الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ ياأيُّها المَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي فَأوْقِدْ لِي ياهامانُ عَلى الطِّينِ فاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أطَّلِعُ إلى إلَهِ مُوسى وإنِّي لَأظُنُّهُ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿واسْتَكْبَرَ هو وجُنُودُهُ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وظَنُّوا أنَّهم إلَيْنا لا يُرْجَعُونَ﴾ ﴿فَأخَذْناهُ وجُنُودَهُ فَنَبَذْناهم في اليَمِّ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمِينَ﴾ ﴿وجَعَلْناهم أئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النّارِ ويَوْمَ القِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ﴾ ﴿وأتْبَعْناهم في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ويَوْمَ القِيامَةِ هم مِنَ المَقْبُوحِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ مِن بَعْدِ ما أهْلَكْنا القُرُونَ الأُولى بَصائِرَ لِلنّاسِ وهُدًى ورَحْمَةً لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ فِرْعَوْنَ كانَتْ عادَتُهُ مَتى ظَهَرَتْ حُجَّةُ مُوسى أنْ يَتَعَلَّقَ في دَفْعِ تِلْكَ الحجة بِشُبْهَةٍ يُرَوِّجُها عَلى أغْمارِ قَوْمِهُ، وذَكَرَ هَهُنا شُبْهَتَيْنِ: الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ وهَذا في الحَقِيقَةِ يَشْتَمِلُ عَلى كَلامَيْنِ: أحَدُهُما: نَفْيُ إلَهٍ غَيْرِهِ. والثّانِي: إثْباتُ إلَهِيَّةِ نَفْسِهِ. فَأمّا الأوَّلُ فَقَدْ كانَ اعْتِمادُهُ عَلى أنَّ ما لا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إثْباتُهُ، أمّا أنَّهُ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلِأنَّ هَذِهِ الكَواكِبَ والأفْلاكَ كافِيَةٌ في اخْتِلافِ أحْوالِ هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ، فَلا حاجَةَ إلى إثْباتِ صانِعٍ، وأمّا أنَّ ما لا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إثْباتُهُ، فالأمْرُ فِيهِ ظاهِرٌ. واعْلَمْ أنَّ المُقَدِّمَةَ الأُولى كاذِبَةٌ، فَإنّا لا نُسَلِّمُ أنَّهُ لا دَلِيلَ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ؛ وذَلِكَ لِأنّا إذا عَرَفْنا بِالدَّلِيلِ حُدُوثَ الأجْسامِ عَرَفْنا حُدُوثَ الأفْلاكِ والكَواكِبِ، وعَرَفْنا بِالضَّرُورَةِ أنَّ المُحْدَثَ لا بُدَّ لَهُ مِن مُحْدِثٍ فَحِينَئِذٍ (p-٢١٦)نَعْرِفُ بِالدَّلِيلِ أنَّ هَذا العالَمَ لَهُ صانِعٌ، والعَجَبُ أنَّ جَماعَةً اعْتَمَدُوا في نَفْيِ كَثِيرٍ مِنَ الأشْياءِ عَلى أنْ قالُوا: لا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ نَفْيُهُ، قالُوا: وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ لا دَلِيلَ لِأنّا بَحَثْنا وسَبَرْنا فَلَمْ نَجِدْ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَرَجَعَ حاصِلُ كَلامِهِمْ بَعْدَ التَّحْقِيقِ إلى أنَّ كُلَّ ما لا يُعَرَفُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وجَبَ نَفْيُهُ، وإنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقْطَعْ بِالنَّفْيِ، بَلْ قالَ: لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَلا أُثْبِتُهُ بَلْ أظُنُّهُ كاذِبًا في دَعْواهُ، فَفِرْعَوْنُ عَلى نِهايَةِ جَهْلِهِ أحْسَنُ حالًا مِن هَذا المُسْتَدِلِّ. أمّا الثّانِي: وهو إثْباتُهُ إلَهِيَّةَ نَفْسِهِ، فاعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ كانَ يَدَّعِي كَوْنَهُ خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ والبِحارِ والجِبالِ وخالِقًا لِذَواتِ النّاسَ وصِفاتِهِمْ، فَإنَّ العِلْمَ بِامْتِناعِ ذَلِكَ مِن أوائِلِ العُقُولِ، فالشَّكُّ فِيهِ يَقْتَضِي زَوالَ العَقْلِ، بَلِ الإلَهُ هو المَعْبُودُ فالرَّجُلُ كانَ يَنْفِي الصّانِعَ، ويَقُولُ: لا تَكْلِيفَ عَلى النّاسِ إلّا أنْ يُطِيعُوا مَلِكَهم ويَنْقادُوا لِأمْرِهِ، فَهَذا هو المُرادُ مِنَ ادِّعائِهِ الإلَهِيَّةَ لا ما ظَنَّهُ الجُمْهُورُ مِنَ ادِّعائِهِ كَوْنَهُ خالِقًا لِلسَّماءِ والأرْضِ، لا سِيَّما وقَدْ دَلَّلْنا في سُورَةِ طه في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿فَمَن رَبُّكُما يامُوسى﴾ [طه: ٤٩] عَلى أنَّهُ كانَ عارِفًا بِاللَّهِ تَعالى، وأنَّهُ كانَ يَقُولُ ذَلِكَ تَرْوِيجًا عَلى الأغْمارِ مِنَ النّاسِ. الشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَأوْقِدْ لِي ياهامانُ عَلى الطِّينِ فاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أطَّلِعُ إلى إلَهِ مُوسى وإنِّي لَأظُنُّهُ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ وهَهُنا أبْحاثٌ: الأوَّلُ: تَعَلَّقَتِ المُشَبِّهَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ في أنَّ اللَّهَ تَعالى في السَّماءِ، قالُوا: لَوْلا أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ دَعاهُ إلى ذَلِكَ لَما قالَ فِرْعَوْنُ هَذا القَوْلَ. والجَوابُ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ دَلَّ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ ولَمْ يَقُلْ هو الَّذِي في السَّماءِ دُونَ الأرْضِ، فَأُوهِمَ فِرْعَوْنُ أنَّهُ يَقُولُ: إنَّ إلَهَهُ في السَّماءِ، وذَلِكَ أيْضًا مِن خُبْثِ فِرْعَوْنَ ومَكْرِهِ ودَهائِهِ. الثّانِي: اخْتَلَفُوا في أنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ بَنى هَذا الصَّرْحَ ؟ فَقالَ قَوْمٌ: إنَّهُ بَناهُ، قالُوا: إنَّهُ لَمّا أمَرَ بِبِناءِ الصَّرْحِ، جَمَعَ هامانُ العُمّالَ حَتّى اجْتَمَعَ خَمْسُونَ ألْفَ بَنّاءٍ سِوى الأتْباعِ والأُجَراءِ، وأمَرَ بِطَبْخِ الآجُرِّ والجِصِّ ونَجْرِ الخَشَبِ وضَرْبِ المَسامِيرِ، فَشَيَّدُوهُ حَتّى بَلَغَ ما لَمْ يَبْلُغْهُ بُنْيانُ أحَدٍ مِنَ الخَلْقِ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَضَرَبَهُ بِجَناحِهِ فَقَطَعَهُ ثَلاثَ قِطَعٍ؛ قِطْعَةٌ وقَعَتْ عَلى عَسْكَرِ فِرْعَوْنَ، فَقَتَلَتْ ألْفَ ألْفَ رَجُلٍ، وقِطْعَةٌ وقَعَتْ في البَحْرِ، وقِطْعَةٌ في المَغْرِبِ، ولَمْ يَبْقَ أحَدٌ مِن عُمّالِهِ إلّا وقَدْ هَلَكَ، ويُرْوى في هَذِهِ القِصَّةِ أنَّ فِرْعَوْنَ ارْتَقى فَوْقَهُ ورَمى بِنُشّابَةٍ نَحْوَ السَّماءِ، فَأرادَ اللَّهُ أنْ يَفْتِنَهم، فَرُدَّتْ إلَيْهِمْ وهي مَلْطُوخَةٌ بِالدَّمِ، فَقالَ: قَدْ قَتَلْتُ إلَهَ مُوسى، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ تَعالى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِهَدْمِهِ. ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّهُ لَمْ يَبْنِ ذَلِكَ الصَّرْحَ؛ لِأنَّهُ يَبْعُدُ مِنَ العُقَلاءِ أنْ يَظُنُّوا أنَّهم بِصُعُودِ الصَّرْحِ يَقْرَبُونَ مِنَ السَّماءِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأنَّ مَن عَلى أعْلى الجِبالِ الشّاهِقَةِ يَرى السَّماءَ كَما كانَ يَراها حِينَ كانَ عَلى قَرارِ الأرْضِ، ومَن شَكَّ في ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ حَدِّ العَقْلِ، وهَكَذا القَوْلُ فِيما يُقالُ: مِن رَمْيِ السَّهْمِ إلى السَّماءِ ورُجُوعِهِ مُتَلَطِّخًا بِالدَّمِ، فَإنَّ كُلَّ مَن كانَ كامِلَ العَقْلِ يَعْلَمُ أنَّهُ لا يُمْكِنُهُ إيصالَ السَّهْمِ إلى السَّماءِ، وأنَّ مَن حاوَلَ ذَلِكَ كانَ مِنَ المَجانِينِ، فَلا يَلِيقُ بِالعَقْلِ والدِّينِ حَمْلُ القِصَّةِ الَّتِي حَكاها اللَّهُ تَعالى في القُرْآنِ عَلى مَحْمَلٍ يُعَرَفُ فَسادُهُ بِضَرُورَةِ العَقْلِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَشْرَعًا قَوِيًّا لِمَن أحَبَّ الطَّعْنَ في القُرْآنِ، فالأقْرَبُ أنَّهُ كانَ أُوهِمَ البِناءَ ولَمْ يَبِنِ، أوْ كانَ هَذا مِن تَتِمَّةِ قَوْلِهِ: ﴿ما عَلِمْتُ لَكم مِن إلَهٍ غَيْرِي﴾ يَعْنِي لا سَبِيلَ إلى إثْباتِهِ بِالدَّلِيلِ، فَإنَّ حَرَكاتِ الكَواكِبِ كافِيَةٌ في تَغَيُّرِ هَذا العالَمِ، ولا سَبِيلَ إلى إثْباتِهِ بِالحِسِّ، فَإنَّ الإحْساسَ بِهِ لا يُمْكِنُ إلّا بَعْدَ صُعُودِ السَّماءِ، وذَلِكَ مِمّا لا سَبِيلَ إلَيْهِ، ثم قال عِنْدَ ذَلِكَ لِهامانَ: ﴿ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ﴾ ﴿أسْبابَ السَّماواتِ﴾ [غافر: ٣٦] وإنَّما قالَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الأشْياءِ قَرَّرَ أنَّهُ لا دَلِيلَ عَلى الصّانِعِ، ثُمَّ إنَّهُ رَتَّبَ النَّتِيجَةَ عَلَيْهِ، فَقالَ: (p-٢١٧)﴿وإنِّي لَأظُنُّهُ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ فَهَذا التَّأْوِيلُ أوْلى مِمّا عَداهُ. الثّالِثُ: إنَّما قالَ: ﴿فَأوْقِدْ لِي ياهامانُ عَلى الطِّينِ﴾ ولَمْ يَقُلْ: اطْبُخْ لِي الآجُرَّ واتَّخِذْهُ؛ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن عَمِلَ الآجُرَّ فَهو يُعَلِّمُهُ الصَّنْعَةَ؛ ولِأنَّ هَذِهِ العِبارَةَ ألْيَقُ بِفَصاحَةِ القُرْآنِ وأشْبَهُ بِكَلامِ الجَبابِرَةِ، وأمَرَ هامانَ، وهو وزِيرُهُ بِالإيقادِ عَلى الطِّينِ، فَنادى بِاسْمِهِ بـِ (يا) في وسَطِ الكَلامِ دَلِيلٌ عَلى التَّعَظُّمِ والتَّجَبُّرِ، والطُّلُوعُ والِاطِّلاعُ الصُّعُودُ، يُقالُ: طَلَعَ الجَبَلَ واطَّلَعَ بِمَعْنًى واحِدٍ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿واسْتَكْبَرَ هو وجُنُودُهُ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ فاعْلَمْ أنَّ الِاسْتِكْبارَ بِالحَقِّ إنَّما هو لِلَّهِ تَعالى، وهو المُتَكَبِّرُ في الحَقِيقَةِ أيِ المُبالِغُ في كِبْرِياءِ الشَّأْنِ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيما حَكى عَنْ رَبِّهِ: ”«الكِبْرِياءُ رِدائِي والعَظْمَةُ إزارِي، فَمَن نازَعَنِي واحِدًا مِنهُما ألْقَيْتُهُ في النّارِ» “ وكُلُّ مُسْتَكْبِرٍ سِواهُ، فاسْتِكْبارُهُ بِغَيْرِ الحَقِّ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الجُبّائِيُّ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى ما أعْطاهُ المُلْكَ وإلّا لَكانَ ذَلِكَ بِحَقٍّ، وهَكَذا كُلُّ مُتَغَلِّبٍ، لا كَما ادَّعى مُلُوكُ بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَ تَغَلُّبِهِمْ أنَّ مُلْكَهم مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ بَيَّنَ في كُلِّ غاصِبٍ لِحُكْمِ اللَّهِ أنَّهُ أخَذَ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ، واعْلَمْ أنَّ هَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ وُصُولَ ذَلِكَ المُلْكِ إلَيْهِ، إمّا أنْ يَكُونَ مِنهُ أوْ مِنَ اللَّهِ تَعالى، أوْ لا مِنهُ ولا مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَإنْ كانَ مِنهُ، فَلِمَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَرُبَّما كانَ العاجِزُ أقْوى وأعْقَلَ بِكَثِيرٍ مِنَ المُتَوَلِّي لِلْأمْرِ ؟ وإنْ كانَ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَقَدْ صَحَّ الغَرَضُ، وإنْ كانَ مِن سائِرِ النّاسِ، فَلِمَ اجْتَمَعَتْ دَواعِي النّاسِ عَلى نُصْرَةِ أحَدِهِما وخِذْلانِ الآخَرِ ؟ واعْلَمْ أنَّ هَذا أظْهَرُ مِن أنْ يَرْتابَ فِيهِ العاقِلُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب