الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا﴾ . وجْهُ تَعَلُّقِ الآيَةِ بِما قَبْلَها هو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ التَّكْلِيفَ، وذَكَرَ أقْسامَ المُكَلَّفِينَ، ووَعَدَ المُؤْمِنَ الصّادِقَ بِالثَّوابِ العَظِيمِ، وأوْعَدَ الكافِرَ والمُنافِقَ بِالعَذابِ الألِيمِ، وكانَ قَدْ ذَكَرَ أنَّ هَذا التَّكْلِيفَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ وأصْحابِهِ وأُمَّتِهِ حَتّى صَعُبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، بَلْ قَبْلَهُ كانَ كَذَلِكَ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ (العَنْكَبُوتِ: ٣ ) ذَكَرَ مِن جُمْلَةِ مَن كَلَّفَ جَماعَةً، مِنهم: نُوحٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ وقَوْمُهُ، ومِنهم إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وغَيْرُهُما، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ما الفائِدَةُ في ذِكْرِ مُدَّةٍ لُبْثِهِ ؟ نَقُولُ: كانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِسَبَبِ عَدَمِ دُخُولِ الكُفّارِ في الإسْلامِ، وإصْرارِهِمْ عَلى الكُفْرِ، فَقالَ: إنَّ نُوحًا لَبِثَ ألْفَ سَنَةٍ تَقْرِيبًا في الدُّعاءِ، ولَمْ يُؤْمِن مِن قَوْمِهِ إلّا قَلِيلٌ، وصَبَرَ وما ضَجِرَ، فَأنْتَ أوْلى بِالصَّبْرِ لِقِلَّةِ مُدَّةِ لُبْثِكَ، وكَثْرَةِ عَدَدِ أُمَّتِكَ، وأيْضًا كانَ الكُفّارُ يَغْتَرُّونَ بِتَأْخِيرِ العَذابِ عَنْهم أكْثَرَ، ومَعَ ذَلِكَ ما نَجَوْا فَبِهَذا المِقْدارِ مِنَ التَّأْخِيرِ لا يَنْبَغِي أنْ يَغْتَرُّوا فَإنَّ العَذابَ يَلْحَقُهم. (p-٣٨)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ بَعْضُ العُلَماءِ: الِاسْتِثْناءُ في العَدَدِ تَكَلُّمٌ بِالباقِي، فَإذا قالَ القائِلُ: لِفُلانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلّا ثَلاثَةً، فَكَأنَّهُ قالَ عَلَيَّ سَبْعَةٌ، إذا عُلِمَ هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا﴾ كَقَوْلِهِ: تِسْعَمِائَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، فَما الفائِدَةُ في العُدُولِ عَنْ هَذِهِ العِبارَةِ إلى غَيْرِها ؟ فَنَقُولُ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ فائِدَتانِ: إحْداهُما: أنَّ الِاسْتِثْناءَ يَدُلُّ عَلى التَّحْقِيقِ وتَرْكَهُ قَدْ يُظَنُّ بِهِ التَّقْرِيبُ، فَإنَّ مَن قالَ: عاشَ فُلانٌ ألْفَ سَنَةٍ أيْ يُمْكِنُ أنْ يُتَوَهَّمَ أنْ يَقُولَ: ألْفُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا لا تَحْقِيقًا، فَإذا قالَ إلّا شَهْرًا أوْ إلّا سَنَةً يَزُولُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ ويُفْهَمُ مِنهُ التَّحْقِيقُ. الثّانِيَةُ: هي أنَّ ذِكْرَ لُبْثِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ في قَوْمِهِ كانَ لِبَيانِ أنَّهُ صَبَرَ كَثِيرًا، فالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ أوْلى بِالصَّبْرِ مَعَ قِصَرِ مُدَّةِ دُعائِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَذِكْرُ العَدَدِ الَّذِي في أعْلى مَراتِبِ الأعْدادِ الَّتِي لَها اسْمٌ مُفْرَدٌ مَوْضُوعٌ، فَإنَّ مَراتِبَ الأعْدادَ هي الآحادُ إلى العَشَرَةِ، والعَشَراتُ إلى المِائَةِ، والمِئاتُ إلى الألْفِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّكْرِيرِ فَيُقالُ عَشَرَةُ آلافٍ، ومِائَةُ ألْفٍ، وألْفُ ألْفٍ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ بَعْضُ الأطِبّاءِ العُمُرُ الإنْسانِيُّ لا يَزِيدُ عَلى مِائَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً والآيَةُ تَدُلُّ عَلى خِلافِ قَوْلِهِمْ، والعَقْلُ يُوافِقُها فَإنَّ البَقاءَ عَلى التَّرْكِيبِ الَّذِي في الإنْسانِ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، وإلّا لَما بَقِيَ، ودَوامُ تَأْثِيرِ المُؤَثِّرِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لِأنَّ المُؤَثِّرَ فِيهِ إنْ كانَ واجِبَ الوُجُودِ فَظاهِرُ الدَّوامِ، وإنْ كانَ غَيْرَهُ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ، ويَنْتَهِي إلى الواجِبِ وهو دائِمٌ، فَتَأْثِيرُهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ دائِمًا فَإذَنْ البَقاءُ مُمْكِنٌ في ذاتِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَلِعارِضٍ لَكِنَّ العارِضَ مُمْكِنُ العَدَمِ، وإلّا لَما بَقِيَ هَذا المِقْدارُ لِوُجُوبِ وُجُودِ العارِضِ المانِعِ، فَظَهَرَ أنَّ كَلامَهم عَلى خِلافِ العَقْلِ والنَّقْلِ. (ثُمَّ نَقُولُ) لا نِزاعَ بَيْنَنا وبَيْنَهم لِأنَّهم يَقُولُونَ: العُمُرُ الطَّبِيعِيُّ لا يَكُونُ أكْثَرَ مِن مِائَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً، ونَحْنُ نَقُولُ: هَذا العُمُرُ لَيْسَ طَبِيعِيًّا بَلْ هو عَطاءٌ إلَهِيٌّ، وأمّا العُمُرُ الطَّبِيعِيُّ فَلا يَدُومُ عِنْدَنا ولا لَحْظَةً، فَضْلًا عَنْ مِائَةٍ أوْ أكْثَرَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأخَذَهُمُ الطُّوفانُ وهم ظالِمُونَ﴾ . فِيهِ إشارَةٌ إلى لَطِيفَةٍ، وهي أنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ عَلى مُجَرَّدِ وُجُودِ الظُّلْمِ وإلّا لَعَذَّبَ مَن ظَلَمَ وتابَ، فَإنَّ الظُّلْمَ وُجِدَ مِنهُ، وإنَّما يُعَذِّبُ عَلى الإصْرارِ عَلى الظُّلْمِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وهم ظالِمُونَ﴾ يَعْنِي: أهْلَكَهم وهم عَلى ظُلْمِهِمْ، ولَوْ كانُوا تَرَكُوهُ لَما أهْلَكَهم. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأنْجَيْناهُ وأصْحابَ السَّفِينَةِ وجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ فِي الرّاجِعِ إلَيْهِ الهاءُ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْناها﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّها راجِعَةٌ إلى السَّفِينَةِ المَذْكُورَةِ، وعَلى هَذا فَفي كَوْنِها آيَةً وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّها اتُّخِذَتْ قَبْلَ ظُهُورِ الماءِ ولَوْلا إعْلامُ اللَّهِ نُوحًا وإنْباؤُهُ إيّاهُ بِهِ لَما اشْتَغَلَ بِها فَلا تَحْصُلُ لَهُمُ النَّجاةُ. وثانِيها: أنَّ نُوحًا أُمِرَ بِأخْذِ قَوْمٍ مَعَهُ، ورَفْعِ قَدْرٍ مِنَ القُوتِ، والبَحْرُ العَظِيمُ لا يَتَوَقَّعُ أحَدٌ نُضُوبَهُ، ثُمَّ إنَّ الماءَ غِيضَ قَبْلَ نَفادِ الزّادِ ولَوْلا ذَلِكَ لَما حَصَلَ النَّجاةُ فَهو بِفَضْلِ اللَّهِ لا بِمُجَرَّدِ السَّفِينَةِ. وثالِثُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى كَتَبَ سَلامَةَ السَّفِينَةِ عَنِ الرِّياحِ المُرْجِفَةِ والحَيَواناتِ المُؤْذِيَةِ، ولَوْلا ذَلِكَ لَما حَصَلَتِ النَّجاةُ. والثّانِي: أنَّها راجِعَةٌ إلى الواقِعَةِ أوْ إلى النَّجاةِ أيْ جَعَلْنا الواقِعَةَ أوِ النَّجاةَ آيَةً لِلْعالَمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب