الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ مِن عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِن قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وقالُوا إنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ﴾ ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ هو أهْدى مِنهُما أتَّبِعْهُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فاعْلَمْ أنَّما يَتَّبِعُونَ أهْواءَهم ومَن أضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ هم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وإذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنّا بِهِ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ ﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم أنَّهم عِنْدَ الخَوْفِ قالُوا: هَلّا أرْسَلْتَ إلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ، بَيَّنَ أيْضًا أنَّهُ بَعْدَ الإرْسالِ إلى أهْلِ مَكَّةَ، قالُوا: ﴿لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى﴾ فَهَؤُلاءِ قَبْلَ البَعْثَةِ يَتَعَلَّقُونَ بِشُبْهَةٍ، وبَعْدَ البَعْثَةِ يَتَعَلَّقُونَ بِأُخْرى، فَظَهَرَ أنَّهُ لا مَقْصُودَ لَهم سِوى الزَّيْغِ والعِنادِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا جاءَهُمُ الحَقُّ مِن عِنْدِنا﴾ أيْ جاءَهُمُ الرَّسُولُ المُصَدِّقُ بِالكِتابِ المُعْجِزِ مَعَ سائِرِ المُعْجِزاتِ، قالُوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى مِنَ الكِتابِ المُنَزَّلِ جُمْلَةً واحِدَةً، ومِن سائِرِ المُعْجِزاتِ كَقَلْبِ العَصا حَيَّةً، واليَدِ البَيْضاءِ، وفَلْقِ البَحْرِ، وتَظْلِيلِ الغَمامِ، وانْفِجارِ الحَجَرِ بِالماءِ، والمَنِّ والسَّلْوى، ومِن أنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ، وكَتَبَ لَهُ في الألْواحِ، وغَيْرِها مِنَ الآياتِ، فَجاءُوا بِالِاقْتِراحاتِ المَبْنِيَّةِ عَلى التَّعَنُّتِ والعِنادِ، كَما قالُوا: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾ وما أشْبَهَ ذَلِكَ. واعْلَمْ أنَّ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ غَيْرُ لازِمٍ؛ لِأنَّهُ لا يَجِبُ في مُعْجِزاتِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أنْ تَكُونَ واحِدَةً، ولا فِيما يَنْزِلُ إلَيْهِمْ مِنَ الكُتُبِ أنْ يَكُونَ عَلى وجْهٍ واحِدٍ؛ إذِ الصَّلاحُ قَدْ يَكُونُ في إنْزالِهِ مَجْمُوعًا كالتَّوْراةِ ومُفَرَّقًا كالقُرْآنِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أجابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِن قَبْلُ﴾ واخْتَلَفُوا في أنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَكْفُرُوا﴾ إلى مَن يَعُودُ، وذَكَرُوا وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّ اليَهُودَ أمَرُوا قُرَيْشًا أنْ يَسْألُوا مُحَمَّدًا أنْ يُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى﴾ يَعْنِي: أوَلَمْ (p-٢٢٣)تَكْفُرُوا يا هَؤُلاءِ اليَهُودُ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا هَذا السُّؤالَ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ تِلْكَ الآياتِ الباهِرَةِ. وثانِيها: إنَّ الَّذِينَ أوْرَدُوا هَذا الِاقْتِراحَ كُفّارُ مَكَّةَ، والَّذِينَ كَفَرُوا بِمُوسى هُمُ الَّذِينَ كانُوا في زَمانِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا أنَّهُ تَعالى جَعَلَهم كالشَّيْءِ الواحِدِ؛ لِأنَّهم في الكُفْرِ والتَّعَنُّتِ كالشَّيْءِ الواحِدِ. وثالِثُها: قالَ الكَلْبِيُّ: إنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ بَعَثُوا رَهْطًا إلى يَهُودِ المَدِينَةِ لِيَسْألَهم عَنْ مُحَمَّدٍ وشَأْنِهِ، فَقالُوا: إنّا نَجِدُهُ في التَّوْراةِ بِنَعْتِهِ وصِفَتِهِ، فَلَمّا رَجَعَ الرَّهْطُ إلَيْهِمْ وأخْبَرُوهم بِقَوْلِ اليَهُودِ قالُوا: إنَّهُ كانَ ساحِرًا كَما أنَّ مُحَمَّدًا ساحِرٌ، فَقالَ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى﴾ . ورابِعُها: قالَ الحَسَنُ: قَدْ كانَ لِلْعَرَبِ أصْلٌ في أيّامِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَمَعْناهُ عَلى هَذا أوَلَمْ يَكْفُرْ آباؤُهم بِأنْ قالُوا في مُوسى وهارُونَ ساحِرانِ. وخامِسُها: قالَ قَتادَةُ: أوَلَمْ يَكْفُرِ اليَهُودُ في عَصْرِ مُحَمَّدٍ بِما أُوتِيَ مُوسى مِن قَبْلُ مِنَ البِشارَةِ بِعِيسى ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِما السَّلامُ، فَقالُوا: ساحِرانِ. وسادِسُها: وهو الأظْهَرُ عِنْدِي أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ ومَكَّةَ كانُوا مُنْكِرِينَ لِجَمِيعِ النُّبُوّاتِ، ثُمَّ إنَّهم لَمّا طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ ﷺ مُعْجِزاتِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِن قَبْلُ﴾ بَلْ بِما أُوتِيَ جَمِيعُ الأنْبِياءِ مِن قَبْلُ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لا غَرَضَ لَكم في هَذا الِاقْتِراحِ إلّا التَّعَنُّتَ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَكى كَيْفِيَّةَ كُفْرِهِمْ بِما أُوتِيَ مُوسى مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: قَوْلُهم: ﴿سِحْرانِ تَظاهَرا﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وأهْلُ المَدِينَةِ (ساحِرانِ) بِالألْفِ، وقَرَأ أهْلُ الكُوفَةِ بِغَيْرِ ألْفٍ، وذَكَرُوا في تَفْسِيرِ السّاحِرَيْنَ وُجُوهًا: أحَدُها: المُرادُ هارُونُ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ تَظاهَرا أيْ تَعاوَنا، وقُرِئَ (اظّاهَرا) عَلى الإدْغامِ وسِحْرانِ بِمَعْنى ذَوَيْ سِحْرٍ، وجَعَلُوهُما سِحْرَيْنِ مُبالَغَةً في وصْفِهِما بِالسِّحْرِ، وكَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا قَوْلَهُ: ﴿سِحْرانِ﴾ بِأنَّ المُرادَ هو القُرْآنُ والتَّوْراةُ، واخْتارَ أبُو عُبَيْدَةَ القِراءَةَ بِالألِفِ؛ لِأنَّ المُظاهَرَةَ بِالنّاسِ وأفْعالِهِمْ أشْبَهُ مِنها بِالكُتُبِ وجَوابُهُ: إنّا بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿سِحْرانِ﴾ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى الرَّجُلَيْنِ، وبِتَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ الكِتابَيْنِ لَكِنْ لَمّا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الكِتابَيْنِ يُقَوِّي الآخَرَ لَمْ يَبْعُدْ أنْ يُقالَ عَلى سَبِيلِ المَجازِ: تَعاوَنا كَما تَقُولُ: تَظاهَرَتِ الأخْبارُ، وهَذِهِ التَّأْوِيلاتُ إنَّما تَصِحُّ إذا حَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿أوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى﴾ إمّا عَلى كُفّارِ مَكَّةَ أوْ عَلى الكُفّارِ الَّذِينَ كانُوا في زَمانِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ ألْيَقُ بِمَساقِ الآيَةِ. الثّانِي: قَوْلُهم: ﴿إنّا بِكُلٍّ كافِرُونَ﴾ أيْ بِما أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ ومُوسى وسائِرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا الكَلامَ لا يَلِيقُ إلّا بِالمُشْرِكِينَ لا بِاليَهُودِ، وذَلِكَ مُبالَغَةٌ في أنَّهم مَعَ كَثْرَةِ آياتِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَذَّبُوهُ، فَما الَّذِي يَمْنَعُ مِن مِثْلِهِ في مُحَمَّدٍ ﷺ وإنْ ظَهَرَتْ حُجَّتُهُ ؟ ولَمّا أجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْ شُبَهِهِمْ ذَكَرَ الحجة الدّالَّةَ عَلى صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقالَ: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ هو أهْدى مِنهُما أتَّبِعْهُ﴾ وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى عَجْزِهِمْ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ، قالَ الزَّجّاجُ: (أتَّبِعْهُ) بِالجَزْمِ عَلى الشَّرْطِ، ومَن قَرَأ (أتَّبِعُهُ) بِالرَّفْعِ، فالتَّقْدِيرُ: أنا أتَّبِعُهُ، ثم قال: ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ فَإنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِما جِئْتَ بِهِ مِنَ الحُجَجِ، وقالَ مُقاتِلٌ: فَإنْ لَمْ يُمْكِنْهم أنْ يَأْتُوا بِكِتابِ أفْضَلَ مِنهُما، وهَذا أشْبَهُ بِالآيَةِ، فَإنْ قِيلَ: الِاسْتِجابَةُ تَقْتَضِي دُعاءً، فَأيْنَ الدُّعاءُ هَهُنا ؟ قُلْنا: قَوْلُهُ: ﴿فَأْتُوا بِكِتابٍ﴾ أمْرٌ والأمْرُ دُعاءٌ إلى الفِعْلِ، ثم قال: ﴿فاعْلَمْ أنَّما يَتَّبِعُونَ أهْواءَهُمْ﴾ يَعْنِي قَدْ صارُوا مُلْزَمِينَ ولَمْ يَبْقَ لَهم شَيْءٌ إلّا اتِّباعَ الهَوى، ثُمَّ زَيَّفَ طَرِيقَتَهم بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن أضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ وهَذا مِن أعْظَمِ الدَّلائِلِ عَلى فَسادِ التَّقْلِيدِ، وأنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الحجة والِاسْتِدْلالِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ وهو عامٌّ يَتَناوَلُ الكافِرَ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لُقْمانَ: ١٣) واحْتَجَّ الأصْحابُ بِهِ في أنَّ هِدايَةَ اللَّهِ تَعالى خاصَّةً بِالمُؤْمِنِينَ. وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الألْطافُ مِنها ما يَحْسُنُ فِعْلُها مُطْلَقًا، ومِنها ما لا يَحْسُنُ إلّا بَعْدَ الإيمانِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ (p-٢٢٤)قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهم هُدًى﴾ (مُحَمَّدٍ: ١٧) فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ مَحْمُولٌ عَلى القِسْمِ الثّانِي، ولا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلى القِسْمِ الأوَّلِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّ عَدَمَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ جارٍ مَجْرى العُذْرِ لَهم، فَبِأنْ يَكُونَ عَدَمُ الهِدايَةِ عُذْرًا لَهم أوْلى، ولَمّا بَيَّنَ تَعالى نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِهَذِهِ الدَّلالَةِ، قالَ: ﴿ولَقَدْ وصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ﴾ وتَوْصِيلُ القَوْلِ هو إتْيانُ بَيانٍ بَعْدَ بَيانٍ، وهو مِن وصَلَ البَعْضَ بِالبَعْضِ، وهَذا القَوْلُ المُوصَلُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ: إنّا أنْزَلْنا القُرْآنَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا يَتَّصِلُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ أقْرَبَ إلى التَّذْكِيرِ والتَّنْبِيهِ، فَإنَّهم كُلَّ يَوْمٍ يَطَّلِعُونَ عَلى حِكْمَةٍ أُخْرى وفائِدَةٍ زائِدَةٍ، فَيَكُونُونَ عِنْدَ ذَلِكَ أقْرَبُ إلى التَّذَكُّرِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ، يَكُونُ هَذا جَوابًا عَنْ قَوْلِهِمْ: هَلّا أُوتِيَ مُحَمَّدٌ كِتابَهُ دَفْعَةً واحِدَةً كَما أُوتِيَ مُوسى كِتابَهُ كَذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: وصَّلْنا أخْبارَ الأنْبِياءِ بَعْضَها بِبَعْضٍ وأخْبارَ الكُفّارِ في كَيْفِيَّةِ هَلاكِهِمْ تَكْثِيرًا لِمَواضِعِ الِاتِّعاظِ والِانْزِجارِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: بَيَّنّا الدَّلالَةَ عَلى كَوْنِ هَذا القُرْآنِ مُعْجِزًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا أقامَ الدَّلالَةَ عَلى النُّبُوَّةِ أكَّدَ ذَلِكَ بِأنْ قالَ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِن قَبْلِهِ﴾ أيْ مِن قَبْلِ القُرْآنِ أسْلَمُوا بِمُحَمَّدٍ، فَمَن لا يَعْرِفُ الكُتُبَ أوْلى بِذَلِكَ، واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ قَتادَةُ: إنَّها نَزَلَتْ في أُناسٍ مِن أهْلِ الكِتابِ كانُوا عَلى شَرِيعَةٍ حَقَّةٍ يَتَمَسَّكُونَ بِها، فَلَمّا بَعَثَ اللَّهُ تَعالى مُحَمَّدًا آمَنُوا بِهِ مِن جُمْلَتِهِمْ سَلْمانُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ. وثانِيها: قالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في أرْبَعِينَ رَجُلًا مِن أهْلِ الإنْجِيلِ، وهم أصْحابُ السَّفِينَةِ جاءُوا مِنَ الحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرٍ. وثالِثُها: قالَ رِفاعَةُ بْنُ قَرَظَةَ: نَزَلَتْ في عَشْرَةٍ أنا أحَدُهم. وقَدْ عَرَفْتَ أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَكُلُّ مَن حَصَلَ في حَقِّهِ تِلْكَ الصِّفَةُ كانَ داخِلًا في الآيَةِ، ثُمَّ حَكى عَنْهم ما يَدُلُّ عَلى تَأْكِيدِ إيمانِهِمْ، وهو قَوْلُهم: ﴿آمَنّا بِهِ إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنا﴾ يَدُلُّ عَلى التَّعْلِيلِ يَعْنِي أنَّ كَوْنَهُ حَقًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ يُوجِبُ الإيمانَ بِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ بَيانٌ لِقَوْلِهِ: ﴿آمَنّا بِهِ﴾ لِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إيمانًا قَرِيبَ العَهْدِ وبَعِيدَهُ، فَأخْبَرُوا أنَّ إيمانَهم بِهِ مُتَقادِمٌ وذَلِكَ لِما وجَدُوهُ في كُتُبِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ المُتَقَدِّمِينَ مِنَ البِشارَةِ بِمَقْدِمِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا مَدَحَهم بِهَذا المَدْحِ العَظِيمِ، قالَ: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا﴾ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهم يُؤْتَوْنَ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ بِإيمانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ قَبْلَ بَعْثَتِهِ وبَعْدَ بَعْثَتِهِ، وهَذا هو الأقْرَبُ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهم آمَنُوا بِهِ بَعْدَ البَعْثَةِ، وبَيَّنَ أيْضًا أنَّهم كانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ قَبْلَ البَعْثَةِ، ثُمَّ أثْبَتَ الأجْرَ مَرَّتَيْنِ وجَبَ أنْ يَنْصَرِفَ إلى ذَلِكَ. وثانِيها: يُؤْتَوْنَ الأجْرَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِإيمانِهِمْ بِالأنْبِياءِ الَّذِي كانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ، ومَرَّةً أُخْرى بِإيمانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ . وثالِثُها: قالَ مُقاتِلٌ: هَؤُلاءِ لَمّا آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ شَتَمَهُمُ المُشْرِكُونَ فَصَفَحُوا عَنْهم، فَلَهم أجْرانِ أجْرٌ عَلى الصَّفْحِ وأجْرٌ عَلى الإيمانِ. يُرْوى أنَّهم لَمّا أسْلَمُوا لَعَنَهم أبُو جَهْلٍ فَسَكَتُوا عَنْهُ، قالَ السُّدِّيُّ: اليَهُودُ عابُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ وشَتَمُوهُ، وهو يَقُولُ: سَلامٌ عَلَيْكم. ثم قال: ﴿ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ والمَعْنى (يَدْفَعُونَ) بِالطّاعَةِ المَعْصِيَةَ المُتَقَدِّمَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ دَفَعُوا بِالعَفْوِ والصَّفْحِ الأذى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الحَسَنَةِ امْتِناعَهم مِنَ المَعاصِي؛ لِأنَّ نَفْسَ الِامْتِناعِ حَسَنَةٌ ويَدْفَعُ بِهِ ما لَوْلاهُ لَكانَ سَيِّئَةً، ويَحْتَمِلُ التَّوْبَةَ والإنابَةَ والِاسْتِقْرارَ عَلَيْها، ثم قال: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى مَدَحَهم أوَّلًا بِالإيمانِ ثُمَّ بِالطّاعاتِ البَدَنِيَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ ثُمَّ (p-٢٢٥)بِالطّاعاتِ المالِيَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ قالَ القاضِي: دَلَّ هَذا المَدْحُ عَلى أنَّ الحَرامَ لا يَكُونُ رِزْقًا؛ جَوابُهُ: أنَّ كَلِمَةَ مِن لِلتَّبْعِيضِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا المَدْحَ بِإنْفاقِ بَعْضِ ما كانَ رِزْقًا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ اسْتِدْلالُهُ، ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ اشْتِغالِهِمْ بِالطّاعاتِ والأفْعالِ الحَسَنَةِ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ إعْراضِهِمْ عَنِ الجُهّالِ، فَقالَ: ﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ﴾ واللَّغْوُ ما حَقُّهُ أنْ يُلْغى ويُتْرَكَ مِنَ العَبَثِ وغَيْرِهِ، وكانُوا يَسْمَعُونَ ذَلِكَ فَلا يَخُوضُونَ فِيهِ، بَلْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ إعْراضًا جَمِيلًا، فَلِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ وما أحْسَنَ ما قالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ في أنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ تَحِيَّةٌ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، وعَلامَةُ الِاحْتِمالِ مِنَ الجاهِلِينَ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعا لى: ﴿وعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ (الفُرْقانِ: ٦٣) ثُمَّ أكَّدَ تَعالى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ حاكِيًا عَنْهم: ﴿لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ﴾ والمُرادُ: لا نُجازِيهِمْ بِالباطِلِ عَلى باطِلِهِمْ، قالَ قَوْمٌ: نَسَخَ ذَلِكَ بِالأمْرِ بِالقِتالِ، وهو بَعِيدٌ؛ لِأنَّ تَرْكَ المُسافَهَةِ مَندُوبٌ، وإنْ كانَ القِتالُ واجِبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب