الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهم لَمْ تُسْكَنْ مِن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلًا وكُنّا نَحْنُ الوارِثِينَ﴾ ﴿وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنا وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الجَوابُ الثّانِي عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ لِأهْلِ مَكَّةَ ما خُصُّوا بِهِ مِنَ النِّعَمِ أتْبَعَهُ بِما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى بِالأُمَمِ الماضِيَةِ الَّذِينَ كانُوا في نِعَمِ الدُّنْيا، فَلَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أزالَ اللَّهُ عَنْهم تِلْكَ النِّعَمَ، والمَقْصُودُ أنَّ الكُفّارَ لَمّا قالُوا: إنّا لا نُؤْمِنُ خَوْفًا مِن زَوالِ نِعْمَةِ الدُّنْيا، فاللَّهُ تَعالى بَيَّنَ لَهم أنَّ الإصْرارَ عَلى عَدَمِ قَبُولِ الإيمانِ هو الَّذِي يُزِيلُ هَذِهِ النِّعَمَ، لا الإقْدامُ عَلى الإيمانِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: البَطَرُ سُوءُ احْتِمالِ الغِنى، وهو أنْ لا يَحْفَظَ حَقَّ اللَّهِ تَعالى فِيهِ، وانْتَصَبَتْ ﴿مَعِيشَتَها﴾ إمّا بِحَذْفِ الجارِّ واتِّصالِ الفِعْلِ كَقَوْلِهِ: ﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ﴾ (الأعْرافِ: ١٥٥) أوْ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الزَّمانِ المُضافِ، وأصْلُهُ بَطِرَتْ أيّامَ مَعِيشَتِها، وإمّا تَضْمِينُ بَطِرَتْ مَعْنى كَفَرَتْ. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَتِلْكَ مَساكِنُهم لَمْ تُسْكَنْ مِن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلًا﴾ فَفي هَذا الِاسْتِثْناءِ وُجُوهٌ: أحَدُها: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَمْ يَسْكُنْها إلّا المُسافِرُ ومارُّ الطَّرِيقِ يَوْمًا أوْ ساعَةً. وثانِيها: يُحْتَمَلُ أنَّ شُؤْمَ مَعاصِي (p-٦)المُهْلَكِينَ بَقِيَ أثَرُهُ في دِيارِهِمْ، فَكُلُّ مَن سَكَنَها مِن أعْقابِهِمْ لَمْ يَبْقَ فِيها إلّا قَلِيلًا، وكُنّا نَحْنُ الوارِثِينَ لَها بَعْدَ هَلاكِ أهْلِها، وإذا لَمْ يَبْقَ لِلشَّيْءِ مالِكٌ مُعَيَّنٌ قِيلَ: إنَّهُ مِيراثُ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ الباقِي بَعْدَ فَناءِ خَلْقِهِ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ أهْلَكَ تِلْكَ القُرى بِسَبَبِ بَطَرِ أهْلِها، فَكَأنَّ سائِلًا أوْرَدَ السُّؤالَ مِن وجْهَيْنِ. الأوَّلُ: لِماذا ما أهْلَكَ اللَّهُ الكُفّارَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ -ﷺ- مَعَ أنَّهم كانُوا مُسْتَغْرِقِينَ في الكُفْرِ والعِنادِ ؟ الثّانِي: لِماذا ما أهْلَكَهم بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ -ﷺ- مَعَ تَمادِي القَوْمِ في الكُفْرِ بِاللَّهِ تَعالى والتَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ -ﷺ- ؟ فَأجابَ عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ بِقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنا﴾ وحاصِلُ الجَوابِ أنَّهُ تَعالى قَدَّمَ بَيانَ أنَّ عَدَمَ البَعْثَةِ يَجْرِي مَجْرى العُذْرِ لِلْقَوْمِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ إهْلاكُهم إلّا بَعْدَ البَعْثَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: ﴿وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا﴾ أيْ في القَرْيَةِ الَّتِي هي أُمُّها وأصْلُها وقَصَبَتُها الَّتِي هي أعْمالُها وتَوابِعُها رَسُولًا لِإلْزامِ الحُجَّةِ وقَطْعِ المَعْذِرَةِ. الثّانِي: وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى الَّتِي في الأرْضِ حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّ القُرى يَعْنِي مَكَّةَ رَسُولًا وهو مُحَمَّدٌ -ﷺ- خاتَمُ الأنْبِياءِ، ومَعْنى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنا﴾ يُؤَدِّي ويُبَلِّغُ، وأجابَ عَنِ السُّؤالِ الثّانِي بِقَوْلِهِ: ﴿وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ﴾ أنْفُسَهم بِالشِّرْكِ، وأهْلُ مَكَّةَ لَيْسُوا كَذَلِكَ؛ فَإنَّ بَعْضَهم قَدْ آمَنَ وبَعْضَهم عَلِمَ اللَّهُ مِنهم أنَّهم سَيُؤْمِنُونَ، وبَعْضٌ آخَرُونَ عَلِمَ اللَّهُ أنَّهم وإنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِن نَسْلِهِمْ مَن يَكُونُ مُؤْمِنًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب