الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقالَ إنَّما اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ أوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكم في الحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا ومَأْواكُمُ النّارُ وما لَكم مِن ناصِرِينَ﴾
لَمّا خَرَجَ إبْراهِيمُ مِنَ النّارِ عادَ إلى عَذْلِ الكُفّارِ وبَيانِ فَسادِ ما هم عَلَيْهِ، وقالَ: إذا بَيَّنْتُ لَكم فَسادَ مَذْهَبِكم وما كانَ لَكم جَوابٌ ولا تَرْجِعُونَ عَنْهُ، فَلَيْسَ هَذا إلّا تَقْلِيدًا، فَإنَّ بَيْنَ بَعْضِكم وبَعْضٍ مَوَدَّةً فَلا يُرِيدُ أحَدُكم أنْ يُفارِقَهُ صاحِبُهُ في السِّيرَةِ والطَّرِيقَةِ، أوْ بَيْنَكم وبَيْنَ آبائِكم مَوَدَّةٌ فَوَرِثْتُمُوهم وأخَذْتُمْ مَقالَتَهم ولَزِمْتُمْ ضَلالَتَهم وجَهالَتَهم فَقَوْلُهُ: (إنَّما اتَّخَذْتُمْ. . . . . . . . مَوَدَّةَ بَيْنِكم ) يَعْنِي لَيْسَ بِدَلِيلٍ أصْلًا وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو تَحْقِيقٌ دَقِيقٌ، وهو أنْ يُقالَ: قَوْلُهُ: (إنَّما اتَّخَذْتُمْ. . . . . . مَوَدَّةَ بَيْنِكم) أيْ مَوَدَّةً بَيْنَ الأوْثانِ وبَيْنَ عَبَدَتِها، وتِلْكَ المَوَدَّةُ هي أنَّ الإنْسانَ مُشْتَمِلٌ عَلى جِسْمٍ وعَقْلٍ، ولِجِسْمِهِ لَذّاتٌ جُسْمانِيَّةٌ ولِعَقْلِهِ لَذّاتٌ عَقْلِيَّةٌ، ثُمَّ إنَّ مَن غَلَبَتْ فِيهِ الجِسْمِيَّةُ لا يَلْتَفِتُ إلى اللَّذّاتِ العَقْلِيَّةِ، ومَن غَلَبَتْ عَلَيْهِ العَقْلِيَّةُ لا يَلْتَفِتُ إلى اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ، كالمَجْنُونِ إذا احْتاجَ إلى قَضاءِ حاجَةٍ مِن أكْلٍ أوْ شُرْبٍ أوْ إراقَةِ ماءٍ وهو بَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الأكابِرِ في مَجْمَعٍ يَحْصُلُ ما فِيهِ لَذَّةُ جِسْمِهِ مِنَ الأكْلِ وإراقَةِ الماءِ وغَيْرِهِما ولا يَلْتَفِتُ إلى اللَّذَّةِ العَقْلِيَّةِ مِن حُسْنِ السِّيرَةِ وحَمْدِ الأوْصافِ ومَكْرُمَةِ الأخْلاقِ. والعاقِلُ يَحْمِلُ الألَمَ الجُسْمانِيَّ ويُحَصِّلُ اللَّذَّةَ العَقْلِيَّةَ، حَتّى لَوْ غَلَبَتْ قُوَّتُهُ الدّافِعَةُ عَلى قُوَّتِهِ الماسِكَةِ وخَرَجَ مِنهُ رِيحٌ أوْ قَطْرَةُ ماءٍ يَكادُ يَمُوتُ مِنَ الخَجالَةِ والألَمِ العَقْلِيِّ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَهم كانُوا قَلِيلِي العَقْلِ غَلَبَتِ الجِسْمِيَّةُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَتَّسِعْ عَقْلُهم لِمَعْبُودٍ لا يَكُونُ فَوْقَهم ولا تَحْتَهم، ولا يَمِينَهم ولا يَسارَهم، ولا قُدّامَهم ولا وراءَهم، ولا يَكُونُ جِسْمًا مِنَ الأجْسامِ، ولا شَيْئًا يَدْخُلُ في الأوْهامِ، ورَأوُا الأجْسامَ المُناسِبَةَ لِلْغالِبِ فِيهِمْ مُزَيَّنَةً بِجَواهِرَ فَوَدُّوها، فاتِّخاذُهُمُ الأوْثانَ كانَ مَوَدَّةً بَيْنَهم وبَيْنَ الأوْثانِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ﴾ يَعْنِي يَوْمَ يَزُولُ عَمى القُلُوبِ وتَتَبَيَّنُ الأُمُورُ لِلَّبِيبِ والغَفُولِ، يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَعْلَمُ فَسادَ ما كانَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ العابِدُ ما هَذا مَعْبُودِي، ويَقُولُ المَعْبُودُ ما هَؤُلاءِ عَبَدَتِي ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا، ويَقُولُ هَذا لِذاكَ: أنْتَ أوْقَعْتَنِي في العَذابِ حَيْثُ عَبَدْتَنِي، ويَقُولُ ذاكَ لِهَذا أنْتَ أوْقَعْتَنِي فِيهِ حَيْثُ أضْلَلْتَنِي بِعِبادَتِكَ، ويُرِيدُ كُلُّ واحِدٍ أنْ يُبْعِدَ صاحِبَهُ بِاللَّعْنِ ولا يَتَباعَدُونَ، بَلْ هم مُجْتَمِعُونَ في النّارِ كَما كانُوا مُجْتَمِعِينَ في هَذِهِ الدّارِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ومَأْواكُمُ النّارُ﴾ ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما لَكم مِن ناصِرِينَ﴾ يَعْنِي لَيْسَ تِلْكَ النّارُ مِثْلَ نارِكُمُ الَّتِي أنْجى اللَّهُ مِنها إبْراهِيمَ ونَصَرَهُ فَأنْتُمْ في النّارِ ولا ناصِرَ لَكم، وهَهُنا مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ قَبْلَ هَذا: ﴿وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ عَلى لَفْظِ الواحِدِ، وقالَ هَهُنا عَلى لَفْظِ الجَمْعِ: ﴿وما لَكم مِن ناصِرِينَ﴾ والحِكْمَةُ فِيهِ أنَّهم لَمّا أرادُوا إحْراقَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالُوا نَحْنُ نَنْصُرُ آلِهَتَنا كَما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهم ﴿حَرِّقُوهُ وانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ (الأنْبِياءِ: ٦٨) فَقالَ: أنْتُمُ ادَّعَيْتُمْ أنَّ لِهَؤُلاءِ ناصِرِينَ فَما لَكم ولَهم أيْ: لِلْأوْثانِ وعَبَدَتِها مِن ناصِرِينَ، وأمّا هُناكَ ما سَبَقَ مِنهم دَعْوى النّاصِرِينَ فَنَفى الجِنْسَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا نَصِيرٍ﴾ .
(p-٤٩)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ هُناكَ: ﴿ما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ وما ذَكَرَ الوَلِيَّ هَهُنا فَنَقُولُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ المُرادَ بِالوَلِيِّ الشَّفِيعُ، يَعْنِي: لَيْسَ لَكم شافِعٌ ولا نَصِيرٌ دافِعٌ، وهَهُنا لَمّا كانَ الخِطابُ دَخَلَ فِيهِ الأوْثانُ أيْ: ما لَكم كُلِّكم، لَمْ يَقُلْ: شَفِيعٌ لِأنَّهم كانُوا مُعْتَرِفِينَ أنَّ كُلَّهم لَيْسَ لَهم شافِعٌ لِأنَّهم كانُوا يَدَّعُونَ أنَّ آلِهَتَهم شُفَعاءُ، كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا﴾ (يُونُسَ: ١٨ ) والشَّفِيعُ لا يَكُونُ لَهُ شَفِيعٌ، فَما نَفى عَنْهُمُ الشَّفِيعَ لِعَدَمِ الحاجَةِ إلى نَفْيِهِ لِاعْتِرافِهِمْ بِهِ، وأمّا هُناكَ فَكانَ الكَلامُ مَعَهم وهم كانُوا يَدَّعُونَ أنَّ لِأنْفُسِهِمْ شُفَعاءَ فَنَفى.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ هُناكَ ﴿وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ﴾ فَذُكِرَ عَلى مَعْنى الِاسْتِثْناءِ فَيُفْهَمُ أنَّ لَهم ناصِرًا ووَلِيًّا هو اللَّهُ، ولَيْسَ لَهم غَيْرُهُ ولِيٌّ وناصِرٌ وقالَ هَهُنا ﴿وما لَكم مِن ناصِرِينَ﴾ مِن غَيْرِ اسْتِثْناءٍ فَنَقُولُ كانَ ذَلِكَ وارِدًا عَلى أنَّهم في الدُّنْيا فَقالَ لَهم في الدُّنْيا: لا تَظُنُّوا أنَّكم تُعْجِزُونَ اللَّهَ فَما لَكم أحَدٌ يَنْصُرُكم، بَلِ اللَّهُ تَعالى يَنْصُرُكم إنْ تُبْتُمْ، فَهو ناصِرٌ مُعَدٌّ لَكم مَتى أرَدْتُمُ اسْتَنْصَرْتُمُوهُ بِالتَّوْبَةِ وهَذا يَوْمَ القِيامَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ﴾ وعَدَمُ النّاصِرِ عامٌّ لِأنَّ التَّوْبَةَ في ذَلِكَ اليَوْمِ لا تُقْبَلْ فَسَواءٌ تابُوا أوْ لَمْ يَتُوبُوا لا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ ولا ناصِرَ لَهم غَيْرُهُ فَلا ناصِرَ لَهم مُطْلَقًا.
{"ayah":"وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡثَـٰنࣰا مَّوَدَّةَ بَیۡنِكُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ ثُمَّ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَكۡفُرُ بَعۡضُكُم بِبَعۡضࣲ وَیَلۡعَنُ بَعۡضُكُم بَعۡضࣰا وَمَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّـٰصِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق