الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأمّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ﴾ ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿ورَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾ ﴿وهُوَ اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو لَهُ الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ حالَ المُعَذَّبِينَ مِنَ الكُفّارِ وما يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ التَّوْبِيخِ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَن يَتُوبُ مِنهم في الدُّنْيا تَرْغِيبًا في التَّوْبَةِ وزَجْرًا عَنِ الثَّباتِ عَلى الكُفْرِ فَقالَ: ﴿فَأمّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ﴾ وفي عَسى وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّهُ مِنَ الكِرامِ تَحْقِيقٌ واللَّهُ أكْرَمُ الأكْرَمِينَ. وثانِيها: أنْ يُرادَ تَرَجِّي التّائِبِ وطَمَعُهُ كَأنَّهُ قالَ: فَلْيَطْمَعْ في الفَلاحِ. وثالِثُها: عَسى أنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ إنْ دامُوا عَلى التَّوْبَةِ والإيمانِ لِجَوازِ أنْ لا يَدُومُوا، واعْلَمْ أنَّ القَوْمَ كانُوا يَذْكُرُونَ شُبْهَةً أُخْرى ويَقُولُونَ: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزُّخْرُفِ: ٣١) يَعْنُونَ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ، أوْ أبا مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾ والمُرادُ أنَّهُ المالِكُ المُطْلَقُ وهو مُنَزَّهٌ عَنِ النَّفْعِ والضُّرِّ فَلَهُ أنْ يَخُصَّ مَن شاءَ بِما شاءَ لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ ألْبَتَّةَ، وعَلى طَرِيقَةِ المُعْتَزِلَةِ لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ حَكِيمٌ مُطْلَقٌ عُلِمَ أنَّهُ كُلَّ ما فَعَلَهُ كانَ حِكْمَةً وصَوابًا فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ وقَوْلُهُ: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ والخِيَرَةُ اسْمٌ مِنَ الِاخْتِيارِ قامَ مَقامَ المَصْدَرِ والخِيَرَةُ أيْضًا اسْمٌ لِلْمُخْتارِ، يُقالُ مُحَمَّدٌ خِيَرَةُ اللَّهِ في خَلْقِهِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ في الآيَةِ وجْهانِ: الأوَّلُ: وهو الأحْسَنُ أنْ يَكُونَ تَمامُ الوَقْفِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ويَخْتارُ﴾ ويَكُونُ ﴿ما﴾ نَفْيًا، والمَعْنى: ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾ لَيْسَ لَهُمُ الخِيَرَةُ؛ إذْ لَيْسَ لَهم أنْ يَخْتارُوا عَلى اللَّهِ أنْ يَفْعَلَ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ ﴿ما﴾ بِمَعْنى الَّذِي فَيَكُونُ الوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ ثُمَّ يَقُولُ: ﴿ويَخْتارُ﴾ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ، قالَ (p-١٠)أبُو القاسِمِ الأنْصارِيُّ: وهَذا مُتَعَلَّقُ المُعْتَزِلَةِ في إيجابِ الصَّلاحِ والأصْلَحِ عَلَيْهِ، وأيُّ صَلاحٍ في تَكْلِيفِ مَن عَلِمَ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ ولَوْ لَمْ يُكَلِّفْهُ لاسْتَحَقَّ الجَنَّةَ والنَّعِيمَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ؟ فَإنْ قِيلَ: لَمّا كَلَّفَهُ اسْتَوْجَبَ عَلى اللَّهِ ما هو الأفْضَلُ؛ لِأنَّ المُسْتَحِقَّ أفْضَلُ مِنَ المُتَفَضِّلِ بِهِ، قُلْنا: إذا عَلِمَ قَطْعًا أنَّهُ لا يَحْصُلُ ذَلِكَ الأفْضَلُ فَتَوْرِيطُهُ في العِقابِ الأبَدِيِّ لا يَكُونُ رِعايَةً لِلْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُمُ: المُسْتَحِقُّ خَيْرٌ مِنَ المُتَفَضِّلِ بِهِ جَهْلٌ؛ لِأنَّ ذَلِكَ التَّفاوُتَ إنَّما يَحْصُلُ في حَقِّ مَن يَسْتَنْكِفُ مِن تُفَضُّلِهِ، أمّا الَّذِي ما حَصَّلَ الذّاتَ والصِّفاتِ إلّا بِخَلْقِهِ وبِفَضْلِهِ وإحْسانِهِ فَكَيْفَ يَسْتَنْكِفُ مِن تَفَضُّلِهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ والمَقْصُودُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ الخَلْقَ والِاخْتِيارَ والإعْزازَ والإذْلالَ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ لَيْسَ لِأحَدٍ فِيهِ شَرِكَةٌ ومُنازَعَةٌ، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِأنَّهُ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم مِن عَداوَةِ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- وما يُعْلِنُونَ مِن مَطاعِنِهِمْ فِيهِ، وقَوْلِهِمْ هَلّا اخْتِيرَ غَيْرُهُ في النُّبُوَّةِ، ولَمّا بَيَّنَ عِلْمَهُ بِما هم عَلَيْهِ مِنَ الغِلِّ والحَسَدِ والسَّفاهَةِ قالَ: ﴿وهُوَ اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى كَوْنِهِ قادِرًا عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، وعالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، مُنَزَّهًا عَنِ النَّقائِصِ والآفاتِ، يُجازِي المُحْسِنِينَ عَلى طاعَتِهِمْ، ويُعاقِبُ العُصاةَ عَلى عِصْيانِهِمْ، وفِيهِ نِهايَةُ الزَّجْرِ والرَّدْعِ لِلْعُصاةِ ونِهايَةُ تَقْوِيَةِ القَلْبِ لِلْمُطِيعِينَ، ويُحْتَمَلُ أيْضًا أنَّهُ لَمّا بَيَّنَ فَسادَ طَرِيقِ المُشْرِكِينَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ﴾ فَيَقُولُ: ﴿أيْنَ شُرَكائِيَ﴾ خَتَمَ الكَلامَ في ذَلِكَ بِإظْهارِ هَذا التَّوْحِيدِ وبَيانِ أنَّ الحَمْدَ والثَّناءَ لا يَلِيقُ إلّا بِهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿لَهُ الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ﴾ فَهو ظاهِرٌ عَلى قَوْلِنا؛ لِأنَّ الثَّوابَ غَيْرُ واجِبٍ عَلَيْهِ، بَلْ هو سُبْحانَهُ يُعْطِيهِ فَضْلًا وإحْسانًا، فَلَهُ الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ، ويُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ أهْلِ الجَنَّةِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ﴾ (فاطِرٍ: ٣٤ )، ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وعْدَهُ﴾ (الزُّمَرِ: ٧٤ )، ﴿وآخِرُ دَعْواهم أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ (يُونُسَ: ١٠) أمّا المُعْتَزِلَةُ فَعِنْدَهُمُ الثَّوابُ مُسْتَحَقٌّ فَلا يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ بِفِعْلِهِ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، وأمّا أهْلُ النّارِ فَما أنْعَمَ عَلَيْهِمْ حَتّى يَسْتَحِقَّ الحَمْدَ مِنهم، قالَ القاضِي: إنَّهُ يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ والشُّكْرَ مِن أهْلِ النّارِ أيْضًا بِما فَعَلَهُ بِهِمْ في الدُّنْيا مِنَ التَّمْكِينِ والتَّيْسِيرِ والألْطافِ وسائِرِ النِّعَمِ؛ لِأنَّهم بِإساءَتِهِمْ لا يَخْرُجُ ما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن أنْ يُوجِبَ الشُّكْرَ، وهَذا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ أهْلَ الآخِرَةِ مُضْطَرُّونَ إلى مَعْرِفَةِ الحَقِّ، فَإذا عَلِمُوا بِالضَّرُورَةِ أنَّ التَّوْبَةَ عَنِ القَبائِحِ يَجِبُ عَلى اللَّهِ قَبُولُها، وعَلِمُوا بِالضَّرُورَةِ أنَّ الِاشْتِغالَ بِالشُّكْرِ الواجِبِ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ عَلى اللَّهِ الثَّوابَ، وهم قادِرُونَ عَلى ذَلِكَ وعالِمُونَ بِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يُخَلِّصُهم عَنِ العَذابِ، ويُدْخِلُهم في اسْتِحْقاقِ الثَّوابِ، أفَتَرى أنَّ الإنْسانَ مَعَ العِلْمِ بِذَلِكَ والقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَتْرُكُ هَذِهِ التَّوْبَةَ ؟ كَلّا، بَلْ لا بُدَّ أنْ يَتُوبُوا وأنْ يَشْتَغِلُوا بِالشُّكْرِ، ومَتى فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ بَطَلَ العِقابُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولَهُ الحُكْمُ﴾ فَهو إمّا في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ، فَأمّا في الدُّنْيا فَحُكْمُ كُلِّ أحَدٍ سِواهُ إنَّما نُفِّذَ بِحُكْمِهِ، فَلَوْلا حُكْمُهُ لَما نُفِّذَ عَلى العَبْدِ حُكْمُ سَيِّدِهِ، ولا عَلى الزَّوْجَةِ حُكْمُ زَوْجِها، ولا عَلى الِابْنِ حُكْمُ أبِيهِ، ولا عَلى الرَّعِيَّةِ حُكْمُ سُلْطانِهِمْ، ولا عَلى الأُمَّةِ حُكْمُ الرَّسُولِ، فَهو الحاكِمُ في الحَقِيقَةِ، وأمّا في الآخِرَةِ فَلا شَكَّ أنَّهُ هو الحاكِمُ، لِأنَّهُ الَّذِي يَتَوَلّى الحُكْمَ بَيْنَ العِبادِ في الآخِرَةِ، فَيَنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظّالِمِينَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فالمَعْنى: وإلى مَحَلِّ حُكْمِهِ وقَضائِهِ تُرْجَعُونَ، فَإنَّ كَلِمَةَ (إلى) لِانْتِهاءِ الغايَةِ، وهو تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ المَكانِ والجِهَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب