْضِي إلى بَقاءِ النَّوْعِ، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ البِناءَ بِالوُجُودِ وبَقاءِ الوَلَدِ بَعْدَ الأبِ، لَكِنَّ الزِّنا وإنْ كانَ يُفْضِي إلى وُجُودِ الوَلَدِ ولَكِنْ لا يُفْضِي إلى بَقائِهِ، لِأنَّ المِياهَ إذا (p-٥٢)اشْتَبَهَتْ لا يَعْرِفُ الوالِدُ ولَدَهُ فَلا يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ والإنْفاقِ عَلَيْهِ فَيَضِيعُ ويَهْلِكُ، فَلا يَحْصُلُ مَصْلَحَةُ البَقاءِ، فَإذَنِ الزِّنا شَهْوَةٌ قَبِيحَةٌ خالِيَةٌ عَنِ المَصْلَحَةِ الَّتِي لِأجْلِها خُلِقَتْ، فَهو قَبِيحٌ ظاهِرٌ قُبْحُهُ حَيْثُ لا تَسْتُرُهُ المَصْلَحَةُ فَهو فاحِشَةٌ، وإذا كانَ الزِّنا فاحِشَةً مَعَ أنَّهُ يُفْضِي إلى وُجُودِ الوَلَدِ ولَكِنْ لا يُفْضِي إلى بَقائِهِ، فاللِّواطَةُ الَّتِي لا تُفْضِي إلى وُجُودِهِ أوْلى بِأنْ تَكُونَ فاحِشَةً. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى وُجُوبِ الحَدِّ في اللِّواطَةِ، لِأنَّها مَعَ الزِّنا اشْتَرَكَتْ في كَوْنِهِما فاحِشَةً حَيْثُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ (الإسْراءِ: ٣٢ ) واشْتِراكُهُما في الفاحِشَةِ يُناسِبُ الزَّجْرَ عَنْهُ، فَما شَرَعَ زاجِرًا هُناكَ يَشْرَعُ زاجِرًا هَهُنا، وهَذا وإنْ كانَ قِياسًا إلّا أنَّ جامِعَهُ مُسْتَفادٌ مِنَ الآيَةِ، ووَجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ اللَّهَ جَعَلَ عَذابَ مَن أتى بِها إمْطارَ الحِجارَةِ حَيْثُ أمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً عاجِلًا، فَوَجَبَ أنْ يُعَذَّبَ مَن أتى بِهِ بِأمْطارِ الحِجارَةِ بِهِ عاجِلًا وهو الرَّجْمُ، وقَوْلُهُ: ﴿ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ قَبْلَهم لَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِهَذا القَبِيحِ وهَذا ظاهِرٌ. والثّانِي: أنَّ قَبْلَهم رُبَّما أتى بِهِ واحِدٌ في النُّدْرَةِ لَكِنَّهم بالَغُوا فِيهِ، فَقالَ لَهم: ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ، كَما يُقالُ: إنَّ فُلانًا سَبَقَ البُخَلاءَ في البُخْلِ، وسَبَقَ اللِّئامَ في اللُّؤْمِ إذا زادَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أئِنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ (العَنْكَبُوتِ: ٢٩) بَيانًا لِما ذَكَرْنا، يَعْنِي تَقْضُونَ الشَّهْوَةَ بِالرِّجالِ مَعَ قَطْعِ السَّبِيلِ المُعْتادِ مَعَ النِّساءِ المُشْتَمِلِ عَلى المَصْلَحَةِ الَّتِي هي بَقاءُ النَّوْعِ، حَتّى يُظْهِرَ أنَّهُ قَبِيحٌ لَمْ يَسْتُرْ قُبْحَهُ مَصْلَحَةً، وحِينَئِذٍ يَصِيرُ هَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ﴾ (الأعْرافِ:٨١ ) يَعْنِي: إتْيانُ النِّساءِ شَهْوَةٌ قَبِيحَةٌ مُسْتَتِرَةٌ بِالمَصْلَحَةِ فَلَكم دافِعٌ لِحاجَتِكم لا فاحِشَةَ فِيهِ وتَتْرُكُونَهُ وتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مَعَ الفاحِشَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿وتَأْتُونَ في نادِيكُمُ المُنْكَرَ﴾ يَعْنِي ما كَفاكم قُبْحُ فِعْلِكم حَتّى تَضُمُّونَ إلَيْهِ قُبْحَ الإظْهارِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ﴾ في التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ ﴿وما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ قَوْمُ إبْراهِيمَ: ﴿اقْتُلُوهُ أوْ حَرِّقُوهُ﴾ وقالَ قَوْمُ لُوطٍ: ﴿ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ﴾ وما هَدَّدُوهُ، مَعَ أنَّ إبْراهِيمَ كانَ أعْظَمَ مِن لُوطٍ، فَإنَّ لُوطًا كانَ مِن قَوْمِهِ، فَنَقُولُ إنَّ إبْراهِيمَ كانَ يَقْدَحُ في دِينِهِمْ ويَشْتُمُ آلِهَتَهم بِتَعْدِيدِ صِفاتِ نَقْصِهِمْ بِقَوْلِهِ: لا يَسْمَعُ، ولا يُبْصِرُ، ولا يُغْنِي والقَدْحُ في الدِّينِ صَعْبٌ، فَجَعَلُوا جَزاءَهُ القَتْلَ والتَّحْرِيقَ، ولُوطٌ كانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ فِعْلَهم ويَنْسُبُهم إلى ارْتِكابِ المُحَرَّمِ وهم ما كانُوا يَقُولُونَ إنَّ هَذا واجِبٌ مِنَ الدِّينِ، فَلَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِمْ مِثْلَ ما صَعُبَ عَلى قَوْمِ إبْراهِيمَ قَوْلُ إبْراهِيمَ، فَقالُوا إنَّكَ تَقُولُ إنَّ هَذا حَرامٌ واللَّهُ يُعَذِّبُ عَلَيْهِ ونَحْنُ نَقُولُ لا يُعَذِّبُ، فَإنْ كُنْتَ صادِقًا فَأْتِنا بِالعَذابِ، فَإنْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ في مَوْضِعٍ أخَرَ ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكُمْ﴾ (النَّمْلِ: ٥٦ ) وقالَ هَهُنا ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا ائْتِنا﴾ فَكَيْفَ الجَمْعُ ؟ فَنَقُولُ لُوطٌ كانَ ثابِتًا عَلى الإرْشادِ مُكَرِّرًا عَلَيْهِمُ التَّغْيِيرَ والنَّهْيَ والوَعِيدَ، فَقالُوا أوَّلًا: ائْتِنا، ثُمَّ لَمّا كَثُرَ مِنهُ ذَلِكَ ولَمْ يَسْكُتْ عَنْهم قالُوا: أخْرِجُوا، ثُمَّ إنَّ لُوطًا لَمّا يَئِسَ مِنهم طَلَبَ النُّصْرَةَ مِنَ اللَّهِ وذَكَّرَهم بِما لا يُحِبُّ اللَّهُ فَـ ﴿قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلى القَوْمِ المُفْسِدِينَ﴾ فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ، حَتّى يُنْجِزَ النَّصْرَ. واعْلَمْ أنَّ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ ما طَلَبَ هَلاكَ قَوْمٍ إلّا إذا عَلِمَ أنَّ عَدَمَهم خَيْرٌ مِن وُجُودِهِمْ، كَما قالَ نُوحٌ: ﴿إنَّكَ إنْ تَذَرْهم يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إلّا فاجِرًا كَفّارًا﴾ (نُوحٍ: ٢٧ ) يَعْنِي: المَصْلَحَةُ إمّا فِيهِمْ حالًا، أوْ بِسَبَبِهِمْ مَآلًا ولا (p-٥٣)مَصْلَحَةَ فِيهِمْ، فَإنَّهم يَضِلُّونَ في الحالِ وفي المَآلِ فَإنَّهم يُوصُونَ الأوْلادَ مِن صِغَرِهِمْ بِالِامْتِناعِ مِنَ الِاتِّباعِ، فَكَذَلِكَ لُوطٌ لَمّا رَأى أنَّهم يُفْسِدُونَ في الحالِ واشْتَغَلُوا بِما لا يُرْجى مَعَهُ مِنهم ولَدٌ صالِحٌ يَعْبُدُ اللَّهَ، بَطَلَتِ المَصْلَحَةُ حالًا ومَآلًا، فَعَدَمُهم صارَ خَيْرًا، فَطَلَبَ العَذابَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب